قلب كاتالونيا النابض
عندما يقصد السوّاح تلك المدينة المتوسطيّة الجميلة الشهيرة بحدائقها ومتاحفها، فإن أوّل ما يلفت نظرهم فيها -فضلاً عن طبيعتها الخلابة وأوابدها الأثرية – اتّشاحها باللونين الأحمر والأصفر، في واجهات المَحال التجارية والأبنية والحدائق العامة وحتى على شرفات المنازل تجد العلم الأحمر الأصفر وقد علا مرفرفاً، بالطبع هو ليس علم المملكة الإسبانية، بل علم إقليم كاتالونيا الذي تفخر المدينة وأهلها بالانضواء تحت ظله، وهو كذلك شعار نادٍ رياضيّ ليس ككل الأندية، بل هو رمزٌ لذلك الإقليم وعنوانٌ لوجدان شعبه المتيَّم بالاستقلال والتحرر، إنه نادي برشلونة قلعة كاتالونيا الراسخة وقلبها النابض.
التأسيس والانطلاقة
إعلانٌ في صحيفة وضعه أحد اللاعبين الهواة، كان البشارة الأولى لتأسيس ذلك النادي العريق، ففي أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً في 29 تشرين الثاني عام 1899، قام مجموعة من اللاعبين الإسبان والانكليز بقيادة السويسري –إسباني الأصل- خوان غامبر باستئجار قطعة أرض في المدينة لتكون أول مقر للنادي الوليد، الذي لم يتأخر خروجه عن النطاق المحلي لمقاطعة كاتالونيا كثيراً، فكان عام 1902 إيذاناً ببدء مشاركاته في كأس إسبانيا –بطولته المفضّلة التي أصبح لاحقاً يحمل الرقم القياسي في عدد ألقابها- رغم أن فوزه بأولى بطولاته فيها تأخر حتى عام 1910، أتبعها بلقبين متتاليين عامي 1912 و1913، قبل أن يبتعد عنها سبع سنين اكتفى فيها ببعض الألقاب الإقليمية الصغيرة، ليعود إلى الهيمنة عليها في عشرينيات القرن الماضي بإضافة خمسة ألقاب جديدة فيها.
أما أول ألقابه في بطولة الدوري الإسباني (الليغا) فتأخر حتى عام 1929، غاب بعدها الفريق عن البطولات حيناً من الدهر مع بدء اضطرابات سياسية في البلاد أودت بها إلى حرب أهليّة فظيعة، لم يكن نادي برشلونة –بطبيعة الحال- بمعزل عنها، فمرّ بظروف ماديّة واجتماعيّة سيئة جداً كادت تؤدي إلى حلّه وانفراط عقده، ولكن الغمّة انزاحت والظروف تحسّنت فترة الأربعينيات، ومعها عاد الفريق إلى درب البطولات، فحقق لقبه التاسع في الكأس الإسبانية عام 1942، قبل أن يحرز لقبه الثاني في الليغا عام 1945 ويعززه بآخرَين عامي 1948 و 1949 على يد أسماءٍ خلدت طويلاً في تاريخ النادي أبرزها ماريانو مارتن واسكولا و سيزار ألفاريز الذي ظلّ اسمه يتردّد طويلاً كأعظم هداف في تاريخ النادي، قبل أن ينتزع منه ليونيل ميسي -فيما بعد- هذا الشرف.
العداوة التاريخية
حقبة الخمسينيات كانت مزدهرةً في تاريخ (البلوغرانا) وكان قطافها غزيراً مع ثلاث بطولات ليغا جديدة وخمس كؤوس إسبانية، وقد برز في الفريق تلك الحقبة نجمٌ مجري اسمه لاديسلاو كوبالا كان يصنّف ضمن أعظم لاعبي عصره حينها، جنباً إلى جنب مع نجمٍ آرجنتيني صاعدٍ يدعى ألفريدو دي ستيفانو، حلمت جماهير البارسا بأن تشاهد النجمين معاً في فريقها المفضّل، وكان الحلم في طريقه ليصبح واقعاً لولا تدخّل السلطات السياسية الإسبانية لتحويل مسار اللاعب إلى النادي المنافس ريال مدريد.
لتعمّق بفعلتها هذه شعور أنصار النادي الكاتالوني بالظلم والإجحاف، وليصبوا جام غضبهم على النادي الميرينغي طفل الحكومة المدلّل –حسب رأيهم- وخاصة بعد نجاح دي ستيفانو في قيادة المدريديستا إلى أمجاد غير مسبوقة في كأس عصبة الأبطال الأوروبية (الشامبيونز ليغ)، في الوقت الذي لم يروِ تحقيق البارسا لعدة ألقاب -منها لقب الليغا عام 1960 وكأس إسبانيا عامي 1963 و1968 فضلاً عن كأس المعارض الأوروبية (الصغرى) في ثلاث مناسبات أعوام 1958 و1960 و1966- ظمأ أنصاره المتعطشين للفوز بالبطولة الأوروبية الكبرى (الشامبيونز ليغ)، والتي لامس أطراف مجدها ببلوغ نهائي عام 1961، ولكن الخسارة أمام بنفيكا البرتغالي أجّلت الحلم حتى حين.
