هذه الأزمة التي طلت على الساحة السياسية الإسلامية في مصر والتي حدثت بين قيادات كبرى الفصائل السياسية الإسلامية في الشرق الأوسط – جماعة الإخوان المسلمين -، ربما لا تجد في تاريخ الجماعة أزمة أعنف منها على المستوى التنظيمي غير تلك التي حدثت بين أعضائها عقب مقتل المؤسس الأول حسن البنا في 12 فبراير عام 1949.
الأزمة حينها كانت بين أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان والتي حصل بينها شقاق بسبب اختيار المرشد الذي سيخلف حسن البنا، فقد طرحت أسماء نفسها على الساحة كان أبرزها عبدالرحمن البنا شقيق البنا، وعبدالحكيم عابدين وصالح عشماوي والشيخ أحمد حسن الباقوري، حتى انتهى الأمر باختيار المستشار حسن الهضيبي والذي قيل حينها إنها بوصية من البنا قبيل مقتله، ولكن ثمة أعضاء لم يعترفوا بالهضيبي مرشدًا عامًا وكانت أزمة كادت أن تعصف بتماسك الجماعة، حتى تم احتوائها داخليًا بين الجميع.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
الأمر تعود جذوره إلى اعتصام رابعة العدوية الذي اجتمع فيه مجلس الشورى العام لجماعة الإخوان المسلمين والذي يعتبر بمثابة الهيئة التشريعية العليا في الجماعة التي تصدر قرارات ملزمة لما دونها من هيئات، وقد اتخذ المجلس قرارًا بالمضي في التصعيد أمام الانقلاب العسكري، وأوصى بإيجاد قيادات بديلة في حالة اعتقال قيادات الصف الأول وقد كان متوقعًا حينئذ خاصة مع تصاعد وتيرة النظام مع قادة الانقلاب.
فضت قوات الجيش والشرطة الاعتصامات التابعة لجماعة الإخوان في كل من رابعة العدوية والنهضة، واعتقلت السلطات الجديدة كل من طالته يدها من قيادات الصف الأول والثاني والثالث في الجماعة، ولم يتبق سوى بعض أعضاء مكتب الإرشاد مطاردين في الداخل، والبعض في الخارج كان قد خرج بتوصيات من مكتب الإرشاد قبيل أحداث 30 يونيو والتي أعقبها انقلاب 3 يوليو، وقد كان أبرزهم محمود حسين الأمين العام للجماعة وأمين صندوقها وكذلك جمعة أمين الذي توفي بالخارج بعد صراع مع المرض.
كُلف الأمين العام محمود حسين بإدارة شؤون الإخوان المصريين المطاردين بالخارج واتخاذ القرارات اللازمة من أجل تنظيم تواجدهم في الأقطار المختلفة، عقب الفض بفترة ومع الاهتزاز الإداري بالجماعة سعت الصفوف المتبقية في مصر بالتنسيق مع القيادات في الخارج إلى إجراء انتخابات لتشكيل مكتب إرشاد جديد يدير الجماعة وأزمتها الحالية وقد تم هذا الإجراء بالفعل في فبراير 2014 وانتهى بتشكيل مكتب جديد لم يضم الأمين العام السابق محمود حسين ولا مجموعة كبيرة من الوجوه القديمة في المكتب، وقد علمت القيادات في السجون بهذه الانتخابات وباركوها، وأكدوا أنهم خلف القيادة الجديدة، وقد شغل منصب الأمين العام الجديد محمد كمال خلفًا لحسين.
حدث طوال عام 2014 شد وجذب في صفوف الجماعة خاصة بين تيار شبابي يرى أن الحراك معدوم الرؤية خاصة في الخارج، منادين بضرورة تصعيد وجوه شابة في إدارة الأزمة الحالية، وبين تيار آخر يرى أن الجماعة تبذل قصارى جهدها وقد تم تصعيد قيادات شابة ميدانية في مصر لتواكب الحدث، إلى أن اتخذ مكتب الإرشاد الجديد في مصر قرارًا بتشكيل لجنة أزمة تابعة له في الخارج تضم 11 عضوًا 7 منهم بالخارج و4 من مكتب الإرشاد في الداخل، السبعة أعضاء التابعين للخارج يتم انتخابهم من مكاتب الإخوان المصريين في أقطار تركيا وقطر وماليزيا والسودان، كأكبر تجمعات للإخوان المصريين المطاردين الذين خرجوا عقب الانقلاب العسكري.
