ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
في ليلة من ليالي شهر فبراير 1987، كان الطقس باردًا في قرية كفر كيلا، جنوب لبنان المحتلة، وها هي حياة جمعة تجمع البطاطا في الوقت الذي يعرف منزلها حركة غير عادية، فمنذ ساعات علمت أنها أصبحت “أم شهيد”، وأن جثمان ابنها محمد، الذي شارك في الهجوم المميت في كفر تبنيت ضد الجيش الإسرائيلي، لم يتم العثور عليه بعد.
حياة 67 عامًا وعبد الله 70 عامًا لم ينسيا شيئًا من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في ثمانينات القرن الماضي: التصاريح اللازمة لمغادرة المنطقة، التفتيش الليلي للمنازل من قِبل الميليشيات الموالية لإسرائيل، أصداء المقاومة ضد الجيش الإسرائيلي وحلفائه، ولكن بالنسبة لهذين الزوجين والأبوين لثمانية أطفال، فإن هذه الفترة تحمل معها مأساة عائلية، فقد فقدا اثنين من أبنائهما كما عرفا السجن والإذلال.
كل يوم عندما تذهب حياة وعبد الله جمعة للجلوس في غرفة المعيشة الصغيرة الموجودة بالطابق الأرضي والتي تطل على ممر برج البراجنة في ضاحية بيروت، ينظران إلى الصور المعلقة على الحائط لأبنائهما المتوفين: علي الذي قُتل في انفجار لغم سنة 1984 في منطقة مليئة بالعبوات الناسفة، وكان يبلغ من العمر 15 سنة، وابنهما البكر محمد، الذي أراد أن ينتقم لأخيه ليختفي خلال عملية ضد موقع إسرائيلي في عام 1987 وكان وقتها يبلغ من العمر 20 عامًا، وبعدهما توفي محمود، الجندي، والذي مات في حادث سنة 1996.
هذه الصور تذكر حياة وعبد الله جمعة بآلامهما، كما أن هناك تواريخ لا يمكن مسحهما من ذاكرتهما، مثل يوم 25 مايو وهو يوم عطلة في لبنان، الذي يصادف نهاية الاحتلال الإسرائيلي (1978 – 2000)، في هذا اليوم ينظم حزب الله، الذي قاد معركة طويلة ضد الجيش الإسرائيلي، ما أكسبه شعبية كبيرة بعيدًا عن الانقسامات حول تدخله اليوم في سوريا، احتفالات سنوية بهذه المناسبة، وتعلق في جنوب لبنان صور الشهداء الذين ناضلوا ضد إسرائيل على طول الطرق.
عجلات
تعبّر حياة جمعة، غير المهتمة بالشأن السياسي، عن أسفها بسبب مغادرتها ليبيا سنة 1982، بعد أن هاجرت إليها العائلة قبل عشر سنوات لأسباب اقتصادية، وكان جنوب لبنان في سبعينات القرن الماضي مهملاً من قِبل الحكومة المركزية، بعد أن أصبح نقطة انطلاق للكفاح المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل، ومثل بقية البلاد، دخل جنوب لبنان الحرب سنة 1975، وعندما تتذكر حياة جمعة تلك الأيام، تعرب عن أسفها بسبب العودة إلى مسقط رأسها أيام الاحتلال.
عند عودة عائلة جمعة إلى لبنان، بدأ الاجتياح الإسرائيلي الثاني، فقد تقدمت القوات حتى بيروت، لمحاربة ياسر عرفات والفدائيين، وفي هذه العملية، وسّع الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان من محيط “المنطقة الآمنة” التي أُنشئت خلال التوغل الأول سنة 1978 بالرغم من قرار مجلس الأمن 425 الذي يدعو إلى سحب إسرائيل لقواتها، إلا أن إسرائيل لم تلتزم بهذا القرار واعتمدت على عناصر الميليشيات اللبنانية الموالية لها، وكانت كفر كيلا، القريبة من الحدود، جزء من “المنطقة الأمنية” منذ عام 1978، وكان عبد الله جمعة يعبر الحدود كل صباح ليعمل في قطاع البناء في لبنان.
في كفر كيلا، التقى الزوجان أحمد عبد الجليل شيت، وهو الرجل الذي تعرفا عليه في ليبيا، وكان صديقهما قبل أن يصبح عدوهما اللدود، فقد انضم إلى الميليشيات الموالية لإسرائيل وأصبح رئيسًا للأمن في القرية، ولديه القدرة على إدخال الناس للسجن، وقد رفض الناس أن ينقل رفاته إلى كفر كيلا بعد وفاته عام 2005 في إسرائيل.
بالنسبة لحياة جمعة، فقد بدأت الدراما صباح يوم عادي من سنة 1984؛ كانت نائمة عندما قرع طفل من القرية بابها وقال لها إن ابنها علي مات بعد أن داس على لغم وهو يجري بين أشجار الزيتون بالقرب من الحدود، ولعدة أشهر كان الأخ الأكبر محمد، يستيقظ مفزوعًا، فكان يشعر بالذنب ويتحدث عن الانتقام، وكانت أمه حياة تهدئ من روعه قائلة له: “سوف تتزوج، وسوف تعطي ابنك اسم أخيك”، إلا أن محمد كان يظهر عدائه للاحتلال الإسرائيلي، ما جعل أحمد عبد الجليل شيت يرصده ويهدده.
