في 15 أبريل الماضي، قرأ رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو وثيقة تُسمّى “وثيقة تركيا الجديدة” وهي ملخص برنامج الحزب للفترة الانتخابية القادمة، والتي يسعى للبقاء فيها على رأس السلطة كما هو متوقع بعد انتخابات السابع من يونيو، بيد أن الوثيقة، والتي تضم مجموعة من المبادئ والأفكار العامة على عكس التفصيل الذي عُرفَت به برامج الحزب، هي في الحقيقة إشارة لطبيعة الدستور الذي سيكتبه الحزب بعد فوزه، ونوع من أنواع الإعلان المسبق عن نوايا الحزب لـ”تركيا الجديدة”، والتي ستتمم، كما تطمح قيادات الحزب، التحوّل لجمهورية تتجاوز بالكامل النظام السياسي القديم.
تتكون الوثيقة من مائة مادة يسعى الحزب لأن تكون هي القواعد المؤسسة للجمهورية الجديدة، والتي ستحتفل بذكرى مرور مائة عام على تأسيسها عام 2023، وسيكون دستورها الجديد الذي يريد الحزب كتابته بعد الحصول على تفويض شعبي عبر صناديق الانتخابات، أول دستور تتم كتابته بناءً على نتائج استحقاق انتخابي، على عكس دستوري 1982 و1961 اللذين كتبا في أعقاب انقلابي 1980 و1960، ودستور 1921 الذي وضعه مؤسسو الجمهورية استنادًا لشرعيتهم الجديدة المكتسبة من الانتصار في حرب الاستقلال.
الجمهورية للجميع: ما بعد القومية والنُخبوية
يلفت النظر في الوثيقة غياب أي ذكر لكلمة “تركي”، والتركيز على تركيا كبلد يضم في ثناياه مجموعة من البشر متعددي الجنسيات والأعراق والمذاهب، وكذلك على فكرة الإنسان، كما تشير المادة السادسة في الوثيقة، والتي تنص على أن “المبدأ الأساسي للجمهورية التركية هو حماية كرامة الإنسان” ، وكذلك المادة 11، والتي تقول أنه “لا يُسمَح لأي منصب أن يحتقر من يحمل هوية الجمهورية التركية.. على أساس دينه أو لونه أو جنسيته أو لغته أو عرقه أو توجهه السياسي،” وهو تحوّل نحو جمهورية “ما بعد قومية” إن جاز القول، ويهدف بالأساس إلى حل المسألة الكردية بشكل نهائي عبر تدشين المساواة الفعلية بين الأعراق في تركيا في الدستور.
العرب أثناء حروب العثمانيين في ليبيا عام 1911
يشي ذلك المنظور الجديد، ليس فقط بمحاولة ضم الأكراد كمواطنين على قدم المساواة مع الأتراك، ولكن لكسر احتكار النخبة السابقة لفكرة الجمهورية، والتي لم تكن تركية فقط، بل وكانت علمانية وغربية التوجّه، وهي نخبة فقدت الكثير من مميزاتها على مدار العقود الماضية بالطبع، ولصالح الشرائح المحافظة الصاعدة بشكل أساسي، والتي عانت مثلها مثل الأكراد من التهميش، وإن كان على أساس التوجه السياسي والثقافي وليس على أساس العرق، وهو ما تشير له المادة 21، والتي تنص على أن الدستور الجديد سيرتكز لكرامة الإنسان كمرجعية، وسيُبنى على قيم العدالة والحرية و”التعددية”.
لا يدلل على ذلك التوجه نحو “انفتاح” الجمهورية على كافة أبنائها أكثر من المادة الخامسة، والتي تشير إلى أن حرب الاستقلال، والتي استندت لها شرعية الجمهورية القديمة في تدشين القومية التركية والأيديولوجية العلمانية، قامت بمجموعات من مناطق مختلفة مثل الشرق الأوسط والقوقاز، وبدعم من شعوب أخرى في آسيا الوسطى والهند، وأنها “لم تكن بالنسبة لمن قاموا بها حرب بقاء لأمة بعينها، وإنما نضالًا مقدسًا من أجل كرامة البشرية،” وهي رواية تعززها بالطبع حوادث تاريخية عدة، ولكن تدشينها بهذا الشكل في الوثيقة يضرب تمامًا الرواية القومية، والتي تعتبر حرب الاستقلال نضالًا تركيًا صِرفًا.
تعزز تلك المبادئ الجديدة مرة أخرى المادة الثالثة، والتي تشير إلى أن ورثة الجمهورية التركية اليوم هم أحفاد من أسسوا الجمهورية إثر “حرب استقلال مشرفة على أعقاب الآلام التي شهدتها كل من طرابلس ليبيا والبلقان،” وأنهم “الأصحاب الحقيقيين لهذا البلد،” في إشارة إلى الطبيعة التعددية لآباء الجمهورية والنضال الذي تمخضّت عنه، على عكس الرواية القومية القديمة، وأيضًا إلى رغبة الجمهورية الجديدة في توسيع نطاق المنتمين لها، ليشمل أولًا الأكراد والمحافظين من الأتراك ممن تم تهميشهم لسنوات، وكذلك ليشمل غيرهم في المنطقة من العرب والمسلمين والذين تطمح تركيا إلى تعزيز روابطها بهم.