الكرة الشاملة
فترة السبعينيات لا يمكن اعتبارها فترةً ناجحةً في تاريخ البارسا رغم ضم لقبٍ في الليغا ولقبين في كأس الملك إلى خزائن بطولاته خلالها، ولكن ما ميّزها كان ظهور جيلٍ مميز من اللاعبين خلالها، على رأسهم يوهان كرويف رائد الكرة الهولندية الشاملة الممتعة التي أصبحت ديدناً وأسلوباً خاصاً سار على نهجه الفريق ردحاً من الزمن، كما ميّزها حدثٌ آخر تمثّل بتدشين أكاديمية (لاماسيا) للناشئين على يد رئيس النادي آنذاك خوان نونيز عام 1979.
تلك المنشأة التي خرّجت فيما بعد أجيالاً من روّاد المستديرة الأفذاذ، العام ذاته شهد فوز البارسا بأول ألقابه في كأس الكؤوس الأوروبية -ثاني البطولات الأوروبية من حيث الأهمية- ذلك اللقب الذي استطاع الفريق تكراره مرتين جديدتين حقبة الثمانينيات التي عرفت كذلك فشله في إحراز الكأس الأوروبية الأمجد (الشامبيونز ليغ) بعد خسارته نهائي عام 1986 أمام ستيوا بخارست الروماني، تلك الحقبة لم تخلُ بالطبع من البطولات المحليّة إذ أحرز البارسا فيها لقبه العاشر في الليغا عام 1985 إضافةً إلى ثلاثة ألقاب جديدة في كأس إسبانيا.
تلك الحصيلة لم ترضِ عشاق البلوغرانا الذين كانوا يمنون النفس بما هو أكثر، خاصة بتواجد أسماء كبيرة في مقدمتها الأسطورة الأرجنتينية دييغو مارادونا الذي لم يقدّم مع الفريق ما يتناسب مع اسمه الكبير، إضافةً إلى الألماني شوستر والانكليزي لينيكر والحارس العملاق زوبيزاريتا، تحت قيادة أشهر مدربي عصرهم آنذاك كسيزار مينوتي وتيري فينابلز ولويس أراغونيس، الذين لم ينجحوا في فرض طابعهم وترك بصمتهم مع النادي كما فعل خلَفُهم الهولندي يوهان كرويف، الذي عاد إلى النادي مجدداً موسم 1988-1989 ولكن كمدرب، فنجح بامتياز في نقل فكره الكروي الشامل كلاعب إلى جلّ عناصر فريقه، مشكّلاً عقداً فريداً متجانساً قوامه لآلئ لامعة طرّزت أجمل لوحات المستديرة كروماريو وستويشكوف ومايكل لاودروب ورونالد كومان وباكيرو وغوارديولا وغيرهم من أعضاء ما سمي حينها بفريق الأحلام، الذي كان على قدر آمال جمهوره العريض فنجح في تحقيق حلمها الكبير المتمثل في لقب الشامبونز ليغ الذي عزّ عليه منذ تأسيسه، وذلك بعد فوز صعب على سامبدوريا الإيطالي في نهائي عام 1992 بهدف ثمين كان كافياً لحمل لقب البطولة الأغلى، وكاد يعيد الكرّة ثانيةً لولا سقوطه المدوّي أمام ميلان في نهائي عام 1994، وإضافة إلى نجاحه الأوروبي حفلت مسيرة كرويف بأربعة ألقاب ليغا على التوالي من عام 1991 إلى 1994، سبقها بلقب في كأس الملك عام 1990، ليدقّ ختام موسم 1996 ساعة رحيل الساحر الهولندي منهياً حقبةً ذهبيّةً امتدت ثماني سنوات طرّزها ب11 لقباً محلياً وأوروبياً.
الفترة الانتقاليّة
بعد مغادرة كرويف، تعاقب على دفة التدريب عدة مدربين لم يعمّروا ضمن أسوار النادي الكاتالوني طويلاً، بدايةً بالإنكليزي الخبير بوبي روبسون الذي غادر بعد موسم واحد ولقبين صغيرين في كأس الكؤوس الأوروبية وكأس الملك، ومروراً بالهولندي لويس فان غال الذي ترقب العشاق عودة ليالي كرويف الممتعة معه، فنجح في موسمه الأول عام 1998 بتحقيق ثنائية الدوري والكأس، كما نجح في موسمه الثاني في الحفاظ على لقب الليغا مستفيداً من تألق نجمه الأول ريفالدو ومعه نجوم كبار من عيّنة لويس فيغو ولويس إنريكة وباتريك كلويفرت إضافةً إلى ظهور أول تباشير قطاف لاماسيا متمثلاً بالمدافع كارليس بويول ولاعب الوسط تشافي الذَين أصبحا فيما بعد رمزين من رموز النادي.