وكلما تتحدث حياة عن تلك الفترة، كان زوجها عبد الله يذكرها في بعض الأحيان بالتفاصيل والتواريخ وهو يتابع كل كلمة من قصة حياتهما، عبد الله الذي سُجن ما يقرب من ثلاث سنوات في الخيام، وهو سجن تديره ميليشيا موالية لإسرائيل، وهناك عاش الحبس والتعذيب، من دون السماح له بالاتصال بعائلته أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي كانت تتفاوض لمدة عشر سنوات مع إسرائيل من أجل حق الدخول إلى سجن الخيام لتحصل عليه أخيرًا في عام 1995.
وخرج عبد الله جمعة مكسورًا من حبسه، فهو لم يواجه أبدًا الاحتلال، لكنه دفع ثمن عداء ابنه محمد لإسرائيل بعد الهجوم على كفر تبنيت، فقد كانت الميليشيات الموالية لإسرائيل تضغط على أقارب الشهداء من الرجال والنساء وتعاقبهم بالسجن في خلايا الخيام بين عامي 1985 و2000.
وتؤكد صفية 37 عامًا، شقيقة محمد، أن أخاها لم يكن يدافع على قضية سياسية، ولم يكن منجذبًا للقوة الصاعدة وقتها في الجنوب وهي حزب الله الإسلامي الذي أُنشئ كردة فعل على الاجتياح الإسرائيلي، ولا من قِبل ميليشيا حركة أمل المنافسة أو للمتشددين الشيوعيين الذين كانوا من أوائل المقاومين لإسرائيل، فبعد تدريبه من بعض رفاقه، فكر محمد في الانضمام إلى ميليشيا أمل للانتقام لشقيقه، وكانت جهود والديه لثنيه غير ناجحة.
بلد فاقد للذاكرة
عندما علمت حياة بوفاة ابنها البكر، كانت ترغب في احتضان رفاته، فبدأت تتصل بالأقارب الذين ينشطون سياسيًا وبقادة الميليشيات والزعماء السياسيين، وقال أحمد عبد الجليل شيت، صديق ليبيا السابق، لزوجها عبد الله وهو في السجن، أن محمد على قيد الحياة وهو مسجون في إسرائيل، لكن اسمه لم يظهر في قوائم اللجنة الدولية للسجناء التي تلعب دورًا رئيسًا في جنوب لبنان لتحديد المعتقلين أو القتلى، في عام 2008، خلال تبادل السجناء والرفات مع حزب الله، أعلنت إسرائيل أنه لم يعد هناك لبنانيين في سجونها. وبقيت عائلة جمعة تعتقد أن محمد مازال يعيش في “سجن إسرائيلي غير شرعي”، حتى لو أنهم لا يؤمنون بهذا الاعتقاد.
في بيت برج البراجنة، أين يأتي أحفاد حياة وعبد الله جمعة لزيارتهما، لدى صفية ملفًا محفوظًا بعناية على الرف فيه وثائق حول “المختفين” في الحرب اللبنانية، هذا الملف الذي سلمه إياها فريق من اللجنة الدولية للسجناء خلال مقابلة أُجريت معها مؤخرًا، فقد قامت هذه المنظمة بمهمة شاقة تتمثل في جمع قصص أسر الآلاف من الأشخاص الذين هم اليوم في عداد المفقودين في الإقليم، وتعتزم اللجنة الدولية أيضًا مساعدة الشرطة من خلال إنشاء بنك للحمض النووي مع العينات المأخوذة من أقارب المختفين والتي سيتم استخدامها في وقت لاحق بعد السماح باستخراج الجثث من المقابر الجماعية، هذا المشروع الرائد يحيي الأمل لدى عائلة جمعة لمعرفة ما حدث لمحمد، ولكن قبل بداية جمع الحمض النووي، لم تبق إلا موافقة الحكومة، المتوقعة قريبًا.
وسبق وأن تلقت حياة جمعة “قطعة من عظام” ابنها، كما قامت باختبار الحمض النووي في عام 2008 للتعرف على بقايا الرفات التي سلمتها إسرائيل لحزب الله، ولكن لم تكن جثة محمد من بين الرفات، وقالت صفية إنه “في تبادل للرفات، تم التعرف على رفات صديق محمد المتورط معه في عملية كفر تبنيت من خلال حذائه، ولكن لم يكن هناك اختبار الحمض النووي في ذلك الوقت ودفنت 45 جثة مجهولة الهوية في الضاحية الجنوبية، وقد يكون أخي من بين القتلى”.
في عام 2004، تركت صفية قرية كفر كيلا مع والديها، متجهة إلى ضواحي بيروت، وتعيش شقيقاتها الثلاث وشقيقها أيضًا في العاصمة، وبعد أن وجدت وظيفة، بدأت الأسرة تشعر ببعض الاستقرار، لكن حرب الجنوب عاودت من جديد سنة 2006، وعاشت العائلة قصف مطار بيروت القريب من بيتها، من قِبل الطائرات الإسرائيلية في أعقاب اختطاف جنديين إسرائيليين من قِبل حزب الله على الحدود، ليستمر الصراع 33 يومًا.
وتعود صفية ووالديها بانتظام إلى القرية مرورًا “ببوابة فاطمة”، واحد من الممرات التي من خلالها انسحب الإسرائيليون من الجنوب في عام 2000، ولكن على الحدود، نرى اليوم جدارًا طويلاً نصبته إسرائيل سنة 2012 لحماية مستوطناتها من هجوم حزب الله، ولا تنتظر صفية إلا شيء واحد وهو رؤية والديها يجدان الراحة عند دفن أخيها محمد بالقرب من علي الذي كان يريد الانتقام له، في مقبرة كفر كيلا، في قلب منطقة تعيش دومًا خطر اندلاع نزاع جديد بين حزب الله وإسرائيل.
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية