ترجمة وتحرير نون بوست
من بين جميع الآمال التي أثارها انتخاب ناريندرا مودي كرئيس للوزراء في الهند قبل عام واحد، كان الأمل الأروع هو وضع حد للعلاقة المتسممة منذ عقود طويلة مع باكستان، حيث كانت دعوة مودي لنظيره نواز شريف إلى مراسم أداء اليمين بادرة جريئة ومُرحب بها، خاصة لكونها الأولى منذ ولادة الدولتين من رحم الحكم البريطاني في عام 1947، ولكن في غضون أشهر قليلة من تنصيب مودي، وصل تبادل القذائف بين القوات الهندية والباكستانية إلى أشده منذ سنوات في إقليم كشمير الحدودي؛ مما أدى إلى تعثر محادثات السلام الوليدة، وفي أبريل، أفرجت محكمة باكستانية عن زكي الرحمن لاخفي بكفالة مالية، وهو قائد العمليات في جماعة عسكر طيبة، والمتهم بكونه العقل المدبر لهجمات مومباي الإرهابية عام 2008، مما أثار غضب الكثيرين في الهند.
معظم الهنود يعتقدون أن جنرالات باكستان ليسوا مهتمين بمتابعة محادثات السلام، وهم بذلك ليسوا مخطئين تمامًا، فمنذ عقود، صعّد الجيش الباكستاني التهديدات عبر الحدود، بغية الظفر بموارد غير متناسبة مع تأثيره في باكستان، كما عمل على تغذية السياسات العسكرية الأكثر خطورة وزعزعة للاستقرار، ابتداءً من الدعم السري لطالبان والمتشددين المناهضين للهند، كجماعة عسكر طيبة، وليس انتهاءً بالتعزيزات السريعة والمتلاحقة لترسانة الجيش الباكستاني النووية.
ولكن مع ذلك، فإن هذه المخاوف الباكستانية المبالغ فيها، يتحمل قادة الهند مسؤولية كبرى عن خلقها في المقام الأول، وذلك بسبب مقاومتهم لفكرة استقلال باكستان؛ ففي غضون ساعات من الاستقلال، اندلعت المذابح الطائفية الضخمة على جانبي الحدود، وهذه المذابح هددت بإزهاق أرواح حوالي مليون شخص، وأدت إلى معاناة باكستان تحت وطأة موجة عارمة من اللاجئين؛ مما أصاب اقتصادها وحكومتها نصف المُشكلة بالشلل، وللخروج من هذه البوتقة، ظهرت قناعات غريبة مفادها أن الدولة الأكثر قوة وسيطرة “الهند”، يجب عليها خنق الرضيع الضعيف “باكستان” في مهده، وهو القلق الذي لم تستطع باكستان، باعتبارها الطرف الأضعف على الدوام، التخلص منه كليًا.
وكما يجري الآن، أقسم قادة الهند حينها إنهم يسعون للإخوة والصداقة بين البلدين فقط، وإن المسلمين في كلا الدولتين يجب أن يعيشوا في سلام وتجرد من الخوف، وردوا على الاتهامات التي طالتهم بإثارة الحرب، بالتذرع بالولاء لغاندي، “قديس الحقيقة واللاعنف” كما وصفه أول رئيس وزراء للهند جواهر لال نهرو، ولكن في الواقع، نهرو وغاندي نفسه، ساعدا على تعزيز وتكثيف المخاوف التي لاتزال تطارد باكستان اليوم.
ولتوضيح ذلك، علينا أن ندرك أن قيادة غاندي للحركة القومية الهندية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، ساهمت في عزل المسلمين وتحفيز رغبتهم في إقامة دولة مستقلة، حيث قام غاندي بإدخال الدين إلى حركة الحرية، التي كانت حتى ذلك الحين مؤلفة من المحامين والمثقفين العلمانيين، وكان يصوغ نداءاته للجماهير في الهند بتعابير هندوسية إلى حد كبير، حتى إن الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي، كتب عن سنين غاندي الأولى باعتباره محرض على الغوغاء، كما وصف قوميته الهندوسية بأنها مخربة لكل شيء، ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي أسسه غاندي، كان يتكلم بلسان واسم جميع المواطنين في الهند، بيد أن عضويته ظلت محصورة بالهندوس بنسبة 90%.