انتخبت لجنة إدارة الأزمة تحت اسم مكتب الإخوان المصريين بالخارج برئاسة أحمد عبدالرحمن أمين حزب الحرية والعدالة بالفيوم ومسؤول المكتب الإداري السابق بالمحافظة، وقد تم الإعلان عنه إعلاميًا وظهر الرجل في لقاء إعلامي، وأعلن أنه أوكل إليه من مكتب الإرشاد في مصر أن يدير ملف الإخوان المصريين بالخارج، بالإضافة إلى مقاومة الانقلاب سياسيًا بشتى الوسائل المتاحة دوليًا.
هذا المكتب الجديد بصورته الحالية سحب البساط من تحت أقدام الأمين العام السابق محمود حسين الذي رأى أن المكتب الجديد في الخارج قد انتزع سلطاته المتعلقة بإدارة الحراك في الخارج، بعدما أوكل مكتب الإرشاد في مصر هذه المهمة إلى لجنة الأزمة الجديدة برئاسة أحمد عبدالرحمن المسؤول عن التنسيق مع كافة الأقطار في هذا الملف، وهو ما أثار غضب حسين الذي يرى أن هذه اللجنة لا يمكن أن تقوم مقام التنظيم الدولي، ورفض تسليم المكتب الجديد الملفات التي بحوزته فضلًا عن الموارد المالية للجماعة التي يتحكم بها حسين.
وجهة نظر محمود حسين لم تكن وحدها، حيث رأت قيادات بالتنظيم الدولي للجماعة وخاصة القيادات العاملة بدول أوروبا وعلى رأسهم القيادي إبراهيم منير أنه لا يمكن الاعتراف بهذه اللجنة وهذا المكتب الجديد، تزامن هذا مع حديث مشابه في مصر بين 7 من قيادات مكتب الإرشاد القديم على رأسهم محمود عزت نائب المرشد محمد بديع، ومحمود غزلان المتحدث السابق باسم الجماعة، وعبدالرحمن البر مفتي الجماعة وعضو مكتب إرشادها، والذين أعلنوا رفضهم للتغييرات التي حدثت في البنية التنظيمية للجماعة بعد الانتخابات الأخيرة التي تمت العام الماضي، مدعين أنها تغييرات مخالفة للوائح، ومعتبرين أن محمود عزت هو القائم بمهام المرشد العام الحالي بصفته النائب الشرعي، غير مكترثين بالانتخابات التي جرت تحت سمعهم وبصرهم دون أن يعترضوا عليها.
وقد اعتبرت هذه المجموعة أن حضور 7 من مكتب الإرشاد القديم نصابًا قانونيًا لإجراء الاجتماع، وهو ما رفضه ممثلو المكتب الجديد وعلى رأسهم محمد كمال، الأمر ألقى بظلاله على مكتب الإخوان في الخارج حيث أصدرت مجموعة محمود عزت قرارًا بنقل تبعية مكتب الإخوان المصريين في الخارج إلى التنظيم الدولي وعودته في يد محمود حسين، على عكس ما يرى مكتب أحمد عبدالرحمن الذي يقول إنه تابع لمكتب الإرشاد الجديد في الداخل، ومن هنا تفجرت الأزمة.
حرب بيانات إعلامية لم تشهدها الجماعة من قبل
لم يكن معهود على تنظيم الإخوان المسلمين أن يناقش مشاكله الداخلية في العلن، وقد كانت قياداته ترى أن سر تماسك التنظيم هو احتواء أزماته داخليًا دون خروجها للعلن، لكن ثمة إرهاصات خرجت للعلن تلتها حرب بيانات بين المتحدث الرسمي للجماعة محمد منتصر وبين مجموعة مكتب الإرشاد القديمة متمثلة في محمود غزلان، ومحمود حسين، وهو ما يدل على أن الأزمة اشتدت وبلغت مداها.
البداية جاءت بمقال غريب في توقيته كتبه محمود غزلان الذي لم يظهر منذ فض رابعة تقريبًا، ليتحدث الرجل عن اتخاذ الجماعة منهج السلمية كأحد ثوابتها، مشيرًا إلى أن الجماعة لن تنجر إلى العنف، مذكرًا بما حدث في أزمة مارس 1954 بين جمال عبدالناصر والجماعة، ورفض مرشد الجماعة حينها حسن الهضيبي اللجوء للعنف، بل واللجوء إلى فصل أي عضو في الجماعة يروج للعنف.