الجمهورية الفعالة: من الهامش إلى المركز
لا تزال تركيا متمسكة بحلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي رغم كل شيء، أو على أقل تقدير تحقيق علاقة خاصة بينها وبين أوروبا على غرار بريطانيا، وهو ما تشير له صراحة المادة 87 والتي تؤكد على استمرار هدف عضوية الاتحاد في تركيا الجديدة، بيد أنه ليس الهدف الوحيد، كما كان الحال مع النُظُم التركية السابقة، حيث تشير المادة 89 بوضوح لدور تركيا في “مجالاتها الاستراتيجية،” والتي تضم الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز، وهو تحوّل يقلب رأسًا على عقب العقيدة القديمة لجمهورية أتاتورك، والتي ارتكزت للعُزلة والتركيز على اللحاق بالغرب.
بالإضافة إلى ذلك، تشير المادة 90 إلى تعزيز جهود الانفتاح على آسيا وأفريقيا، كما تشير المادة 91 إلى تعزيز دور “الدعم الإنساني” في السياسية الخارجية التركية، وهو ما يشي برغبة تركيا في توسيع دورها الدولي على المستوى الإنساني، كما حاولت على مدار العقد المنصرم عن طريق استيعاب اللاجئين السوريين، وريادة الحملات الإغاثية لغزة والصومال، وغيرها، وهو نتاج لعدم اقتصار رؤيتها الخارجية على المصالح الاستراتيجية لها، بل واشتمالها على “المنظور الأخلاقي”، كما تقول المادة 84.
أيضًا، تشير المادتان 78 و79 إلى المركزية التي تحظى بها تركيا عالميًا نتيجة لموقعها، وأهمية تعزيز ذلك لتصبح معقلًا لنقل الطاقة الحديثة، كما كانت في السابق لاعبًا أساسيًا في طريق الحرير، وهو ما يعني ببساطة تدشين لفعالية تركيا في على المستوى الخارجي، ليس في دوائرها الاستراتيجية التي أهملتها لعقود، ولا على المستوى الإنساني والأخلاقي فحسب، ولكن على المستوى التجاري والاقتصادي الدولي، والذي تطمح به تركيا للعب دور يتجاوز طموحها الإقليمي الذي انطلق مع حزب العدالة عام 2002، والاتجاه نحو خلق دور دولي بذاته بالنظر لكونها واحدة من أهم 20 اقتصادًا في العالم.
الجمهورية الجديدة: النظام الرئاسي وأولوية الصندوق
بطبيعة الحال، تفصّل الوثيقة في تناولها للنظام التركي الجديد، فهي تذكر بوضوح في المادة 48 أن كتابة الدستور الجديد ستكون المهمة الأولى للبرلمان التركي المنتخب (حال فاز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية التي يطمح لها)، وهي تشير صراحة لرغبة الحزب في التحول نحو النظام الرئاسي في المادة 58، وكذلك التحولات المؤسسية والإدارية التي سيخلقها الدستور، وسيقوم الحزب بها، بموجب هذا التغيير في الدستور الجديد، وهو ما يرد في المواد من 55 إلى 60.
تشدد الوثيقة في المادتين 62 و63، والمادة 38، على سلطة الانتخابات وضرورة التزام القوة التنفيذية بالإرادة الشعبية، وهي تشير إلى الحادثة التي وقعت عام 1947 في مرسين حين وقفت النساء مدافعات عن صناديق الاقتراع بوجه محاولات التزوير، والتي كانت جارية آنذاك من جانب النظام القديم، وهي إشارة تضرب عصفورين بحجر، فعلى المستوى التاريخي هي ترسيخ وتكريم للنضال الطويل من جانب الشرائح المهمشة بوجه الاستبداد العسكري والعلماني، كما تشي المادة 37 والتي تدين صراحة كل الانقلابات التي قامت في السابق، وتضرب في نفس الوقت أي محاولات للالتفاف على الإرادة الشعبية، أو هكذا تسميها الحكومة، في إشارة لحركة كولن و”الدولة الموازية” التي يقول الحزب أنها خلقتها داخل الدولة التركية، وهو ما تذكره صراحة المادتان 64 و51.
أيضًا، لا تذكر الوثيقة أي سمات أيديولوجية للنظام الجديد، في خلاف واضح مع الجمهورية القديمة التي اتخذت من العلمانية أساسًا لها، وهي تذكر مقاصد الشريعة من حماية النفس والعقل والنسل والمال (دون أن تذكر حماية الدين) بشكل واضح في المادة 23 دون ذكر للدين الإسلامي، وهو ما تعتبره جزءًا من الإرث “السلجوقي والعثماني” الذي يرد في المادة 17، وهو الإرث الذي تذكره الوثيقة، ليس فقط للتدليل على ماضي تركيا “التعددي” ثقافيًا، ولكن على طبيعته الإسلامية بالطبع، وإن لم تكن تلك السمة “الإسلامية” أيديولوجية بأي حال كما الحال مع تيارات الإسلام السياسي، وهو ما يعزز أولوية الصندوق على حساب أي عامل أيديولوجي، حيث كانت حُجة “تقويض” مبادئ الجمهورية في السابق سببًا كافيًا للانقلاب على السلطة التنفيذية المنتخبة.