حين يقترب الموسم الكروي من نهايته في شهري أبريل ومايو، تصبح المنافسة على أشدها ويصل الحماس والشغف الجماهيري لذروته ويحمل الجو شحنات كهربائية تتلقاها أجساد المولعين بكرة القدم وخاصة الموجودين في قلب الأحداث، لذلك عادة ما تتركز الحوادث التي تقع في ملاعب كرة القدم في تلك الفترة من العام.
ولعل من بين أبرز الحوادث التي حدثت في تلك الفترة وأثرت على أوروبا تأثيرًا كبيرًا في كيفية إدارة المناسبات الرياضية حادثتي “هيسلي” و”هيلزبروه”، فالأولى تطل علينا بذكراها الـ 30 هذا الأسبوع وهي التي أدت إلى وفاة 39 مشجعًا وإصابة 600 آخرون، وخلفت أثرًا كبيرًا في أذهان متابعي كرة القدم في العالم، حيث كان الحدث هو مباراة نهائية لكأس أوروبا للأندية بين بطلين من العيار الثقيل آنذاك؛ “يوفنتوس” و”ليفربول”، أما الثانية فكانت في نصف نهائي كأس إنجلترا ومات بها 96 مشجعًا وأصيب 766 آخرون.
إذا نظرنا إلى أسباب كلتا الحادثتين نجد أن الأولى تسبب بها ركض مشجعي فريق ليفربول إلى مدرجات الفريق الخصم واقتحامها، والثانية كان سببها تكدس المشجعين في مدرج بعدما فقدت قوات الشرطة السيطرة على كم هائل من الجمهور جاء ليحضر المباراة وكان من بينهم كم كبير لا يحمل التذاكر، و لعل تلك الأسباب لا تبدو غريبة على الأذن لأنها تشبه كثيرًا أو تكاد تنطبق مع أسباب الحادثتين الكبيرتين التي حدثتا في مصر، “بورسعيد” و”الدفاع الجوي”.
والجدير بالذكر أن بعد حادثة هيسلي مباشرة ألقى الجميع المسؤولية على جمهور ليفربول، ولكن بعد إصدار الملف الأخير من قِبل السلطات القضائية البلجيكية بعد 18 شهرًا من التحقيقات، حمّلت التحقيقات جزءًا من المسؤولية على القوات المنظمة للمباراة آنذاك، وذلك دون إغفال حالة المنشأ المقام به المباراة ودوره في حدوث الكارثة.
أما هيلزبروه فقد أتى نهاية نص التحقيقات كالآتي” السبب الرئيس للكارثة هو فشل قوات الشرطة المنظمة في السيطرة على الحشد”.
العنف في كرة القدم
عند دراسة العوامل النفسية التي تؤدي إلى العنف في اللعبة التي كانت بالأساس للترفيه والتريض، نجد أن هناك قابلية للحشود بأن يتم سحبها للعنف بناءً على الظروف المحيطة وردود الأفعال العاطفية التي تصاحب الطبيعة التنافسية للعبة.
أضف إلى ذلك الحالة التي من الممكن أن تصل إليها الحشود تحت الضغوط النفسية والفسيولوجية “psychophysiological state” في بعض الأحداث حين تصل كثافة الجماهير إلى الحد الأقصى، فعندما تصل تلك الكثافة إلى 7 أفراد في المتر المربع يفقد الفرد السيطرة تمامًا على نفسه وتتحول تلك الكتلة من الجماهير إلى سائل تنتقل خلاله الصدمات بسهولة تامة مما قد يؤدي إلى كوارث إنسانية إذا لم يتم وضع معايير معينة لتوجيه تدفق الجماهير وفقًا لعلم التحكم بالحشود المسمى بالـ “crowd control”.
صحوة أوروبية
أدرك الجميع في أوروبا بأن هناك مشكلة يجب عليهم دراستها وحلها، وبعد حادثة هيسل تنبه الجميع فجأة بضرورة التحرك الفوري لأخذ تدابير صارمة وملزمة للحد من العنف.
اجتمع مجلس أوروبا – الذي كان قد ناقش وأصدر توصيات بخصوص نفس الشأن في السبعينيات من قبل – بعد الحادثة وقامت الدول الأعضاء بتوقيع اتفاقية للحد من العنف في الرياضة وسرعان ما دخلت تلك الاتفاقية حيز التنفيذ قبل نهاية العام.
أصبح على كل الدول الموقعة على تلك الاتفاقية أن تقوم بالبدء في اتخاذ إجراءات عملية لوقف العنف في الأحداث الرياضية عن طريق إصدار قوانين تنظم كيفية إدارتها وتكييف المنشآت الرياضية لتكون أكثر أمنًا وحفاظًا على سلامة الجماهير، والقيام بعمل حملات توعية مجتمعية بقواعد اللعب النظيف ونبذ العنف.