المقال أثار موجة من الجدل بين صفوف الجماعة خاصة مع نمو تيار واسع داخل الجماعة يرى ضرورة الرد على انتهاكات السلطة المتزايدة بحق أفراد الجماعة، وهو ما يرونه ممثلًا في بيانات محمد منتصر المتحدث الرسمي باسم الجماعة المعين من قِبل المكتب الجديد وتدويناته التي تؤكد على ضرورة المقاومة والقصاص وما إلى ذلك، وكان آخرها في هذا الصدد تأييده لبيان العلماء المسمى بـ”نداء الكنانة” الذي أكد على مواجهة الظلم ومقاومته.
لاقى هذا البيان تأييدًا واسعًا بين التيار الذي يرى الخوض في معركة صفرية مع النظام، شاعرين بأنه رد على مقال غزلان الذي يرى هو ومجموعة أعضاء مكتب الإرشاد القدامى أو ما يُطلق عليهم “الحرس القديم” أن هذا التيار الجديد يجر الجماعة بأكملها إلى مواجهة ليس بمقدور الجماعة الصمود كثيرًا بها، وأن عليهم الصبر والتحمل حتى التوصل إلى تسوية تكون بمثابة هدنة للجماعة، وهنا اختلطت أسباب الخلاف بين الفريقين التنظيمية منها المتعلقة باللوائح بغيرها المتعلقة بالمنهجية التي ستدار به المرحلة القادمة.
فبينما يرى التيار الجديد الممثل الذي أفرزته انتخابات الداخل والخارج أنه يجب أن يستمر فيما يسميه المسار الثوري، ترى القيادات التاريخية أن هذا المسار هو مسار هلاك للجماعة، إذ أثارت مسألة مخالفة وجود التيار الجديد للوائح وأثارت الظهور والدخول في صدام مرة أخرى، حتى ظهر بيان لمحمود حسين مذيلًا بتوقعيه كأمين عام لجماعة الإخوان المسلمين، مخرجًا الصراع إلى العلن، ومؤكدًا أن محمود عزت هو القائم بأعمال المرشد الحالي، ليلغي بذلك كل التغييرات التي حدثت منذ فض اعتصام رابعة، وكأن الزمن توقف عند هذه اللحظة.
لم يصمت التيار الجديد طويلًا حتى خرج ببيان عبر المتحدث الرسمي للجماعة محمد منتصر يؤكد أن هناك انتخابات داخلية تمت بعلم جميع أعضاء مجلس الشورى العام، مؤكدًا على شرعية المكتب الجديد في الداخل ومكتب الخارج التابع له، مع تأكيده أيضًا على تمسك الجماعة بالنهج الثوري.
وما لبث أن خرج منتصر بنفسه على فضائية الجزيرة مباشر ليعلن أن محمود حسين لم يعد أمينًا عامًا للجماعة كما ادعى في بيانه الصحفي، ولم يعد ممثلاً إداريًا للجماعة.
في سياق الأزمة
خرجت التسريبات الإعلامية في هذا الموضوع تباعًا بعد حالة التراشق الإعلامي بين أطراف الأزمة الداخلية للإخوان، فقد أذاعت وسائل إعلام أخبار عن تفجر هذه الأزمة بسبب زيارة سرية مزعومة لمحمود حسين الأمين العام السابق للجماعة وإبراهيم منير الأمين العام للتنظيم الدولي إلى دولة إيران تزامنًا مع بدء عمليات عاصفة الحزم في اليمن، وهو ما رأه أعضاء مكتب الإرشاد الجديد في الداخل ولجنة الأزمة في الداخل أنه تعديًا من حسين ومنير سيضر بموقف الجماعة وحراكها ضد الانقلاب، خاصة وأن هذا الموقف سيزيد من عداء السعودية إذا ما علمت به، بالتزامن مع محاولات للجماعة لإصلاح علاقاتها بالمملكة.
