الصراع الحادث الآن في دولة جنوب السودان بين الرئيس الجنوبي “سيلفاكير ميارديت”، ونائبه السابق “رياك مشار” وصل ذروته وقد أثر على الوضع الجنوبي الداخلي وزاده تدهورًا فوق ما هو عليه، فالخرطوم تقول أن ثمة ربع مليون لاجئ جنوبي وصلوا إلى أراضيها فرارًا من القتال الدائر بين الموالين للرئيس سليفاكير ونائبه السابق مشار.
هذا الصراع الخفي طفى على السطح حينما أقال سيلفاكير نائبه مشار بدعوى التخطيط لانقلاب عسكري ضده، وهو ما أثار مشار وقبيلته “النوير” ثاني أكبر القبائل في جنوب السودان والتي تحتفظ بمنصب نائب الرئيس حسب التوزيع القبلي للمناصب، بينما يكون رئيس البلاد من قبيلة “الدينكا” وهي أكبر قبائل جنوب السودان بل وثاني أكبر القبائل الإفريقية على الإطلاق بعد قبائل “الزولو” في جنوب إفريقيا، وجراء هذا الصراع أعلن مشار نفسه بديلا لسليفاكير.
اشتعل القتال بين الطرفين ودخلت الأطراف الإقليمية كالعادة لتزيد من الوضع اشتعالًا، فنظام الخرطوم الذي دعم “سيلفاكير” في أحيان كثيرة بات متهمًا بدعم المتمردين في الجنوب، فيما يرى محللون أن مشار هو ابن المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم، لذلك لن يتخلى نظام الشمال عن دعمه في وجه سيلفاكير بالرغم من علاقات البشير بسيلفاكير.
كما أدى هذا القتال المشتد يومًا بعد يوم في الجنوب إلى رحيل بعض البعثات الدولية الخاصة بشركات البترول العاملة في حقول الجنوب، وهو الأمر الذي أصاب جوبا بالشلل التام نتيجة النقص الحاد في إنتاج المواد البترولية، حتى عرضت حكومة البشير إرسال فنيين لتشغيل الحقول التي توقفت عن الانتاج بسبب إنسحاب الأجانب، وذلك لسد عجز المشتقات النفطية في الجنوب.
المجتمع الدولي لم يتخذ مواقفًا حاسمة إزاء الأوضاع المتدهورة في الجنوب، فالأمم المتحدة تصدر بيانًا تلو الآخر تطالب فيه الطرفين بالتوصل إلى حل سياسي ينهى الأزمة الراهنة، مع دعوتهم للتخلي عن العنف، ولكن هذه دعوات لم يكن لها أي صدى في جوبا.
الاتحاد الإفريقي رعى اتفاقًا أكثر عملية من نداءات الأمم المتحدة يقضي بوقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة لكنه لم يدخل حيز التنفيذ وجرى اختراقه من الطرفين، فالقتال يزداد اشتعالا بين الطرفين، ما دعى المفاوضين إلى تأجيل جلسات الحوار بين الأطراف لأجل غير مسمى.
المتمردين التابعين لمشار يزدادون قوة خاصة بعد الحديث عن دعم إثيوبي آخر في الخفاء، حيث تصاعدت وتيرة الصراع في أعالي النيل مع انضمام مجموعات جديدة للمتمردين في ملكال والإستوائية التي شهدت هي الأخرى معارك ضارية الفترات الماضية، ما ينذر باقتراب الجنوب من حافة الفوضى العامة التي قد تضرب البلاد في أي لحظة، ويدلل أصحاب هذا الإتجاه بأن الجنوب سيدخل في حالة إنهيار تمكن المتمردين من دخول العاصمة جوبا عن طريق السلاح إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
هذه التطورات قادت الاتحاد الإفريقي للتصعيد في لهجته ضد أطراف القتال سيلفاكير ومشار، إذ طلب الاتحاد من الأمم المتحدة فرض عقوبات إقتصادية وحظر الأسلحة على الأطراف المشاركة في الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان، وذلك من خلال بيان صادر عن مجلس السلم والأمن الأفريقي يؤكد أن شعب جنوب السودان يعاني بالأساس من الحروب، وهذا التصعيد من الطرفين سيزيد من معاناة المدنيين.