المسلمون، الذين كانوا يشكلون ما يقارب ربع سكان الهند ما قبل الاستقلال، البالغين حوال الـ400 مليون، كان يمكن أن يخمنوا من خلال الانتصارات الانتخابية لحزب المؤتمر الوطني في الثلاثينات، شكل الحياة التي سيعيشوها إذا ما استولى الحزب على الحكم من البريطانيين؛ فالهندوس سيسيطرون على البرلمان، دوائر الدولة، المحاكم، والمدارس، وسيفضلون إخوتهم بالإيمان في تعيينات الوظائف والعقود والامتيازات السياسية، وبذلك كلما سخر غاندي ونهرو من فكرة إنشاء دولة مستقلة للمسلمين بشكل أكبر، كلما كانت ضرورة إنشاء هذه الدولة تبدو أكبر.
ومن المفارقات، أن غاندي سبب أكبر ضرر للهند وباكستان فيما يُعتبر أنه لحظة انتصاره التاريخية، الأشهر الأخيرة من الحكم البريطاني، فعندما اندلعت أولى أعمال الشغب قبل التقسيم بين الهندوس والمسلمين في كلكتا في أغسطس 1946، بالضبط قبل سنة واحدة من الاستقلال، أيد غاندي فكرة البلطجية الموالين لمحمد علي جناح، زعيم حزب الرابطة الإسلامية، أكبر حزب إسلامي في البلاد، مما أثار موجة من القتل المتعمد، والحقيقة كانت حينها بالكاد واضحة المعالم؛ حيث كان كلا الجانبين حينها يستعدان للعنف خلال المظاهرات المؤيدة لتأسيس باكستان، والاشتباكات الأولية تصعدت بشكل كبير لتخرج بسرعة عن نطاق السيطرة.
بعد شهرين، وإبان ظهور تقارير بائسة عن مجزرة الهندوس في منطقة نائية تسمى نواخالي في أقصى شرق ولاية البنغال، عمد غاندي إلى تأجيج الهستيريا الهندوسية بدلًا من تهدئتها، وحينها كان يقترب من عمر الـ80، وأفكاره السياسية عفا عليها الزمن، وغرائزه تبلدت إثر سنوات من التملق، ومع ذلك كان لايزال الشخصية الأكثر تأثيرًا في البلاد، حيث كان يتم اقتباس ونقل دعواته في صلاة العشاء، والاستجابة لها على نطاق واسع، في حين أن بعض شخصيات حزب المؤتمر الوطني لفقت أرقامًا مرتفعة جدًا عن ضحايا المجزرة؛ فمثلًا قدر رئيس الحزب كريبلاني عدد القتلى بالملايين، رغم أن الحصيلة النهائية كانت أقل من 200 ألف، ومن جهته، ركز غاندي على الادعاءات المبالغ فيها حول قيام اللصوص باغتصاب عشرات الآلاف من النساء الهندوسيات، وبشكل مثير للجدل، نصحهن بخنق أنفسهن أو بلع لسانهن لإنهاء حياتهن، بدلًا من السماح بأن يتم اغتصابهن.
في غضون أسابيع، بدأ السياسيون من حزب المؤتمر بقيادة مسيرات مسيئة في ولاية بيهار المجاورة، تدعو الهندوس للانتقام لنساء نواخالي، ووفقًا لمراسل صحيفة نيويورك تايمز جورج جونز “في خضم غليان الغضب، أصبح من الصعب التفريق بين الطائفية الفارغة لحزب المؤتمر، وبين التطرف القاتل للجماعات الهندوسية مثل راشتريا سوايام سيفاك سانغ”، حيث بدأت كوادر هذه الجماعات باستخدام الأسلحة لمنع انقسام الهند، وتم تشكيل عصابات ضخمة في ولاية بيهار، الولاية التي يفوق فيها عدد الهندوس عدد المسلمين بنسبة 7 إلى 1، وانتشرت في جميع أنحاء الريف، وبعد أسبوعين من القتل، كانت الحصيلة ذبح أكثر من 7000 مسلم، وهذه المذابح قضت عمليًا على أي أمل في إيجاد حل وسط بين حزب المؤتمر الوطني الهندي وحزب الرابطة الإسلامية.
