لم يكن من الصعب الوصول إلى ذلك المبنى في أرقى مناطق الأعمال في إسطنبول، يمكنك أن تدلف من المدخل الكبير، قبل أن يصادفك أمن العقار، المكون من خمسة طوابق فحسب، سيسألونك أي شركة تريد، وستلمح ابتسامة خفيفة لدى رجل الأمن حين تخبره بأنك تريد الصعود إلى مقر حزب العدالة والتنمية.
عندما صعدنا إلي الطابق الخامس، كان من الصعب ألا نلاحظ الكلمات المكتوبة باللونين الأزرق والبرتقالي على حائط الممر المؤدي إلى المكتب، كانت كلمات تركية تقول “إنهم يقولون، والعدالة والتنمية يفعل”، وعندما دخلنا إلى المكتب كان المشهد يبدو كما لو كان خلية نحل صامتة.
عشرات الأشخاص يعملون في الطابق الواسع، فتيات وشباب متناثرون على حواسيبهم، يمكنك أن تلحظ فتاتين غير محجبتين تتهامسان على طاولة ما أمام حاسوب لوحي، أو شاب بوشم على ذراعه يتحرك بسرعة بين مكتبين، وبعض الشباب ذوي اللحى الخفيفة يكتبون بحماس على لوحات المفاتيح، الجميع يبدون منهمكين حتى آذانهم في العمل، لكن إذا اقتربت من إحدى الشاشات التي يعمل عليها أحدهم، قد تفاجأ بصفحة على فيسبوك، أو حساب على تويتر، أو تجده يشاهد فيديو على يوتيوب، في الحقيقة هذا ما يفعله هؤلاء الشباب، كنا نتابع الشباب حينما جاء جوكهان قائلًا: مرحبا بك في المكتب الرقمي للعدالة والتنمية.
جوكهان يدير أهم مكاتب التواصل لدى الحزب الحاكم والمسؤول عن الانتخابات، المقرر عقدها في السابع من يونيو القادم، يبدو في منتصف الثلاثينات من عمره، جوكهان لديه سيرة ذاتية مثيرة للإعجاب، فالشاب الذي درس الصحافة في جامعة مرمرة في إسطنبول، عمل كمستشار في الخارجية التركية، وتخصص في العلوم السياسية حين درس في جامعة أوكسفورد ببريطانيا، التي عاش بها 10 سنوات، قبل أن يدرس لفترة قصيرة في جامعة هارفارد، ويصف نفسه بأنه صحفي بالمهنة.
يعمل جوكهان منذ 7 أشهر في الشركة التي تدير دعاية حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه قبل 13 عامًا، والتي يملكها صديق مقرب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طبيعة عمل جوكهان تشمل الكثير، فقد بدأ عمله على الحملة الانتخابية قبل أشهر من تأسيس المكتب الرقمي، حيث قاموا بإصدار دليل انتخابي لاستخدام السوشال ميديا لكل العاملين في الحملة والمشاركين فيها، بدءًا من المتطوعين وانتهاءً بالمرشحين، لكن أهم جزء في عمله كان تأسيس المكتب الرقمي في الأول من مايو، وهو مكتب يضم 180 شخصًا، وعددًا قليلًا ممن يعملون خارج المكتب، فالعمل مستمر 24 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع، لحين يوم الانتخابات، المكتب يشرف عليه بشير أتالاي، وزير الداخلية الأسبق، ونائب رئيس الوزراء خلال حكومة أردوغان بين 2011 و2014.
“يمكنك أن تجد 90 شخصًا على الأقل في المكتب في أي ساعة من ليل أو نهار”، يقول جوكهان، ويتابع “هناك 4 فرق تعمل بشكل مستمر، كل فريق يضم حوالي 45 شخصًا”، إحدى المجموعات تختص بإدارة المحتوى الذي يتم نشره بشكل مركزي أو في المحافظات المختلفة على مواقع التواصل، والثانية مسؤولة عن الرصد بكافة أشكاله، حيث يتم رصد الدعايا المضادة للحزب، والقضايا التي يهتم بها مستخدمو تلك المواقع، والمجموعة الثالثة تُسمى “سفراء الانتخابات”، وهي المسؤولة عن التواصل مع المرشحين، وإيصال ردود الأفعال من الأرض إلى العالم الافتراضي والعكس، أما الأخيرة فيتعلق عملها بالتفاعل مع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من الأتراك، والدخول في نقاشات تتعلق بالقضايا المحورية التي تهم الناخب التركي.