سليفاكير من جانبه لا يرى أن الأمر محتمل الهدوء لأنه دخل في صراع صفري مع مشار وكذلك مشار يرى أن الفرصة باتت سانحة أمامه للنيل من سيلفاكير والظفر بمنصب الرئاسة، وهو ما يهدد باشتعال الحرب القبلية بين أكبر قبيلتين في الجنوب النوير والدينكا، وهو ما سيعيد للعالم ذكريات الحروب القبلية الإفريقية التي أبادت الملايين وسط اكتفاء المجتمع الدولي بالمشاهدة.
يرى محللون أن الصراع ليس سياسيًا فحسب بل إن عامل النفط قد دخل اللعبة السياسية في الجنوب، فعائدات النفط تأتي من مناطق لديها نزاعات مع قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها سيلفاكير الرئيس، والتي قررت أن تخوض الحرب ضده، بوقف الحقول الواقعة تحت سيطرتها، وهو ما دفع الصينيون أقدم الشركات التي استخرجت البترول في الجنوب منذ اندلاع الحرب الشمالية والجنوبية إلى إجلاء موظيفها بعملية عسكرية، وهو ما يعني أن الأمر وصل لطريق مسدود، فالصينيون لم يتركوا الجنوب في ظل صراع حكومة البشير مع جون قرنق الزعيم الجنوبي السابق، ولكن صراعًا مشتعلا كهذا أجبرهم على ترك بترول الجنوب، وهو ما يعطي صورة ذهنية على مدى شدة القتال في جوبا.
الأمر جعل مشار وقبيلته النوير يرون أن البترول يقع في مناطق خاضعة لسيطرتهم بينما حصيلتهم من اقتسام السلطة هي النائب فقط، مما دعى مشار إلى التطلع للمطالبة بمنصب الرئاسة بدعم من قبيلته أمام سيلفاكير والدينكا، في حين تزداد نظرتهم إلى الجنوب بأنهم أصحاب الفضل في استخراج البترول وحمايته حتى الانفصال.
اندلاع حرب أهلية في الجنوب لن يكون لفترة محدودة وينتهي كما يتصور البعض، فهناك التجربة السودانية قبيل الانفصال التي ظلت تحارب المتمردين في الجنوب أكثر من 50 عامًا دون أن ينتهي التمرد، حتى حظيت دولة الجنوب باستقلالها منذ أربعة عام فقط، ومن ثم ظهرت إرهاصات حرب أهلية جديدة ستعصف بمكتسب الانفصال كما يرى سكان الجنوب الذين أعرب بعضهم عن ندمهم على أخذ قرار الانفصال عن الشمال، حتى أنهم يلجأون إلى الخرطوم بكثافة شديدة في هذه الفترات.
الشمال هو من دفع ثمن الانفصال وحده على حساب اقتصاده بدعوى شراء السلام، ولكن الأمر لم يستتب حتى هذه اللحظة، فالأمر تحول تدريجيًا إلى حرب بالوكالة بين السودانيين في الشمال وحكومة سيلفاكير في الجنوب، فبينما يتهم البشير حكومة جوبا بدعم المتمردين في دارفور وتمرير السلاح إليهم، تتبادل جوبا نفس التهمة مع الخرطوم باتهامها البشير بدعم تمرد مشار على السلطة وهو ما أحدث توتر على طول 1800 كليو متر هي الحدود الآن بين الشمال والجنوب، هذا التوتر قد يغير من توجه الخرطوم بشأن سيلفاكير، فالخرطوم لم ترى حتى الآن ضرورة لإسقاط سيلفاكير.
الولايات المتحدة في هذا الصراع حتى الآن تقف موقف المتفرج مما يحدث، فسيلفاكير اتهم واشنطن بدعم مشار بسبب سيطرت قبيلته على مناطق البترول، وهو موقف أمريكي منتهز للحظة الحالية إذا ما استقرت لمشار، حتى يكون حليفها الأول في حالة سقوط سيلفاكير، والرئيس الجنوبي الآن يلجأ إلى المنظمات الدولية حتى تتخذ موقفًأ من انقلاب مشار عليه، رافضًا أي شروط لمشار في أي حوار سياسي، ما عقد من الأزمة الجنوبية التي لا يبدو وأنها ستنتهي قريبًا.