ترجمة وتحرير نون بوست
في الصباح الباكر من يوم 9 مايو 2008، أرسل حزب الله الشيعي اللبناني مئات المقاتلين المدججين بالسلاح إلى بيروت، وخلال 12 ساعة، استطاع تغيير التوازن السياسي في لبنان، حيث استطاع هزيمة الميليشيات السنية بسرعة، وسيطر على مكاتبهم السياسية، وأغلق وسائل الإعلام المملوكة للزعيم السني البارز، وحينها أُصيبت الحكومة اللبنانية بالشلل، واتخذ الجيش اللبناني موقفًا هامشيًا.
وإبان موجة الثورة والعنف التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط خلال السبع سنوات التي لحقت ذاك اليوم، أصبح حدث احتلال حزب الله لبيروت في 9 مايو 2008 هامشيًا إلى حد ما، ولكن في وقت لاحق، تبين أن أحداث مايو 2008، كانت أحد افتتاحيات حرب الوكالة بين السعودية وإيران؛ فبينما كانتا تتقاتلان بالفعل من خلال وكلائهما في العراق، عملت سيطرة حزب الله لفترة وجيزة على بيروت، والأحداث التي ساقت إلى هذه السيطرة، إلى نقل الصراع إلى ساحة معركة جديدة، ومستوى جديد، كما ساعد هذا الحدث على إعطاء لمحة عن مستقبل المنطقة على مدى السنوات القادمة، والذي تبين أنه متخم بالعنف الطائفي، وحروب الوكالة، التي توسعت لتشمل سورية، العراق، اليمن، بقية لبنان، والبحرين.
إثر غزو إدارة جورج دبليو بوش للعراق، والإطاحة بنظام البعث في عام 2003، أدركت كلًا من إيران والمملكة العربية السعودية حتمية وقوع العراق في الفراغ السلطوي، وبدأتا مناوراتهما ومنافساتهما المحتدمة لملء هذا الفراغ، حيث دعمت الأنظمة السنية المجاورة المقاتلين والقبائل السنة، في حين دعمت إيران الميليشيات الشيعية والحكومة المركزية في بغداد، وآل سعود، الذين كانوا يعتبرون العراق، منذ فترة طويلة، حصنًا ضد النفوذ الإيراني، حاولوا زعزعة استقرار الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة، كما تنامى قلق الدول العربية السنية إلى ما بعد العراق، حيث إطرد نفوذ إيران الإقليمي المتمثل ببرنامجها النووي، ودعمها لحزب الله وحماس، وتحالفها مع الرئيس السوري بشار الأسد.
في ذلك الوقت، تحالفت واشنطن، والأنظمة العربية السنية الاستبدادية مثل السعودية، والدول الخليجية الأخرى، ومصر، لدعم الحكومة التي يقودها السنة في لبنان بمواجهة حزب الله، وهو حزب سياسي، يقود ميليشيات مسلحة وممول من إيران، ويتمتع بجذور متغلغة عميقًا ضمن المجتمع الشيعي اللبناني، وبدأت الأزمة في لبنان في فبراير 2005، مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وهو ملياردير لبناني يتربع على عرش مملكة مالية عمرانية، ويعتبر من أبرز الزعماء السنة في البلاد، وحليف مع السعودية منذ فترة طويلة، حيث أدت جريمة اغتياله إلى انشقاق اللبنانيين إلى فصائل موالية للسعودية، وفصائل موالية لإيران.
بعدها، صُعق العالم العربي بالأداء المبهر والقوي لحزب الله ضد الجيش الإسرائيلي الأكبر تفوقًا عسكريًا في حرب يوليو من عام 2006، وفي شهر نوفمبر، وبعد أن فشلت المحادثات بين حزب الله والولايات المتحدة ورئيس الوزراء اللبناني المدعوم من السعودية، فؤاد السنيورة، استقال ستة وزراء، يمثلون حزب الله وحلفائه من الحكومة، ومن ثمّ أطلق الحزب وأنصاره المسيحين احتجاجات غير عنيفة في وسط بيروت، وأقاموا مئات الخيام خارج السراي الحكومي، ونظموا مظاهرات كبيرة تطالب باستقالة السنيورة، أما السنة في لبنان وعدد من الفصائل المسيحية الموالية لهم اتحدوا خلف السنيورة، في حين هرعت الولايات المتحدة والأنظمة العربية السنية لدعمه أيضًا.
في أبريل 2008، اكتشف الساسة اللبنانيون المدعومون من الغرب أن حزب الله يمتلك شبكة اتصالات سرية مصنوعة من الألياف البصرية، وعمدوا فورًا إلى تزويد الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، وحلفائهم الآخرين بكامل التفاصيل بما في ذلك خريطة تتبع مسار شبكة التجسس.
