ظهر أبو محمد الجولاني على الشاشة أخيرًا قائد تنظيم “جبهة النصرة” في سوريا أحد فروع تنظيم القاعدة، اللقاء بث عبر فضائية الجزيرة القطرية من إحدى المناطق المحررة شمالي سوريا، حمل اللقاء رسائل الجولاني التي أطلقها بعد أن حققت الجبهة على الأراضي السورية تقدمًا كبيرًا بقيادتها لجيش الفتح الذي يضم عددًا كبيرًا من الفصائل السورية المسلحة.
الأمر فُسر على إنه إعلان عن رجل دولة يصلح لمرحلة ما بعد بشار الأسد، في ظل التقدم الملحوظ للمعارضة السورية على الأرض في مقابل انحسار ميداني لقوات الأسد بعد خسارته كافة المعارك الأخيرة أمام مسلحي المعارضة في جيش الفتح أو أمام مسلحي داعش في معرك تدمر، فزعيم جبهة النصرة رأى عزم الغرب على الترتيب لإنهاء مرحلة بشار، والاستعداد لما بعدها.
آخر ما طفى على السطح يوحي بأن ثمة تغييرات جذرية على الساحة السورية يمكن ربطها بلقاء الجولاني، هو الاتفاق المبدئي بين تركيا والولايات المتحدة بتقديم “دعم جوي” لبعض مقاتلي المعارضة السورية وإقامة مناطق حظر جوي في سوريا، وهو ما كانت ترفضه الولايات المتحدة، وفي الإعلان عن هذا الاتفاق سياسة جديدة قد تكون تحضيرًا لحسم مسألة الصراع السوري من دون الأسد.
الجميع الآن يعرض نفسه كبديل للأسد بما فيهم تنظيم القاعدة “جبهة النصرة”، فبسبب اتجاه أنظار العالم إلى “تنظيم الدولة” المسيطر على قرابة 50% من الأراضي السورية، يبحث الجميع كيفية مواجهة هذا التنظيم في حالة سقوط الأسد، والجميع يعرضون أنفسهم على أنهم الحليف الأقوى المناسب لخوض معركة أخرى في مرحلة ما بعد الأسد مع تنظيم الدولة الإسلامية.
محاولات لدعم فصائل بعينها على الأرض غربيًا في سوريا لتسلم راية ما بعد الأسد، ولكنها محاولات صنفت بأنها فاشلة، فحركة حزم “المدعومة أمريكيًا” خاضت قتالا مع جبهة النصرة خسرت فيه آليات وعتاد عسكري في بضع ساعات أمام مجموعات من عناصر تنظيم جبهة النصر، ما أوحى للأطراف الخارجية التي تلعب في الصراع السوري أن هذه الفصائل لن تؤتي أكلها مع تواجد فصائل مثل داعش والنصرة على الأرض.
اللاعب الخليجي في سوريا وضع هذه القناعة نصب أعينه فكافة الفصائل المقاتلة المدعومة منه لم تستطع تحقيق إنجاز عسكري على الأرض الا بالتحالف مع جبهة النصرة، وهو ما برز في جيش الفتح، لذا كانت المحاولات لاستئناس الجبهة وتحريضها على خلع عباءة القاعدة تمهيدًا لدعمها والترويج لها دوليًا باعتبارها حركة تحرر وطنية سورية.
صعود جبهة النصرة أغرى دولا خليجية كدولة “قطر” لمحاولة فصلها عن تنظيم القاعدة وذلك بدافع استخدامها كقوة ضاربة على الأرض تساهم في تسوية الصراع السوري، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة كما تخيلته قطر، فالبرغم من الوعود القطرية بالدعم السخي للجبهة في حال تخليها عن الفكرة الجهادية العالمية التي تحملها من خلال القاعدة، فإن الجولاني ظهر على الشاشة القطرية مظهرًا بيعته للظواهري الزعيم الحالي لتنظيم القاعدة وغير منكر لتبعية تنظيمه للقاعدة الأم.
بيد أن ذلك صاحبه في اللقاء شئ من البرجماتية الغير معهودة على التنظيمات التابعة للقاعدة، حيث أبدى الجولاني مرونة شديدة يعتقد أن قطر ستشجع التنظيم للمضي في هذا الخط بمزيد من الخطوات الجادة التي تظهر النصرة أمام العالم أقل تشددًا وتمسكًا بأيدولوجية القاعدة.
