لم يكن سهلًا أن يفقد السلطان العثماني شرعيته في الأناضول، ليس فقط لأنه انحدر من الشجرة العثمانية العريقة التي انتمى لها الجميع هناك، ولكن لأن السلطنة والخلافة جسّدا في آن هوية المسلمين الذين قطنوا الأناضول قادمين من آسيا بعد هجرات طويلة، وصلت لأوجها مع حُكم السلاجقة في إيران ثم خلافة العثمانيين، وقد انحصرت هويتهم في هذا الإطار الديني، في حين ظلت أصولهم التركية بادية في اللغة فقط، دون أن تظهر بشكل واعٍ في أي خطاب عن الهوية، وكان يمكن لزوار إسطنبول حتى مطلع القرن العشرين أن يلحظوا ذلك بمجرد سؤال أحد المارة عن هويته، إذ كانت الإجابة ببساطة آنذاك “عثمانلي” وليس “تُرك”.
في ظل هذا الرسوخ الذي تمتع به العثمانيون في عقول وقلوب الأتراك، على المستوى السياسي والهوياتي، كيف تحوّل الوعي التركي من تلك الحالة اللاإثنية إلى القومية التركية إذن؟ وكيف فقد السلطان شرعيته بعد الحرب العالمية الأولى؟ وكيف نجح مصطفى كمال في تدشين شرعية جديدة بين الأتراك ليقوم بكل الإصلاحات التي قام بها على مدار 15 عامًا حكم فيها تركيا؟
الشرعية تنتقل من السلطان إلى مصطفى كمال
لطالما استقى السلطان العثماني شرعيته، على غرار كافة النُظُم في العصور الوسطى، من انضواء أكبر مساحة من الأرض تحت لوائه، لا سيما أراضي المسلمين، وهو ما تلقى ضربة قاضية بالطبع أثناء الحرب العالمية الأولى باتفاقية سايكس بيكو، ووقوع مناطق مختلفة من تركيا اليوم تحت احتلال القوى الأوربية، ومنها إسطنبول وإزمير، وقد كان المسمار الأخير في نعش شرعية النظام القديم هو القرار الرسمي العثماني بالاستسلام لقوى الحلفاء والتوقف عن المقاومة.
مصطفى كمال أثناء حرب الاستقلال
بالطبع رفضت مجموعات عسكرية عدة أن تتوقف عن المقاومة، وضربت بالقرار الرسمي عرض الحائط، وكان مصطفى كمال أبرز اسم من بين هؤلاء، إذ اتجه إلى شرق البلاد وعقد مجلسًا في أرضروم ثم آخر في سيواس ضم كل منهما ممثلين من كافة أنحاء تركيا، ليتمخّض عن ذلك الحراك جمعية الدفاع عن حقوق الأناضول التي ترأسها هو، والتي نسقت كافة جهود المقاومة لاستراجع أكبر قدر من الأراضي العثمانية، وقد ذاع صيتها آنذاك، وبدأت تشكل ضغطًا على السلطان، ولا يدلل على ذلك أكثر من نتائج انتخابات برلمان 1920، والذي حصل فيه أنصار المقاومة على أغلبية كبيرة مقابل أقلية ناصرت السياسات الرسمية.
عمل البرلمان الجديد على تبني قرارات مجلسي أرضروم وسيواس بشكل رسمي، ثم أعلن عن “الميثاق الملّي”، والذي أكد على مطالب الحراك المقاوم آنذاك، من فتح البوسفور واستراجع القسطنطينية وحق تقرير المصير، وهي مطالب لاقت رد فعل عنيف من جانب الحلفاء، والذين وسعوا من نطاق احتلالهم للعاصمة، واعتقلوا الكثير من نواب البرلمان الجديد، دون أن يستطيع السلطان أن يحرّك ساكنًا، وهو ما دفع بتلك المجموعات إلى داخل الأناضول، في مدينة أنقرة، حيث عُقِدت أولى جلسات مجلس الأمة الكبير، والذي سيصبح برلمان الجمهورية فيما بعد.
أعلن المجلس أن السلطان خاضع لسيطرة أعداء الأمة، وأن السيادة أولًا وأخيرًا هي للأمة، كما ذكر لأول مرة كلمة “تركيا” كاسم للدولة، ثم عكف على تنظيم المقاومة من ناحية، ومواجهة القوات العثمانية التي التزمت بالقرارات الرسمية من ناحية أخرى، وهو ما نجح فيه بكفاءة، ليبدأ تراجع اليونانيين حتى استعادة إزمير عام 1922، ثم تراجع الحلفاء عن احتلال إسطنبول بعد اتفاقية مودانيه، ولتنتهي شرعية السلطان محمد وحيد الدين تمامًا والذي تعاون مع الحلفاء طوال تلك الفترة، ويتم إعلان إلغاء السلطنة عام 1922 مع بقاء الخلافة لعبد المجيد، والذي سيكون آخر خليفة، ثم إعلان الجمهورية عام 1923 برئاسة مصطفى كمال.
تأسيس أول جمهورية تركية
مصطفى كمال وعصمت إينونو (إلى اليسار) مع أعضاء حزب الشعب الجمهوري أمام مجلس الأمة الكبير
إبان إعلان الجمهورية، بدأت الخلافات في الظهور بين المجموعات المؤيدة لمصطفى كمال، ومجموعات أخرى كانت من بين المعارضين للسلطان ولكنها لم تشاركه نفس أفكاره وتوجهاته، وأبرزها التجار والمحافظون، وقد انقسم مجلس الأمة في ذلك الوقت إلى 197 من أنصار مصطفى كمال، و118 من مخالفيه، وهو ما لم يعجب مصطفى كمال، والذي أراد توطيد أركان حكمه ليتمكن من القيام بالمرحلة التأسيسية التي رآها ضرورية لقيام الجمهورية بشكل شامل، مما دفعه لحل المجلس عام 1923، وتشكيل مجلس جديد لم يضم سوى ثلاثة من المجموعة الثانية مقابل هيمنة حزبه الجديد: حزب الشعب الجمهوري.