لم تكن هذه الأحداث هي وحدها المقلقة في تلك الفترة، بل تنامى القلق على قدم المساواة من الغطاء الأخلاقي الذي منحه المهاتما غاندي لتابعيه الأساسيين نهرو وسردار “فالاباي باتل”، وهو قائد من ولاية غوجارات شغل منصب رئيس وزراء الدولة لأكثر من عقد من الزمان، وتنفيذًا لأوامر غاندي بعدم إجبار أي شخص على العيش في باكستان ضد رغبته، أصر نهرو وباتل على تقسيم المحافظات الضخمة في البنجاب والبنغال إلى قسمين: قسم للمسلمين، وقسم لغير المسلمين، بحيث تبقى مناطق غير المسلمين تحت سيطرة الهند.
حينئذ، عارض جناح – بحق – هذا التقسيم، مشيرًا إلى أنه سيسبب حالة من الفوضى، كون الهندوس والمسلمون والسيخ كانوا مختلطين بشكل راسخ في البنجاب، والسيخ بالذات كانوا ينتشرون على كلا جانبي الحدود المقترحة، وفعلًا تعهد زعماء السيخ بعدم السماح بقسم مجتمعهم إلى نصفين، مما ساعد على انطلاق سلسلة من أعمال شغب التقسيم في أغسطس 1947، تم من خلالها استهداف ومحاولة طرد المسلمين من النصف الهندي غير المسلم، لإفساح المجال أمام السيخ للانتقال من النصف الآخر.
وكما توقع جناح، باكستان الضعيفة والتي تم تجريدها من ميناء كبير ومركز صناعي مهم متمثل بكلكتا، ستكون دولة غير آمنة، وسينصب جل اهتمامهما على بناء قدراتها العسكرية لتقويض قدرات الهند العسكرية، وبالتالي ستكون مصدرًا لعدم الاستقرار اللانهائي في المنطقة، ولكن مع ذلك أصر نهرو وباتل على جعل باكستان أكثر ضعفًا، واستثمرا جميع قوى الهند لتقسيم الأصول الاستعمارية، وسَخِرا من دولة جناح المهلهلة، وتوقعا ركوعها قريبًا استسلامًا وطلبًا لتوحيدها مع الهند.
والأسوأ من ذلك، أن زعماء المؤتمر الوطني هددوا بعرقلة التسليم إذا لم يتم تسليمهم السلطة بشكل فوري، وهذا الضغط يفسر ربما سبب قيام الوالي البريطاني على الهند، اللورد لويس مونتباتن، بتقديم تاريخ الانسحاب البريطاني من الهند حوالي 10 أشهر، تاركًا لباكستان حوالي عشرة أسابيع لإجراء عمليات التأسيس، وبذات الوقت لم يُظهر نهرو وباتل أي اهتمام بالصعوبات التي يعاني منها جناح في عملية التأسيس، حتى إنه عندما تم الضغط على باتل من قِبل مونتباتن لإظهار المزيد من المرونة بهذه القضية، أجاب بحدة “لا أحد طلب من باكستان أن تنفصل”.