“إيران تيليكوم تسيطر على البلاد” هكذا قال مروان حمادة، وزير الاتصالات اللبناني حينها، لمسؤولين في السفارة الأمريكية، وفقًا لبرقية دبلوماسية سربها موقع ويكيليكس، وأوضح حمادة للدبلوماسيين أنه بمجرد سماع الزعيم السني سعد الحريري – نجل رئيس الوزراء رفيق الحريري وحليف رئيس للسعودية في لبنان – عن شبكة حزب الله، أرسل طائرة خاصة من المملكة العربية السعودية للحصول على نسخة من الخريطة، بغية تقاسمها مع العاهل السعودي ورئيس المخابرات السعودية.
كما أوضحت البرقية أن حمادة أخبر الدبلوماسيين الأمريكيين، أن شبكة الألياف البصرية تم بناؤها سرًا، بمساعدة من مسؤولي البلدية، وتم تمويلها من صندوق إعادة إعمار لبنان الإيراني، والذي اضطلع بإعادة بناء الطرق والجسور التي دمرتها إسرائيل خلال حرب 2006، وأكدت تعليقات حمادة أن حلفاء السعودية في لبنان كانوا يرون شبكة اتصالات حزب الله كجزء من تهديد إيراني أكبر، قد يصل إلى مرحلة التهديد الوجودي، حيث جاء في البرقية المسربة “حمادة يعتبر شبكة الاتصالات تشكل انتصارًا إستراتيجيًا لإيران، لأنها تُوجد لإيران موقعًا متقدمًا مهمًا في لبنان، متجاوزة سورية”، وتابعت البرقية “إن حمادة يعتبر أهمية المسألة بالنسبة لإيران إستراتيجية أكثر منها فنية أو اقتصادية، وأهمية المسألة لحزب الله تأتي من كونها الخطوة النهائية في خلق الحزب الدولة”، كون حزب الله، وفقًا لما جاء في البرقية، لديه الآن جيش وأسلحة، محطة تليفزيون، نظام تربوي، مستشفيات، خدمات اجتماعية، نظام مصرفي، وشبكة اتصالات.
في 6 مايو 2008، أصدر السنيورة وحكومته أمرًا بحظر شبكة الألياف البصرية، وأمرًا آخر بعزل رئيس أمن عام مطار بيروت، أحد حلفاء حزب الله، وحينها اتهم الحزب الولايات المتحدة وإسرائيل بالتحريض على القرارين، وطالب بأن يتم إلغاؤهما، وفي 7 مايو، اندلع القتال بين حلفاء حزب الله وأنصار الحريري، وعلى إثرها، وفي 9 مايو، نشر حزب الله مئات المقاتلين المدججين بالسلاح في المناطق السنية غرب بيروت، حيث استطاعوا هزيمة أنصار الحريري في غضون ساعات، وإغلاق محطات الصحف والتلفزيون التابعة لتيار المستقبل، وهو الحزب السياسي الذي يترأسه الحريري، وفي 15 مايو، ألغت حكومة السنيورة أوامرها، وسحب حزب الله مقاتليه من الشوارع، وتوجه قادة الفصيلين إلى قطر للتفاوض تحت رعاية جامعة الدول العربية.
في تلك الفترة، كنت مقيمًا في بيروت، وأسكن في الحي الذي يضم مكتبًا تابعًا لحزب تيار المستقبل، وكان يتجمع دائمًا مسلحون خارج هذا المبنى، وفي صبيحة يوم 9 مايو، وإثر ليلة من إطلاق النار المتقطع والقذائف الصاروخية، رأيت مجموعة من مقاتلي حزب الله يتحركون نحو المكتب، ثلاثة مقاتلين من القوات الخاصة، يرتدون زيًا رماديًا وأخضر، مختبيئن قرب المبنى، وبنادقهم مسنودة إلى ركبهم، وفي حديقة صغيرة مجاورة، تقدم مقاتلان آخران بتكتيك ممنهج وفي تشكيل عسكري معين نحو الحي، وهم يصيحون “لا تخرجوا، ابقوا داخل منازلكم، ولا تطلوا من الشرفات”، وحينها ركض صبي في سن المراهقة نحوهم، وهو يرفع يديه فوق رأسه مستسلمًا ، وكان حافي القدمين وممزق القميص، ليظهر بأنه لم يكن مسلحًا.
نجاح حزب الله السريع، أقلق المملكة العربية السعودية، التي أنفقت عشرات الملايين من الدولارات لتمويل حزب الحريري السياسي، ولتسليح حلفائه في قوى الأمن اللبنانية، وبدا الهلع السعودي واضحًا من العنوان العريض الذي ابتدرت به صحيفة الشرق الأوسط السعودية؛ إثر استيلاء حزب الله على بيروت، حيث عنونت “بيروت تحت الاحتلال الثاني”، في إشارة وتشبيه إلى الحصار الإسرائيلي واحتلال بيروت في عام 1982.
