على مدار العقود الأولى للجمهورية التركية، ارتكز حزب الشعب الجمهوري في تطبيق سياساته إلى الشرعية التي حصل عليها مجلس الأمة من حرب الاستقلال كما ذكرنا في المقال السابق، بيد أن إقصاء الشرائح المحافظة من مجلس الأمة الأول رفع الكثير من علامات الاستفهام على شرعية كل ما قام به مصطفى كمال طوال حكمه، حيث رأي كثيرون أن إصلاحاته ما كانت لتُطبَّق لولا إحكام قبضته على السلطة، وأن المحافظين ظلوا هم الأغلبية خارج نطاق المدن الكبيرة.
بعد تغيّر المناخ الداخلي والخارجي في تركيا بعد الحرب العالمية، والذي حتّم انضمام تركيا للحلف الأمريكي لتقف بوجه الخطر الروسي، نجح عصمت إينونو في الوقوف للكثيرين داخل حزب الشعب ممن أرادوا الاستمرار في النهج الأتاتوركي، ورأي أن ترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية أهم ركن من أركان اللحاق بالغرب، حتى ولو أدى ذلك لخسارة الحزب، وقد نجحت جهوده بالفعل في إجراء أول انتخابات ديمقراطية في تركيا عام 1950، والتي أعطت الشارع التركي فرصة للتعبير عن آرائه التي رفضت السلطة سماعها طويلًا.
رئاسة وزراء مندرس
مع حلول موعد الانتخابات، كانت المنافسة محصورة بين حزب الشعب الجمهوري بقيادة إينونو، والحزب الديمقراطي الذي تشكّل من مجموعة أعضاء سابقين بحزب الشعب، مثل جلال بيار وعدنان مندرس، والذين نجحوا في تنظيم حراك قوي في المحافظات وكسب الشرائح المحافظة، بينما فشل حزب الشعب في تحريك قواعدة والتي اكتشف أنها غير موجودة أصلًا سوى بين مثقفي ومتعلّمي الطبقة الوسطى في أنقرة وإسطنبول ومحافظات المتوسط (ولا تزال إلى اليوم)، ليكتسح الحزب الديمقراطي ويحصل على 408 مقعدًا مقابل 69 فقط لحزب الشعب.
بعد فوزه، أصبح عدنان مندرس رئيسًا للوزراء، في حين حصل جلال بيار على منصب رئيس الجمهورية، ثم بدأ الحزب الديمقراطي سنواته في السلطة بنمو اقتصادي قوي نتيجة تبني سياسات الاقتصاد المفتوح والدخول رسميًا إلى حلف الناتو عام 1952، لتحصل تركيا على دعم مالي كبير من واشنطن جراء مشاركتها في الحرب الكورية، وهو ما عزز من شعبيته وأتاح له الاكتساح في انتخابات 1954، ليحصل على 490 مقعدًا مقابل 30 فقط لحزب الشعب.
عدنان مندرس (يمين) مع رئيس الجمهورية جلال بيار (يسار)
في الواقع كان نظام الانتخاب التركي مصممًا من قبل ليصُب في صالح الأحزاب الكبيرة، ولا يُمكّن الأحزاب الصغيرة التي تحصل على أصوات متفرقة هنا وهناك من التأثير على البرلمان، وكان ذلك في مصلحة حزب الشعب حين كان معارضوه من ذوي الآراء الليبرالية يؤسسون أحزابًا صغيرة، ويحاولون مناطحة الحزب داخل البرلمان، بيد أنه بعد فتح باب الديمقراطية السياسية بالكامل، أصبح ذلك القانون، للمفارقة، واحدة من أسباب هيمنة المحافظين بشكل كبير، بل وأعطى مندرس ثقة مطلقة في قدرته على تسيير دفة البلاد منفردًا.
نتيجة لذلك، اتجه الحزب الديمقراطي إلى سياسات أتوقراطية بعض الشيء استنادًا لأغلبيته المطلقة، فقام بالاستحواذ على ممتلكات حزب الشعب، وتضييق هامش حرية الصحافة بفرض غرامات على من يهين الدولة أو الدستور، وهي كلمات كان القصد منها بالطبع تهميش الأصوات المعارضة، والتي اشتدت في أواخر الخمسينيات نتيجة تراجع الأداء الاقتصادي، وفشل الحزب في إدارة الميزانية، ووصول التضخّم إلى 15٪، وهو ما انعكس في انتخابات 1957، التي تراجع فيها الحزب إلى 424 مقعدًا مقابل صعود حزب الشعب إلى 178 مقعدًا.
رُغم هبوط أرصدته، استمر الحزب في الاعتماد على أغلبيته لتسيير دفة البلاد بتهميش المعارضة، وكان المسمار الأخير في نعش حكومة مندرس هو الأمر الذي أعطاه للجيش مطالبًا إياه بوقف عصمت إينونو عن القيام بأي دعاية انتخابية، في حين انتشرت الأخبار بأن الخطوة القادمة ستكون إغلاق الحكومة لحزب الشعب، وهو ما يقول أنصار مندرس حتى اليوم أنها كانت خطوات استباقية لمحاولات قلب الطاولة عليه، في حين يقول معارضوه أنها كانت محاولة لتحجيم إينونو بعد عودته بقوة في الانتخابات وتهديده بتشكيل حكومة ائتلافية مع الأحزاب الصغيرة.