ظهر ذلك جليًا في حديث الجولاني عن حربهم مع العلويين في سوريا ووصفها بأنها مجرد حرب لدفع الصائل، وأن التنظيم لا يقاتل سوى المقاتلين فقط من العلويين، مستشهدًا بأن التنظيم لم يتعرض بسوء لقرى درزية لم تتعاون مع النظام، كما تحدث الجولاني عن المسيحيين في سوريا الذين سيتمتعون بمزايا لم يرونها من قبل، مؤكدًا أن النصرة لم تأخذ الجزية من أحد، ولم تسب النساء، مشيرًا بالتأكيد بهذه العبارة لما يفعله “تنظيم الدولة” في المواقف المشابهة، مضيفًا أنه في حال الحكم الإسلامي لن يدفع الجزية سوى القادرين فقط.
الجولاني في هذا الحديث آثر أن ينفي وجود أي دعم من جهة خارجية لتنظيمه، مهاجمًا الفصائل التي تعمل بتوجيهات الأموال الخارجية، مؤكدًا أن هذه الفصائل خطرًا على الساحة السورية، في محاولة منه للإشارة أن المسألة السورية يجب أن تنحصر بين أهلها فقط، وهو ما أكد عليه في حديثه عن تمويل النصرة الذي قال عنه أنه يأتي من غنائم قتالهم، وهي آراء غير معهودة على تنظيم يبايع قاعدة الجهاد العالمية.
رفض الجولاني الحديث عن سعي فصائل مقاتلة في جيش الفتح لإخراج جبهة النصرة منه معتبرًا أن السوريين لا يستطيعون التخلي عن “النصرة” حسب تصريحاته التي أكد فيها أن النصرة لن تخوض حروبًا مع النظام فقط بل مع تنظيم الدولة وبعض الفصائل التي وصفها بالفاسدة.
تصريحات الجولاني هذه كلها وصفت بأنها محاولات لإعطاء صورة ذهنية عن تنظيمه أقل حدة عن تلك التي تروج لها وسائل الإعلام العالمية، وهي محاولات ستلقى مزيدًا من التشجيع من الأطراف الخليجية التي تريد “سورنة” تنظيم النصرة لإشاركه في الحل السوري الفترة القادمة، معتمدة على تفوقه النسبي على الأرض عن الفصائل السورية الأخرى.
في الوقت نفسه الذي يحاول الجولاني فيه الحديث عن مهمة تنظيمه التي حصرها في إسقاط النظام السوري وذلك بحسب توجيهات أيمن الظواهري، مؤكدًا أنه لن يستخدم الشام كقاعدة للهجوم على الغرب، حيث قال الجولاني: “أن توجيهات الظواهري تنص على أن تكون مهمة الجبهة في الشام هي إسقاط النظام السوري وحلفائه كحزب الله، والتفاهم مع الفصائل لإقامة حكم إسلامي راشد، وأيضاً عدم استخدام الشام كقاعدة انطلاق لشن هجمات ضد الغرب وذلك من أجل عدم التشويش على المعركة الموجودة”، وهي تصريحات لا شك وأنها موجهة للغرب.
الا أن الجولاني لم يغلق باب الهجوم على الغرب تمامًا وترك الخيارات مفتوحة أمام تنظيمه، في حال فشل الغرب استيعابه في التسوية السورية، وظلت الولايات المتحدة على موقفها من التنظيم فإن الجولاني قد عبر عن ذلك بقوله: ” في حال استمرار قصف التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على مقرات جبهة النصرة في سوريا فإن كل الخيارات مفتوحة ومن حقنا الدفاع عن أنفسنا وستكون هنالك إفرازات ليست في صالح الغرب وأمريكا”، وهو ما يوضح أن النصرة لن تستمر في خطها البرجماتي طويلًا، إذا ما فشلت الأطراف الخليجية بكف يد الولايات المتحدة عن التنظيم.
جديرٌ بالذكر أن هذا هو اللقاء الثاني للجولاني على فضائية الجزيرة، بعد لقائه الأول في يوليو 2014، وهي لقاءات تعد بمثابة إعلان عن وجهات نظر التنظيم في الأحداث المختلفة على الساحة السورية.