الوضع الاقتصادي يأتي على رأس القضايا المحورية التي تهم الأتراك، كذلك القضية الكردية ومسارات السلام مع أكراد تركيا، ولذلك فقد تم توظيف فريق من الأكراد كي يساهموا في مخاطبة أكراد تركيا بلهجاتهم المتعددة، كذلك يهتم الكثيرون بالتعديلات الدستورية الجذرية التي يريد العدالة والتنمية تمريرها خلال البرلمان القادم، الناخبون أيضًا يفكرون في الضمان الاجتماعي، الرعاية الصحية، المواصلات، والتعليم، أما قضايا العلاقات الخارجية مثل القضية السورية أو العلاقات بمصر بعد الانقلاب العسكري أو ما يتعلق بالربيع العربي فهي، حسب جوكهان، لا تشغل بال الكثير من الناخبين كما قد يبدو للوهلة الأولى.
أطلق المكتب الرقمي موقعًا على الإنترنت، يمكن لمرشحي الحزب والناخبين أن يعرفوا كل ما يتعلق بالحزب وبمرشحيهم، يمكنك مشاهدة الدعايا الانتخابية، فالمكتب ينتج العديد من المنتجات الدعائية لحزب العدالة والتنمية، بداية من الفيديوهات التي وصل عددها إلى 100 فيديو يبلغ متوسط كل واحد منها حوالي 90 ثانية، والاستماع إلى الأغنيات الحماسية التي تتميز بها الانتخابات في تركيا، وحتى تحميل برامج الحزب والمرشحين.
ومن ناحية أخرى يدير المكتب صفحات الحزب وحساباته على تويتر وإنستغرام ويوتيوب وفيسبوك، كما يدير الصفحة الرسمية لرئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو على فيسبوك، ويقدم نصائح لمكتبه حول كيفية التعامل مع الإعلام، كما يقدم الدعم التقني والمحتوى لصفحات المرشحين الآخرين، وللمواقع المحلية لمرشحي الحزب.
الوضع السياسي في تركيا كان قد شهد توترات خلال العامين الماضيين، هذا يظهر كثيرًا خلال الهجمات التي يتعرض لها الحزب على الإنترنت، حيث عادة ما يهاجم الحزب أفراد من المعارضة أو من حركة فتح الله غولن، والتي يطلق عليها الحزب والإعلام الرسمي التركي “الكيان الموازي”، لكن جوكهان يعتقد أن تأثيرهم قد انتهى تمامًا في البلاد، حيث لم يعودوا قادرين على التأثير في الناخبين الأتراك.
الهجمات التي تتعرض لها منصات الحزب المختلفة غالبًا ما تكون باستخدام حسابات تواصل وهمية، وباستخدام طرق برمجية لا تعبر بطبيعة الحال عن الواقع على الأرض، حيث لا تكون في معظمها نابعة من الناخبين بالفعل، وهذا يظهر في التفاعل الكبير مع الحزب من قِبل الشباب الأتراك في مواقع التواصل.
الإستراتيجية التي يتبناها المكتب الرقمي يمكن صياغتها في الهاشتاج الذي حقق أكثر من 1.5 مليون تغريدة قبل أسابيع، والذي كان مكتوبًا عند مدخل المكتب “إنهم يقولون، ونحن نفعل”، لا يعتمد حزب العدالة والتنمية على مهاجمة خصومه من الأحزاب الأخرى غالبًا، يتبنون حملة إيجابية لأنهم “مشغولون بالإعلان عن المشروعات التي تنتظرها تركيا من الحزب”؛ الحزب كان قد أعلن عن أكثر من 100 مشروع قيد الإنشاء في تركيا، بالإضافة إلى أنه يحمل في جعبته 13 عامًا من الإنجازات على مستوى الاقتصاد والصحة وحتى الإصلاح السياسي.
لكن بعض المشكلات التي يواجهها الحزب تتعلق بالنظام الانتخابي الحالي، والذي ينتقده الكثيرون بسبب تفضيله للأحزاب الكبرى، حيث لا يسمح النظام الانتخابي الحالي للأحزاب بدخول البرلمان إلا بعد الحصول على 10% من مجموع الأصوات في كل تركيا، وهو ما يمنع عددًا من الأحزاب الأصغر من التمثيل في البرلمان، لكن جوكهان يقول إن النقاش حول هذا الأمر محدود على منصات التواصل.
طريقة تأسيس الجيوش الإلكترونية الصغيرة تلك نُفذت أكثر من مرة في السابق، فقد برعت فيها الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي باراك أوباما، وكذلك استخدمها بشكل فعال جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء الحرب الأخيرة على غزة، ويُعتقد أنه يستخدمها بشكل دائم، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تنفذ فيها في المنطقة بمثل هذا الشكل، أو بهذه الاحترافية.