وسط الزخم الإعلامي في التصريحات حول قرب إعلان “عملية تحرير الموصل”، معقل التنظيم، ووسط الإعلان عن ساعة الصفر لتحرير الأنبار، باغت التنظيم الجميع في هجومه واجتياحه لمدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار، والمعقل الأكثر تمنعًا عن التنظيم من باقي المدن الأخرى في المحافظة، فالرمادي وإن كانت هدف التنظيم منذ سيطرته على الموصل وتمدده في صلاح الدين، بقيت قرابة العام السابق عصية عليه، ولقد فشلت كل محاولاته في اجتياحها رغم نوعية تلك العمليات التي استهدفت المدينة، ولقد حقق التنظيم من خلال اجتياحه للمدينة نصرًا إستراتيجيًا كبيرًا يضاهي، من حيث النوعية، استيلائه على مدينة الموصل شمال العراق، ستنعكس بالنتيجة على حالة التنظيم العامة، ويمكن استقراء ملامح وضع التنظيم بالآتي:
بعد الصورة الذهنية التي استطاع التنظيم أن يرسمها لنفسه محليًا وإقليميًا ودوليًا بعد تمدده الدرامي في منطقة هشة، بدت معالم تلك الصورة تتعرض للاهتزاز، لاسيما بعد الانكسارات المتلاحقة في كوباني، وعلى شريط النزاع مع قوات البيشمركة، وأخيرًا خروجه شبه الكلي من محافظة صلاح الدين، بيد أن سيطرة التنظيم على الرمادي قد أعاد مرة أخرى وبقوة، التأكيد على تلك الصورة الذهنية ذاتها التي استطاع رسمها معززة هذه المرة، بمشاهد انكسار قوات النخبة العراقية الأكثر كفاءة وانسحابها من أرض المعركة، وبذلك فإن التنظيم استطاع النجاح في اللعب على عنصر “كسر معنويات الخصم” وتحقيق تفوقًا إستراتيجيًا كبيرًا في مسألة الحرب النفسية، كما أنه استطاع إلى درجة كبيرة النيل من صورة القوات العراقية المقاتلة، إلى الحد الذي خرج وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر بتصريحات “مهينة” لوصفه القوات العراقية المنسحبة من الرمادي، وبأنها لا تملك رغبة في القتال.
بالإضافة إلى التقدم الإعلامي الذي حققه داعش، فبسيطرة التنظيم على مدينة الرمادي في العراق ومدينة تدمر في سوريا، يكون قد سيطر على صحاري شاسعه مساندة لصحراء الجزيرة بين العراق وسوريا، والتي كانت منطلق التنظيم، وهو بذلك يحقق عمقًا دفاعيًا كبيرًا، إذ إنه سيتمتع بمنطقة خلفية محمية وآمنه تؤمن محاور المركز بالنسبة للتنظيم، ويجعل الحرب ضده منشغلة على الأطراف، دون القدرة على النيل من مناطق المركز، بعد أن كان تهديدها أمرًا واردًا.
وبالإضافة إلى العمق الدفاعي الذي تؤمنه الصحراء للتنظيم، فإنها تؤمن له حرية المناورة والتنقل، لاسيما من الخطوط البعيدة عن خطوط سيطرة القوات العراقية، أو تلك التي تكون خاضعة للمراقبة الجوية، كما أنه يشكل محورًا للمناورة يستطيع من خلالها التعرض للمناطق الحضرية والهجوم عليها، من خلال ما يعرف بأقواس المناورة، ليحقق بذلك نصرًا سريعًا وخاطفًا.
بسيطرة داعش على الرمادي فإنه يجعل من منطقة حديثه العصية عليه، والتي تحوي قاعدة الأسد الجوية، منطقة مقطوعة الإمدادات ويصعب أخذ موضع الدفاع فيها، كما أنه يتقدم نحو الخالدية والحبانية شرقًا، التي تبعد عن بغداد 68 كيلو مترًا، وهو ما يعني تحول التنظيم من إستراتيجية الاقتراب المباشر إلى الاقتراب غير المباشر في تهديده للعاصمة بغداد.
ينفتح التنظيم على ساتر صلاح الدين وبغداد وكربلاء، ومن خلال انفتاحه على هذه السواتر الحساسة؛ فإنه سيملك قدرة عالية على المشاغلة التي ستنهك القوات العراقية والحشد الشعبي، وتعطيه القدرة على العمل وفق إستراتيجية شد الأطراف التي تمكنه من إنهاك القوات العراقية ومشاغلتها بجبهات متعددة، تمهيدًا للنيل من القلب بضربة مباشرة، بل إن الانفتاح على هذه السواتر يجعل التنظيم يملك زمام المبادرة الإستراتيجية في تحديد الهدف الذي تدور حوله المعارك.