مجموعات التشجيع الأوروبية
تختلف طبيعة وتكوين مجموعات التشجيع الأوروبية بمختلف مسمياتها (أولتراس/ هوليجانز/ كلاكي) عن نظيرتها الموجودة في الوطن العربي، فتختلف الشريحة السنية للأفراد في أوروبا (30 – 40 سنة) عن الشريحة السنية في الوطن العربي، حيث الأفراد من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 – 25 سنة ويلتحق أغلبهم بالمدارس والجامعات، بينما تحتوي بعض المجموعات الأوروبية مثل الهوليجانز على بعض من أصحاب السوابق الإجرامية والخارجين عن القانون.
التجربة البرتغالية
تحتوي البرتغال على مجموعات من المشجعين تسمى “الكلاكي – Claque”، وإذا تمت مقارنة مجموعات أوروبا بمجموعات الأولتراس الموجودة في الوطن العربي حاليًا فستكون طبيعة الكلاكي هي الأقرب لها، فهي تبتعد عن طبيعة الهوليجانز الإنجليزية ذوي الميول التخريبية والتي تتسم أنشطتهم بالعنف والأعمال التي يجرمها القانون، وهي أيضًا أقل حدة من أولتراس شرق أوروبا وإيطاليا، فتتمحور أنشطتهم حول ترديد الأناشيد التشجيعية وارتداء الزي الموحد وما إلى ذلك من ممارسة التشجيع بطرق فنية.
تلك الطبيعة تجعلني ألقي الضوء على التجربة البرتغالية دون غيرها في كيفية تحجيم العنف والسيطرة على الكلاكي، وهي رحلة بدأت منذ الثمانينيات وحتى وقتنا هذا، ومحاولة استخلاص النقاط الرئيسية في تلك الرحلة.
نشأت مجموعات الكلاكي في منتصف السبعينيات وسعت البرتغال منذ نشأتها إلى إبعادها وتحجيمها حتى لا تسلك نهج المجموعات العنيفة مثل الهوليجانز، ومنع العنف الذي قد يحدث في المنشآت الرياضية، وأخذ التدابير والإجراءات اللازمة لذلك عن طريق سلسة من القوانين التي توالت منذ 1980 وحتى الآن، والتي تتضمن تدابير خاصة بالنواحي الهندسية والمعمارية وفصل المدرجات وبوابات الدخول والهروب، وأخرى تجرم التعدي على قوات الأمن المنظمة، وأخرى وُضِعت من أجل إلزام الهيئات التعليمية بعمل حملات توعية لغرس الروح الرياضية ونبذ العنف.
مجموعة “Juve Leo” أقدم مجموعات الكلاكي والتي أُنشئت عام 1976
عام 1989 شهد تغيرًا كبيرًا في الرؤية البرتغالية لمجابهة العنف يعكس التطور الحاصل نتيجة توقيعها على اتفاقية مجلس أوروبا، فتم تعديل الدستور وإضافة فقرة للمادة 79 تلزم الدولة بمسؤولية منع العنف المصاحب للرياضة.
وعلى إثر ذلك أُصدر قانون 270/89 من أجل إدماج التدابير المنصوص عليها في الاتفاقية الأوروبية ضمن التشريعات البرتغالية، وبموجب هذا القانون تم تشكيل الهيئة القومية للتفتيش والتنسيق(CNCF)، وهي هيئة تتبع وزارتي الداخلية وشؤون التعليم وهي عبارة عن مجلس له صلاحيات محددة وينسق جهود مؤسسات الدولة المختلفة ويتكون من 12 عضوًا، يرأسه رئيس الهيئة القومية للرياضة ويضم ممثلي المحافظات المختلفة وممثل من الشرطة وآخرين من هيئات الدفاع المدني والصحة ووزارة التعليم ومهندس مختص بالمنشآت الرياضية وأخيرًا ممثل إعلامي.
احتوت الهيئة أيضًا على بعض اللجان فرعية لإنجاز المهام الموكلة إليها مثل وضع مسودات قوانين أو قرارات وزارية خاصة بالمنشآت الرياضية ومنع العنف، وكانت تملك صلاحيات موسعة تتيح لها القيام بعملها، وضمت اللجان الفرعية أخصائيين إضافيين حسب الاحتياج كالأخصائيين الاجتماعيين في لجنة البحث في مسببات العنف في الرياضة.
أدركت الهيئة أن منع العنف والمشاكل الأمنية لن يحدث من خلال إتقان التشريعات واللوائح، أو من خلال مبادرات التوعية الاجتماعية التي تهدف إلى تشجيع الوعي بقضايا اللعب النظيف بين عشاق الرياضة فقط، فوضعت خطة لتحديث الملاعب وتطوير إستراتيجيات السيطرة على الحشود وشراء المعدات الأمنية في الملاعب الرياضية، وطبقًا للقانون تتشارك الدولة والأندية تكلفة هذه المعدات وفق معايير محددة.