وحينئذ، وبمجرد اندلاع أعمال شغب التقسيم، سعى غاندي ونهرو ببسالة لكبح جماح عمليات القتل، وخاطرا بحياتهما بغية معاقبة الجماهير الغاضبة من الهندوس والسيخ، ولكن مع ذلك، الكثير من الباكستانيين يرون أن هذه الجهود الفردية لم تثمر نهائيًا، كون غاندي ونهرو لم يستطيعا إيقاف الشعب عن تخريب شحنات الأسلحة والمخازن العسكرية التي يجري نقلها إلى باكستان، كما أن جهودهما لم تمنع باتل من إرسال قطارات محملة بالمسلمين من دلهي وأماكن أخرى إلى باكستان، الأمر الذي أثار مخاوفًا حينها من أن الهند تهدف إلى طمر جارتها باللاجئين، فضلًا عن أن الجهود لم تسفر عن إخراس دعوات كريبلاني وقادة حزب المؤتمر الوطني الآخرين، الهادفة إلى تحفيز الهندوس الذين يعيشون في باكستان للهجرة؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى استنزاف بلاد جناح الوليدة من العديد من الموظفين، المصرفيين، الأطباء، والتجار.
كما لم يظهر القادة الهنود الكثير من الندم حول استخدامهم للقوة العسكرية عندما كان الأمر يلائمهم، فبعد أن قبلت باكستان انضمام إقليم جوناغاد، وهي مملكة صغيرة على بحر العرب يحكمها مسلم ولكن أغلبية سكانها من الهندوس، حاول حزب المؤتمر إشعال ثورة داخل هذه الأراضي بقيادة سملداس غانديد – ابن شقيق المهاتما غاندي -، وفي نهاية المطاف، حسمت الدبابات الهندية القضية لصالحها، ولكن عندما حاولت باكستان في أكتوبر 1947 إطلاق انتفاضة مماثلة في إقليم كشمير، وهو إقليم أكبر بكثير من جوناغاد، وأكثر ثراءً، ويحكمه هندوسي، وغالبية سكانه من المسلمين، تدخلت القوات العسكرية الهندية مرة أخرى للسيطرة على الإقليم.
غاندي داعية السلام، والذي كان قد حاول في وقت سابق إقناع مهراجا كشمير بالانضمام إلى الهند، وافق من صميم قلبه على التدخل العسكري الهندي في كشمير حيث قال لباتل “أي تعدٍ على أرضنا، يجب أن يُدافع عنه بالعنف، إن لم يكن باللاعنف”، وبعد اغتيال غاندي في يناير 1948، واصل نهرو الاستشهاد بما قاله المهاتما لرفض أي اقتراح بالتراجع الهندي في كشمير.
دوافع غاندي قد تكون نقية، ولكن مع ذلك لم يستطع لا هو ولا ورثته السياسيين أن يقدّروا كيف سيعمل توازن القوى الهائل بين الهند وباكستان على تشويه صورة أعمالهم، فحتى يومنا هذا، يسعى القادة الهنود للتحلي بالأرضية الأخلاقية العالية في كشمير، والرد على كل استفزاز على طول الحدود، بدلًا من التصدي ومعالجة إستراتيجية التخوف وانعدام الأمان التي تعمل بها باكستان.
هذا الوضع لا يخدم أي أحد باستثناء المتطرفين من كلا الجانبين، فمع التغطية المسعورة للقنوات الفضائية على مدار الـ24 ساعة لضبط كل هجوم يتم عبر الحدود وتصويره كإهانة دبلوماسية، تتصعد المشاعر الشوفينية داخل الأنفس؛ فمثلًا يتحدث الإستراتيجيون الهنود بسهولة تامة عن ضربة هندية عبر الحدود، في الوقت الذي يتحدث به المسؤولون الباكستانيون بسهولة مثيرة للقلق عن الاستجابة لهذه الضربة بأسلحة نووية تكتيكية، وفي خضم هذا، ومن ملاذاتهم الآمنة في باكستان، شنت طالبان إحدى أعنف الهجمات منذ سنوات في أفغانستان.
بالمحصلة، وإذا كان مودي يأمل حقًا بكسر الجمود في شبه القارة الهندية، فإنه بحاجة للقيام بشيء لم يستطع حتى غاندي القيام به، وهو منح باكستان، الدولة التي ولدت من رحم مخاوف الهيمنة الهندوسية، تطمينات من المخاوف التي تجتاحها.
المصدر: فورين بوليسي