تمثل سيطرة تنظيم داعش على معبر الوليد الحدودي على الجانب العراقي، ومعبر التنف على الجانب السوري، التقدم الإستراتيجي الأبرز الذي حققه التنظيم خلال الفترة السابقة، إذ إنه بسيطرته على هذا المنفذ البري يكون قد قطع قنوات الاتصال البري لإيران إلى سوريا ومنها، بل وإلى الشرق الاوسط برمته، إذ إن إيران لا تملك سوى قنوات برية تمتد عبر الموصل والأنبار توصلها بسوريا، ومن دون تلك القنوات فإنها تكون محاصرة بريًا عن المنطقة بأسرها، وعن حلفائها في سوريا ولبنان بشكل خاص، وهذا يعني أن الدعم المتواصل من قِبل إيران لنظام بشار لن يكون إلا من خلال المساعدات التي ستصل جوًا، وبدرجة أقل بحرًا، بعد الصعوبات على مضيق باب المندب، وبالنتيجة فإن إيران، ومن خلال سيطرة داعش على هذا المنفذ، تشكل تهديدًا لإيران بأن تدخل في حالة اختناق إستراتيجي في المنطقة، ويكون شريان الدعم المُقدم لنظام الأسد في سوريا قد انقطع، وهو ما يعني نتائج سلبية كبيرة، تجعل من إمكانية تعرض إيران لهزيمة إستراتيجية كبيرة أمرًا واردًا، من خلال تهديد وضع حلفائها في سوريا.
تقدم داعش هذا جعلها تدخل في تحد حقيقي لإيران ولأول مرة، سينتج عنه مواجهة إيرانية شرسة، وهو الأمر الذي تجنبته داعش في ديالى وصلاح الدين، وإذا ما تعرضت لانكسار في الأنبار فإن ذلك سيعود بالسلب على وضع التنظيم العام، وهو ما يعني انفتاحها على معركة دفاعية قوية.
تزامن مع تقدم داعش وقطعها لشريان الدعم الإيراني هذا، تحركات إقليمية جادة في محاربة نظام بشار في سوريا، من خلال نوعية التسليح المقدمة لقوى المعارضة السورية، التي أحرزت على إثره تقدمًا كبيرًا في حربها ضد نظام بشار الأسد في أدلب والقلمون، وتصريح وزير الخارجية التركي بأن تركيا اتفقت مبدئيًا مع الولايات المتحدة على تقديم دعم جوي لبعض قوى المعارضة، وهذا التزامن يعني أن مصلحة إقليمية ودولية ستحول مؤقتًا دون إضعاف التنظيم في الأنبار للحيلوة، دون وصول الدعم الإيراني لنظام بشار.
كما أن موقف الولايات المتحدة، الذي بدا من الواضح أنه يناور بأوراق إستراتيجية في الشرق الأوسط بعد اتفاق الإطار النووي مع إيران، يبدو أنه سيتصاعد مع انطلاق جولة المفاوضات النهائية لجعل إيران ترضخ لشروط جديدة لذلك الاتفاق، لاسيما بعد إعلان روسيا عزمها بيع طهران منظومة الدفاع الجوي S300 الإستراتيجية، والتي أعطت ورقة كبيرة بيد الإيرانيين في التفاوض بارتياح في جولة محادثات الاتفاق النهائي، كون تلك المنظومة تجعل من المستحيل استهداف برنامجها النووي، وهذه المقاربة وفيما لو قررت واشنطن زيادة ضغطها فإنها ستغض الطرف عن تمدد تنظيم داعش في الأنبار نحو الحبانية شرقًا لتهديد بغداد، وغربًا لقطع الإمداد عن نظام الأسد في سياق إقليمي أوسع لتكثيف أوراق ضغطها تجاه إيران.
المساحة السياسية التي استفاد منها التنظيم منذ دخوله، هو ذلك التداخل بين أهداف محاربته والأهداف الطائفية الضيقة، ولعل أكبر الهدايا التي قُدمت له هو مقاربة “الحشد الشيعي مقابل التنظيم”، هذه المقاربة تكسر الإجماع على محاربته، وهو ما يعني مساومات وعدم جدية في محاربته، ودخول الحشد للأنبار سيترافق مع إعلاء هذه المقاربة، لاسيما بعد الشعارات الطائفية التي رفعها الأخير في إعلانه للعملية على الرمادي، والإصرار على عدم إشراك العشائر السنية في محاربة التنظيم، نتيجة للحسابات الطائفية التي تسيطر على إدراك الحشد، وهذا ما يعني إطالة أمد المعركة، واستفادة التنظيم مرة أخرى من تلك المساحة الضبابية التي تحول دون جدية محاربته.
بيد أن تنظيم داعش الذي حقق نصرًا إستراتيجيًا كبيرًا بسيطرته على الرمادي ومحاولته التمدد في الأنبار، سيكون أمام تحد دفاعي كبير، متمثل بقرب ساحة المعركة من خطوط الإمداد الرئيس للقوات العراقية، المتمثلة بالعاصمة بغداد، وهو ما يعني أن الدفاع عن الرمادي أو كامل سيطرته في الأنبار لن تكون بالأمر الهين بالنسبة للتنظيم، خاصة إذا ما كان ذلك مصحوبًا بغطاء جوي للتحالف، كما أنه يكون قد انفتح على خطوط معارك شاسعة للغاية في العراق وسوريا، وصحيح أن التنظيم قادر على التنقل المدهش في فتح جبهات متعددة في وقت واحد، ولكن ذلك سينهك التنظيم أكثر ويجعل إذا ما اختمرت الظروف الموضوعية للنيل منه، تنظيم داعش تنظيمًا منهكًا تتوالى الانهيارات من داخله بشكل درامي.