الا أن محمود حسين خرج عن صمته وصرح لجريدة “العربي الجديد” أنه لم يزر إيران طوال حياته وأن هذه الأنباء غير صحيحة، وهو ما أكده البعض بقولهم إن حسين لم يزر بالفعل إيران ولكن ثمة اتصال بإيران تم من خلال دوائره ولكنه ما لبث أن أغلق هذا الباب بخشية من غضب الأتراك الداعمين للجماعة.
الأمر قد يظهر في بعض الأحيان وأنه خلاف على اللوائح المنظمة للعمل داخل الجماعة، وقد يظهر في أحيان أخرى أنه خلاف على منهجية التعامل مع الوضع الراهن في مصر، بين القيادات القديمة التي استبعدت من الصورة عقب وصمها بالفشل في المراحل السابقة، وبين قيادات جديدة أفرزتها انتخابات على الصعيدين الخارجي والداخلي، ترى أنه يجب أن تأخذ فرصة لمحاولة التغيير، لكنة محللون يرون أن ثمة وصاية أبوية تُمارس الآن من خلال الوجوه القديمة لاعتقادها أن ما يسمى بالمسار الثوري الذي تمضي فيه القيادات الجديدة الآن، قد يعصف بالجماعة ليست فقط في مصر فحسب، بل بكافة الأقطار التي توجد بها فروع للجماعة.
ردود أفعال داخلية ومحاولات لرأب الصدع
ظهرت ردود أفعال داخلية سريعة على ما يحدث في صفوف المنتسبين للجماعة تنظيميًا، فقد جاءت معظم ردود أفعال شباب الجماعة مؤيدة للقيادة الجديدة وذلك من خلال هاشتاج #مش_هنرجع_لورا في إشارة إلى استحالة عودة الوضع لما كان عليه، فيما كثرت دعوات لم الشمل والتريث قبل الخوض في هذا النزاع.
وعلى الصعيد التنظيمي الداخلي أصدر المكتب الإداري لإخوان شمال وشرق القاهرة مقترحًا بإجراء انتخابات شاملة تعم أركان الجماعة بداية من مجلس الشورى العام وحتى إفراز مكتب إرشاد جديد، كما دعى المكتب لوقف التراشق الإعلامي فورًا من كافة الأطراف، مؤكدين في نفس الوقت على تبنيهم لما أسموه المسار الثوري في حراكهم ضد الانقلاب، كذلك الأمر صدرت تأكيدات من المكتب الإداري للإخوان بالإسكندرية برفض إجراءات أعضاء مكتب الإرشاد القدامي، مستنكرين تخطيهم العمل المؤسسي داخل الجماعة، فيما تحاول بقية المكاتب الإدارية للجماعة توضيح القضية لكافة القواعد بعدما عم الجدل بها حول الأمر.
وعلى الصعيد الخارجي التنظيمي متمثلًا في مكتب إدارة الأزمة والإخوان المصريين بالخارج، فإن ثمة جمعيات عمومية عقدت أمس وتعقد على مدار الأيام القادمة في الأقطار التي انتخب منها المكتب الجديد لاستطلاع آراء القواعد فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات أمام هذه الأزمة المتمثلة في التيار القديم الذي يرفض آليات عمل المكتب الجديد المنتخب.
وعلى الجانب الآخر فإن ثمة اجتماعات عقدت بين طرف الأزمة الآخر في منزل محمود حسين بدولة تركيا ضمت القيادي بالجماعة ومسؤول الإخوان بقارة أفريقيا محمد البحيري الذي أشرف بنفسه على انتخابات مكتب الخارج الجديد والأمين العام للتنظيم الدولي إبراهيم منير، والقيادي محمود الإبياري، لمناقشة هذه الأزمة والتي يبدو وأنهم تبنوا بها وجهة نظر المصادمة، رغم أن كل شيء تم في السابق من تغييرات كان بعلمهم.
يأتي ذلك مع وجود أنباء عن وصول القيادي التاريخي في الإخوان رجل الأعمال يوسف ندا إلى إسطنبول لمحاولة رأب الصدع بين أطراف الأزمة للخروج بصيغة أقرب إلى الجميع لحل النزاع، وهو ما تفعله قيادات كثيرة الآن في التنظيم الدولي لمحاولة تفادي انشقاق وشيك سيحدث إذا استمر الأمر على هذه الوتيرة من الصدام، إذ يوجد بالجماعة الآن مكتبين للإرشاد يرفض كل منهما الاعتراف بالآخر.