النظام السعودي كان قلقًا للغاية حول حزب الله والنصر الإيراني المتصور في لبنان، حتى إن القادة السعوديين اقترحوا تشكيل قوة عسكرية أمنية عربية، تدعمها واشنطن وحلف شمال الأطلسي، لتتدخل في بيروت، وفقًا لبرقية دبلوماسية أخرى كشف عنها موقع ويكيليكس، حيث بينت البرقية أن الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي حينها، طرح الفكرة في 10 مارس على المستشار الأمريكي الخاص في العراق، ديفيد ساترفيلد، أثناء زيارة الأخير للرياض، وحينها أشار سعود وفقًا للبرقية “إن الجهود التي يبذلها حزب الله وإيران للسيطرة على بيروت، هي الخطوة الأولى في العملية التي ستطيح بحكومة السنيورة، وستمهد الطريق لاستيلاء إيران على كامل لبنان”، وبالطبع فإن هذا الانتصار، جنبًا إلى جنب مع المساعي الإيرانية في العراق والجبهة الفلسطينية، سيكون كارثة بالنسبة للولايات المتحدة والمنطقة بأسرها.
وفقًا لما جاء في التسريب، أشار سعود حينها أن القوة العربية يمكن أن يتم تشكيلها من دول الجوار، بما معناه أن السعودية أو غيرها من بلدان الخليج لن تشترك بتشكيل هذه القوة، وسيتم نشرها في بيروت تحت غطاء من الأمم المتحدة، وستعمل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لتوفير المعدات اللازمة لهذه القوة، فضلًا عن الخدمات اللوجستية، خدمات التحرك، والغطاء البحري والجوي، وأوضح سعود أن الصراع في لبنان سيكون بمثابة “معركة أسهل للفوز” من محاولة لتقليص النفوذ الإيراني في العراق والأراضي الفلسطينية.
ساترفيلد والمسؤولون الأمريكيون الآخرون شككوا في الاقتراح السعودي، وتوجسوا من نواياه، وسرعان ما لاقت هذه الفكرة حتفها، ولكنها كانت افتتاحية لبداية عهد ترى فيه إيران والسعودية الخصومة بينهما على أنها معركة مصيرية، ومن يفوز بها سيظفر بالمنطقة بأسرها؛ فإذا اكتسب حزب الله اليد العليا في لبنان، فمن ثم أهل السنة في لبنان، وبالتبعية رعاتهم في السعودية، سيخسرون جولة لصالح إيران، وإذا ما نجحت الحكومة الشيعية في ترسيخ سيطرتها على العراق، فستخسر السعودية جولة أخرى لصالح إيران؛ لذا اندفع آل سعود لدعم حلفائهم في لبنان، سورية، البحرين، واليمن.
الآن المملكة العربية السعودية يحكمها عاهل جديد، الملك سلمان، الذي ارتقى إلى العرش إثر وفاة سلفه الملك عبد الله في يناير الماضي، وورث سلمان السياسة السعودية الهادفة لاحتواء إيران، والتصدي للمشاعر الثورية في جميع أنحاء المنطقة، ولكن سلمان يبدو أكثر حرصًا على التدخل مباشرة في معارك الوكالة مع إيران، كما فعل بالحرب التي تقودها السعودية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن.
مؤخرًا، وردًا على اقتراح المملكة العربية السعودية، وافقت الدول العربية في قمة مارس في جامعة الدول العربية على تشكيل قوة عسكرية مشتركة، هدفها الأساسي مواجهة إيران، وهذه القوة هي ذات القوة الأمنية العربية التي اقترحها سعود الفيصل على المسؤولين الأمريكيين في مايو 2008، والتي كانت تهدف إلى تقليص مكاسب حزب الله في لبنان، ولكن الفارق أن عدوانية السعودية منذ تلك الفترة تفاقمت، فهذه القوة لن تعتمد على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في التغطية الجوية أو البحرية، كما أنها لن تسعى للحصول على غطاء سياسي من الأمم المتحدة قبل التدخل في الدول العربية التي تأن تحت وطأة حركات التمرد، أو النفوذ الإيراني الحقيقي أو المتصور، وبالمختصر، هذا هو الوضع الجديد في المنطقة؛ إيران والمملكة العربية السعودية تعززان مواقعهما في الصراع المفتوح الأمد، وشعب العراق، وسورية، واليمن هو الذي يدفع الثمن.
المصدر: ذي نيويوركر