بعدها دخل النادي نفقاً مظلماً خالياً من أضواء البطولات والألقاب استمر طيلة ستة مواسم عجاف، لم ينفع معها تغيير المدربين ولا اللاعبين، إلى أن استلم دفة التدريب سليل المدرسة الهولندية العريقة فرانك رايكارد موسم 2004 – 2005، وتزامن ذلك مع استقدام ثلةٍ من النجوم أبرزهم البرازيلي الفذ رونالدينيو والبرتغالي ديكو والكاميروني صمويل إيتو إضافةً إلى صعود نجم الرسام أندريس إنييستا القادم من لاماسيا، فعاد الفريق إلى سكة الانتصارات عبر إحرازه لقب الليغا عام 2005، وتعزيزه بآخر في الموسم التالي، الذي شهد كذلك استعادة لقب غالٍ طال انتظاره هو لقب الشامبيونز ليغ الذي حصده الفريق بفوزه على أرسنال في نهائي عام 2006، وهو ذات العام الذي شهد تصعيد جوهرة لاماسيا ومشروع أسطورة البارسا عبر العصور ليونيل ميسي رسمياً إلى الفريق الأول.
عصر التيكي تاكا
لم تستمر عجلة الانتصارات بالدوران طويلاً في عهد رايكارد، بل توقفت تماماً لموسمين كاملين أُقيل على إثرهما من تدريب النادي، وتمت الاستعانة بابن النادي جوزيب غوارديولا (بيب) لتبداً معه الحقبة الأكثر توهجاً في تاريخ النادي على الإطلاق، فقد بنى الرجل على ما تعلّمه من أستاذه ومدربه السابق كرويف صاحب فلسفة الكرة الشاملة، وأضاف عليها لمساته الخاصة التي ساعدته فيها معرفته الحقّة بأغلب وأهم لاعبي الفريق (ميسي- تشافي- إنييستا – بويول – بوسكيتس- بيكيه – بيدرو – فالديز) من خلال تدريبهم في فرق الفئات السنيّة للنادي، ليبتكر أسلوباً بديعاً طبع به أداء فريقه طيلة فترة تدريبه هو أسلوب (التيكي تاكا) الذي يعتمد على الاستحواذ والتمريرات السريعة.
بهذا الأسلوب بنى الفيلسوف –لقب غوارديولا- لبِنات فريق عصيٍّ على الخسارة شيمته الثبات والاستقرار، حصد من خلاله أخضر البطولات ويابسها، مفتتحاً مواسمه بسداسيّة -عزّ مثيلها- تضمنت جميع الألقاب الستة الممكنة للعام 2009، بدءاً بلقب الليغا الغالي وكأس الملك الغائب منذ التسعينيات، ومروراً بالبطولة الأهم والأصعب الشامبيونز ليغ التي حققها بفوزه في النهائي على عملاق الانكليز مانشستر يونايتد، وانتهاءً بألقاب (البريستيج) المكمّلة: كأس السوبر الإسبانية ومثيلتها الأوروبية وكأس أندية العالم، أتبعه بموسمين جديدين من التألق أحرز فيهما لقبي ليغا متتابعين كما جدد فوزه بأمجد البطولات الأوروبية على حساب المنافس ذاته مانشستر يونايتد في نهائي عام 2011، قبل أن يختتم غوارديولا حقبته بلقب أخير في كأس الملك عام 2012، فضّل بعده التنحي وترك الدفّة لمساعده وصديقه تيتو فيلانوفا الذي لم تساعده حالته الصحية على البقاء لأكثر من موسم واحد رحل إثره عن الحياة.
ليخلفه الأرجنتيني تاتا مارتينو الذي رحل بعد موسم فاشل اتسم بالتخبط والعشوائية، ليعهد بالتدريب من بعده إلى لاعب الفريق السابق لويس إنريكة مطلع الموسم المنصرم فيعود معه الانضباط المفقود منذ رحيل غوارديولا، ليساهم ومعه ثلة النجوم بقيادة الأسطورة ميسي والهدافَين نيمار وسواريز وباقي رعيل (التيكي تاكا) العتيد في عودة التألق والبطولات للبلوغرانا، ويصبحوا على أعتاب إنجاز مماثل لسداسية عام 2009 وذلك بعد الفوز بلقب الدوري والتأهل بكل جدارة إلى نهائيي كأسي ملك إسبانيا وأبطال أوروبا أمام كل من أتلتيك بلباو ويوفنتوس على التوالي.
أكثر من مجرّد ناد
ويبقى برشلونة بسنيّ عمره التي ربت على 115 أكثر من مجرّد نادٍ رياضيّ ناجح، فهو-بملعبه الضخم (الكامب نيو) ومتحفه البديع الذي يحكي قصة نجومه وبطولاته، يعدُّ معلماً سياحياً بارزاً من معالم مدينته وصرحاً اقتصاديّاً هائلاً يدعم اقتصاد مدينته بملايين اليوروهات سنوياً، فضلاً عن قيمته السياسية والاجتماعية كرمز من رموز استقلال كاتالونيا وعزّتها.