على عكس المجلس القديم، هيمن ذوو المِهَن المدنية وأصحاب التعليم الجامعي على المجلس الجديد، وقد كان معظمهم بالطبع من أنقرة وإسطنبول، وشاركوا مصطفى كمال رؤيته في القيام بـ”ثورة” من أعلى لتأسيس النظام الجديد في تركيا، وعدم السماح ببروز معارضة قوية، وهو ما توطد بعد عام 1926 حين حوكمت مجموعة من المتهمين بتهمة محاولة اغتياله، ثم في أعقاب الانتفاضات الكردية في أعوام 1925 و1930 و1937، والتي اتخذها كمال حجة لضرب الشبكات الصوفية التقليدية خارج المدن.
على مدار سنوات حكمه بين عامي 1923 و1938، قام مصطفى كمال بإصلاحاته الشهيرة، والتي تضمنت إغلاق التكايا الصوفية عام 1925، وإلغاء الطربوش ومنع ارتداء العباءة الدينية خارج دور العبادة، ثم تبني قانون مدني جديد بدلًا من الشريعة عام 1926، وتبني الحروف اللاتينية بدلًا من العربية كأساس للغة التركية وإلغاء الإسلام كدين للدولة عام 1928، ثم تدشين أيديولوجية حزبه في ست أفكار أساسية هي الجمهورية والشعبوية والقومية والعلمانية والثورية والارتكاز للدولة، والتي أضيفت للدستور رسميًا عام 1937.
كان مبدأ الارتكاز للدولة قد أضيف عام 1931 في رغبة لترسيخ دور الدولة في الاقتصاد، لا سيما وأن الاقتصاد التركي لم يتعافى أبدًا من رحيل المجتمعات الأرمنية واليونانية بعد سقوط الخلافة، والتي سيطرت على نصيب كبير من التجارة، مما خلّف فراغًا رأي كمال أن تشغله الدولة لتُحكِم قبضتها اجتماعيًا، وهي واحدة من أبرز نقاط الخلاف التي نشبت بينه وبين التجار في أول مجلس للأمة، والذين تلاشى نفوذهم السياسي فيما بعد، ليتم تطبيق مجموعة من الخطط لبناء قاعدة صناعية واقتصادية دون أن تُثمر نهضة حقيقية.
إينونو والنظام العالمي الجديد
عصمت إينونو بين رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل (اليمين) والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (اليسار)
توفي مصطفى كمال عام 1938، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، تاركًا رئاسة الجمهورية في أيدي نائبه عصمت إينونو، والذي وقع على عاتقه إدراك التحولات المحيطة بتركيا، لا سيما بعد نهاية الحرب، والتي شهدت ترسيخ مبدأ الديمقراطية على مستوى عالمي بقيادة الولايات المتحدة، ثم صعود روسيا كقوة كبرى بشكل أقلق النظام التركي، ولا يدلل على ذلك أكثر من تباطؤ إينونو في الانضمام إلى الحلفاء في الحرب العالمية نتيجة تعاطف الكثيرين في إدارته مع الألمان باعتبارهم أعداء للروس، بل وكان البعض يرى أنه يمكن عقد اتفاق معهم لتحصل تركيا على مناطق في آسيا الوسطى من الروس بعد انتصار الألمان ليضموا الناطقين بالتركية هناك.
قبل نهاية الحرب بأشهر انضمت تركيا للحلفاء، واتجهت أنظارها بالأساس إلى واشنطن بحثًا عن الحماية بمواجهة التوسع الروسي الذي أحاط بها في القوقاز والبحر الأسود، وهو ما رحب به الأمريكيون بالطبع في إطار استراتيجيتهم الجديدة للتعامل مع الروس فيما أصبح لاحقًا الحرب الباردة، ليقوموا بجهود كبيرة في تدعيم وتوسيع دور الجيش التركي كلاعب مهم في التوازن العسكري مع الروس، وهي الجهود التي حملت بذور الدور الكبير الذي سيتسنى للجيش لعبه في الساحة السياسية، بعد أن كان كمال حريصًا على إبعاده عن السياسة والإبقاء على حجمه صغيرًا.
بالإضافة لكل ذلك، كان إينونو مهتمًا بترسيخ قواعد الديمقراطية التي تليق بتركيا، على عكس الكثيرين من حرس كمال القديم، ونتيجة للشرعية التي تمتع بها كنائب لكمال، نجحت ضغوطه وجهوده في إجراء أول انتخابات ديمقراطية عام 1950، والتي خرج منها خاسرًا، وهو ما رآه تحولًا ضروريًا لفتح آفاق التعددية السياسية والتي كان مشغولًا بها أكثر من الأيديولوجيات العلمانية والقومية، على عكس سلفه، لتبدأ تركيا مرحلة جديدة من تاريخها تراجع فيها الحرس العلماني القديم، وتقدم فيها كل من المحافظين عبر باب الديمقراطية، والجيش التركي عبر توسع دوره في الحلف الأمريكي، لتنتقل تركيا إلى مرحلة جديدة.