رُغم بقاء الجيش على هامش الحياة السياسية طوال فترة تأسيس الجمهورية، صار حتميًا أن يلعب دورًا نتيجة توسع ميزانيته ودوره بعد انضمامه للناتو، وكان الجيش في تلك الفترة مهمومًا بالأساس باستقرار الساحة السياسية ليتسنى له القيام بدوره في الخارج، ولكنه بطبيعة تكوينه كان يميل إلى الحرس العلماني القديم، وهو ما دفعه إلى الانقلاب على السلطة بعد التوتر في سنوات مندرس الأخيرة، والتي رأى فيها أنه لن يستطيع أن يحكم بشكل مستقر.
الجمهورية الثانية وعودة المحافظين
صحيفة يني إسطنبول صبيحة الانقلاب يوم 27 مايو 1960
فور إعلان الانقلاب في 27 مايو 1960، تم حبس كافة أعضاء الحزب الديمقراطي، والإعلان عن مجلس للوحدة الوطنية من قيادات الجيش لإدارة البلاد، وعلى رأسهم جمال كورسل القائد العام للجيش، وتشكيل لجنة لكتابة دستور جديد، وكان لعصمت إينونو تأثير بالطبع نتيجة علاقته التاريخية بأتاتورك، وكان هو رُغم رصيده الديمقراطي من مؤيدي الانقلاب نتيجة ما رآه من الاستخدام “غير الديمقراطي” للأغلبية الديمقراطية، وذلك حتى مع قيام السلطة العسكرية بإعدام مندرس دون محاكمة مع اثنين من وزرائه، وهو ما قيل أنه تم دون علم إينونو وكورسل طبقًا لأقوال بعض القيادات العسكرية السابقة.
كيف يمكن صياغة نظام لا يُسمَح فيه لأي شخص، حتى ولو حصل على أغلبية مطلقة، بأن يحكم بشكل مُطلَق؟ كان هذا هو السؤال الأبرز في ذلك الوقت، وهو ما دفع لجنة كتابة الدستور إلى تقسيم مجلس الأمة إلى مجلسين، على غرار النظام الأمريكي والبريطاني، مجلس للنواب ومجلس للشيوخ، وكان الأخير مكونًا من 150 عضوًا بالانتخاب، وأعضاء مجلس الوحدة الوطنية العسكريين غير المنتخبين، بالإضافة لـ15 عضوًا يعيّنهم الرئيس، أضف لذلك أن الدستور نص على تشكيل محكمة دستورية يمكنها أن ترفض أي قانون يمرره البرلمان، وخلق منظومة مستقلة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون لكيلا يصبح أداة بيد الحكومة.
تم تمرير الدستور عام 1961 باستفتاء شعبي، لتبدأ الجمهورية الثانية، والتي دشّنت دور العسكر في السياسة، وإن لم يحكموا بشكل مباشر ولم يكونوا راغبين في الاستمرار في السلطة طويلًا في الحقيقة، وكذلك أرست نظامًا لا يستطيع أحد الاستئثار به على غرار أتاتورك أو مندرس، وكان هذا مريحًا للعلمانيين لأنهم علموا أن فتح باب الديمقراطية لم يكن ليعطيهم أصلًا تلك الفرصة للانفراد بالسلطة كما كانوا أيام أتاتورك، وقد لعب ذلك النظام دورًا في نجاح حزب الشعب بالخروج بأكبر نسبة من الأصوات في انتخابات 1961، ليعود إينونو إلى رئاسة الوزراء، في حين تفرقت أصوات المحافظين بين أحزاب مختلفة خلفت الحزب الديمقراطي.
سليمان دميرل
بطبيعة الحال، لم يمر وقت طويل حتى تكتل المحافظون خلف رجل جديد، هذه المرة المهندس سليمان دميرل صاحب الأصول الريفية، والذي درس في الولايات المتحدة وخدم كوزير في حكومة مندرس، ليصبح رئيسًا لحزب العدالة، ويكتسح في انتخابات 1965 بـ240 مقعدًا مقابل 134 لحزب الشعب، ويشكل الحكومة، ويبدأ من جديد سياسة ناجحة لفتح الاقتصاد وتشكيل قاعدة صناعية قوية، بيد أن المنظومة التي ترأس فيها دميرل هذه المرة كانت بحكم دستور 1961 أقل استقرارًا وأكثر قابلية للتفسخ نتيجة السماح بظهور الأحزاب الصغيرة، أضف لذلك أن أواخر الستينيات شهدت حراكًا طلابيًا عنيفًا، وظهور حركة يسارية بين الاتحادات العمالية.