تلك الخطة سار على خطاها المجلس القومي لمنع العنف في الرياضة (CNVD) الذي استبدل الهيئة القومية للتفتيش والتنسيق (CNCF) عام 1998، وامتلك المجلس الجديد صلاحيات أكبر وميزانية للقيام بحملات دعائية وتم تقليص عدد أعضائة لجعله أكثر فعالية فيما يتعلق بالإجراءات.
ربما أدى ما سبق إلى جعل المنشآت الرياضية أكثر أمنًا من حيث حركة الدخول والخروج والهروب عند الخطر وحدوث إصابات أو وفيات بسبب سوء التصميم، لكن بالرغم من تلك الجهود المنظمة والخطوات المدروسة لم تؤد تلك القوانين والتدابير إلى تغيير سلوك المجموعات أو إجبارها على العزوف عن بعض السلوكيات العنيفة بل تثبت الأرقام أن منذ بداية وضع القوانين عام 1980 شهدت المنشآت الرياضية زيادة في أعمال العنف.
رسم البياني يوضح ازدياد أعمال العنف في المباريات الرياضية “Fixtures” في الفترة بين 1978 – 1987:
رسم بياني آخر يوضح ازدياد أعمال العنف في المباريات الرياضية “Fixtures” في الفترة بين 1987 – 1997:
لكن ما أحدث الفارق بشكل ملحوظ هو ما قام به المجلس القومي للرياضة (CND) الذي أخذ مكان المجلس القومي لمنع العنف في الرياضة (CNVD) في عام 2006، وهو قيامه بإصدار قانون يلزم الكلاكي بتقنين وضعها عن طريق تسجيل أفرادها لدى النوادي التي تقوم بتشجيعها ووضع تسلسل هرمي لأفراد المجموعة، وتقوم المجموعات بدفع رسوم اشتراك رمزية مقابل الحصول على منافع أكبر مثل تذاكر مخفضة بشكل كبير وتقديم النادي للدعم لهم في تنظيم الرحلات الطويلة لمشاهدة المباريات وغيرها.
وعلى الجانب الآخر قامت قوات الشرطة بتطوير أدائها بعمل تشكيلات جديدة تسمى “سبوترز – Spotters” التي تقوم بتأمين المباريات الهامة ومصاحبة رحلات الكلاكي المنظمة مسبقًا بالتنسيق مع النادي للمراقبة ومنع الاشتباكات، كما يظهر في المقطع التالي:
ساعدت أنظمة مراقبة الملاعب بالكاميرات بالإضافة إلى تسجيل الكلاكي لأفرادها على سهولة التعرف على شخصيات القائمين بأي أعمال تخرج عن النظام العام وتحديد انتمائه للمجموعة من عدمه.
أدت تلك الخطوة إلى انخفاض كبير في أعمال العنف بالملاعب الرياضية؛ فكما يشير الرسم البياني التالي إلي حدوث أعمال عنف في أكثر من 1850 مباراة رياضية في لشبونة خلال الأعوام بين 1987 – 1997 أي بمعدل ما يقرب من 185 حدثًا في السنة في لشبونة وحدها، فبعد تسجيل المجموعات أشارت الأرقام الخاصة بالشرطة التي نشرتها صحيفة “Correio da Manha” إلى حدوث 70 حدثًا فقط في موسم 2008 – 2009 والذي انخفض إلى 34 حدثًا فقط في الموسم الذي تلاه.
على الرغم من تفرد ظروف كل حالة عن مثيلاتها إلا أنه يمكن الاستفادة ببعض الحلول التي استخدمت لمعالجة حالات أخرى، نستطيع أن نستشف من التجربة البرتغالية بعض الخطوط العريضة التي ينبغي أن ينظر إليها بعين الاعتبار؛ على مدار 30 عامًا لم تستطع البرتغال خفض عدد المباريات التي تحتوي على العنف بسن القوانين ومحاولة فرضها من جانب واحد، بل أدركت بعدها أن حل هذا الطابع من المشاكل يتطلب إشراك الشباب إلى جانب السلطة وفق منظومة متماسكة لها قواعد صارمة، وفي نفس الوقت تجلب النفع على هؤلاء الشباب، إلى جانب ذلك، لم يغفلوا العناصر التي تساعد على إشعال الموقف حتى لو لم تكن السبب الرئيس مثل جودة تصميم المنشأ الرياضي وضرورة إشراك مهندسين معماريين ومتخصصين في علم التحكم بالحشود “crowd control” في عملية التصميم أو القيام بتعديلات.
فعاجلاً أم آجلاً سيرجع الجمهور إلى المدرج وإذا لم يتم تغيير أسلوب معالجة المشكلة والاعتراف بالخلل الموجود في المنظومة بما تحتويه من منشآت وأفراد ستتكرر نفس النتائج السابقة.
شكر خاص للباحث البرتغالي أليكساندر كيروش