مرة أخرى، ألقى الجيش بظلاله على الساحة السياسية بعدما ساءه الاضطراب السياسي الذي انتقل إلى مواجهات بين الطلاب والعمال من ناحية، والشرطة من ناحية، في الشوارع، ليقوم بانقلاب ناعم كما سُمي لاحقًا، حيث أرسل مذكرة إلى رئيس الجمهورية يطلب فيها اتخاذ خطوات جادة تجاه الاضطرابات، ليقدم رئيس الوزراء دميرل مباشرة مع حكومته استقالتهم، ويتم تشكيل حكومة تكنوقراط كانت قريبة من العسكر.
السبعينيات: العقد المضطرب
في عام 1973، كان حزب الشعب يمر بتحول كبير بدأ يرى فيه أنه بحاجة لتقديم نفسه كحزب قريب إلى رجل الشارع، وكان إينونو العجوز في ذلك الوقت قد بدأ يتراجع في مقابل صعود نجم المفكر اليساري بولنت أجاويد، والذي فاز برئاسة الحزب في نفس العام، ليدشن موقعًا جديدًا لحزب الشعب في الساحة السياسية باعتباره حزب يسار الوسط، لما رآه من قدرة تلك الصورة على منافسة المحافظين في الشارع التركي من ناحية، واحتواء الحراك اليساري الجاري من ناحية أخرى.
نجحت تلك الاستراتيجية في الخروج بحزب الشعب بالمركز الأول في انتخابات 1973، في حين ظهر لأول مرة حزب إسلامي صِرف هو حزب السلامة بقيادة نجم الدين أربكان في المركز الثالث، والذي شكل الحكومة بالائتلاف مع بولنت أجاويد في محاولة لإثبات نفسه سياسيًا وإن مع حزب يعتبر بعيدًا عنه، في حين رأي أجاويد أن فتح الباب لأربكان سيقلل أكثر من رصيد دميرل كممثل وحيد للمحافظين، مما يخلق انقسامًا بين أصوات المحافظين لصالح حزبي العدالة والسلامة.
بولنت أجاويد
ارتفعت شعبية أجاويد بقوة عام 1974 بعد مغامرة اجتياح قبرص، والتي دخلت فيها القوات التركية بالقوة إلى شمال قبرص لإنقاذ الأتراك، وهم ثُلث سكان الجزيرة، من خطط الانقلاب اليونانية، والتي قيل آنذاك أنها كانت لتوحّد الجزيرة تحت حكم اليونانيين بالإكراه، وكان الاجتياح قد تلاه إعلان جمهورية شمال قبرص التركية فيما رآه كثيرون انتصارًا سياسيًا وعسكريًا لأنقرة، وهو ما دفع أجاويد للدعوة لانتخابات جديدة في محاولة لاستغلال شعبيته الصاعدة في توسيع سيطرته البرلمانية وتشكيل الحكومة بدون أربكان.
لسوء حظه، لم ينجح أجاويد سوى في حصد 28 مقعدًا إضافيًا، في حين تراجع أربكان لصالح عودة دميرل، والذي شكّل الحكومة بالائتلاف مع كل من أربكان، وألب أرسلان توركش القومي المتطرف في نوع من ترسيخ سيطرة اليمين على الساحة السياسية التركية بكافة أشكاله القومية والدينية، بينما اكتفى حزب الشعب بموقع المعارض رغم حصوله على أكبر عدد من المقاعد.
طوال تلك الفترة، استمر التوتر في الشارع التركي بين اليمين واليسار المتطرفَين، وتراجع شرعية المنظومة القائمة بكل القيادات السياسية الموجودة على الساحة، أضف لذلك صعود الحركة الإسلامية بشكل غير مسبوق مدعومة معنويًا بانتصار الثورة الإيرانية عام 1979، لا سيما مع نزوح أعداد كبيرة من الريف إلى المدن الكبيرة وبأعداد مهولة بعد نمو الاقتصاد القوي تحت حكومات دميرل، مما عزز من أرصدة المحافظين في المدينة، وزاد من الاستقطاب الاجتماعي في المدن بين المحافظين والعلمانيين، إلى جانب حرب الشوارع التي قامت بين اليمين القومي وتنظيماته المسلحة، واليسار المتطرف العنيف.
غلاف النيوزويك في ستمبر 1980 بعد الانقلاب العسكري الثاني
إثر صعود أسعار النفط بشكل كبير في أواخر السبعينيات، وهبوط مفاجئ في تحويلات العمالة التركية بالخارج، أصيبت تركيا عام 1979 بأزمة اقتصادية استقال على إثرها دميرل، ليشكل أجاويد الحكومة لعام، ثم تسقط حكومته ليعود دميرل لأقل من عام، في إشارة لعدم الاستقرار الشديد الذي آلت إليه تركيا، وهو ما دفع الجيش التركي إلى الانقلاب عام 1980 بشكل رسمي، وحل جميع الأحزاب بما فيها حزب الشعب، وسجن كافة القيادات دون مواربة، لا سيما وأن إينونو صاحب الإرث الطويل كان قد توفي عام 1973.
ماذا فعل الجيش التركي إذن بعد أن كنس الساحة السياسية من كل وجوهها القديمة وتربع منفردًا على عرش السلطة بينما بدأت الحرب البادرة في الأفول وصارت الرأسمالية قاب قوسين أو أدنى من إعلان انتصارها؟