لم يتوان صاحب مصنع السجائر الكبير في القرن التاسع عشر، جيمز دوك، في البحث عن شتّى الطرق لترويج منتجاته الجديدة من السجائر آنذاك، فقد استأجر مساحات كبيرة من الإعلانات في الشوارع، ووظف كبار الممثلين في الإعلانات، كما أن الجرائد امتلأت بإعلاناته، بل وكافأ كل من ساهم في بيع منتجاته من أصحاب المحلات التجارية.
ضجّت أمريكا آنذاك بمنتجات السجائر، لكّن أمرًا كان لازال ناقصًا هنا، 99% من السجائر المباعة كانت للرجال دون النساء! فقد كان من غير المقبول اجتماعيًا في ذلك الوقت أن تدخّن المرأة، وأولئك اللواتي فعلن كنّ يُحَطنَ بهالة من الشكوك الأخلاقية، بدأ هذا الأمر بالتغير قليلًا مع حركة تحرير المرأة، ومن الصادم أن تدخين المرأة أيضًا أصبح علامة من علامات تلك الحركة التحرريّة.
استغل صنّاع السجائر تلك الحركة النسويّة وبدأوا باستهداف المرأة من خلال إعلاناتهم، فلم يكن من المقبول قبل ذلك أن تظهر المرأة في تلك الإعلانات المروجة للسجائر، وفي ستينات القرن العشرين، بدأت الإعلانات تربط ربطًا صريحًا وواضحًا بين تحرير المرأة وتدخينها، حتى إنه تم إنشاء فرع سجائر جديد وخاص بهذا الأمر، بدأ النساء بشراء السجائر زرافات ووحدانا، ففي عام 1955، بلغ عدد المدخنين من الرجال 52% و34% من النساء! ومع مرور الوقت قلّ الفرق بين النساء والرجال.
لم تتوقف إعلانات السجائر عند أمريكا فقط، بل وسّع المنتجون دائرة إعلاناتهم لتصل إلى الكثير من الدول الأخرى، فقد قدّرت منظمة الصحّة العالميّة أن 50 ألف مراهقًا بدأوا بالتدخين في أسيا وحدها عام 2002، وأن التدخين سيقتل ربع هؤلاء.
هل حقًا الإعلان مسؤول وعامل كبير هنا في انتشار التدخين على هذا المستوى المخيف الذي نراه اليوم؟ وهل حقًا لديه هذه القدرة الكبيرة على التأثير على مجتمعات بأكملها وتغيير الكثير من السلوكيات؟
تلعب معظم الإعلانات على العامل العاطفي أكثر من المعرفي، فقد بيّنت الدراسات الحديثة أن الناس أكثر تأثرًا عن طريق العوامل العاطفية، يعني أنك ببساطة قد تُحب سيارة معينة وتشتريها، عن طريق الإعلان، بغض النظر عن سرعتها وقوتها، بل إن طريقة عرضها الجذاب والمكان الذي تسير فيه يؤثر بشكل أكبر من مواصفتها التقنية، فالناس تميل بشهوتها وعاطفتها أكثر من عقولها في كثير من الأمور، حتى إن الكثيرين قد يصوتون لأحد المرشحين لأنه “يعجبهم” دون النظر إلى برنامجه الانتخابي، بل في الحقيقة ثلث المصوتين لا يعلمون شيئًا عن مرشحهم أكثر من أنهم يمتلكون شعورًا قويًا تجاهه!
يمكنك ملاحظة كيف تلعب الإعلانات دورًا كبيرًا في هذا المجال، كإعلانات العطور، والسيارات، وحتى الطعام! وهذا ما حدث فيما يتعلّق بالتدخين، فقد ارتبط التدخين مثلًا عند الكثير من الناس بالرجولة والفخامة، متغاضين عن آثاره السلبية وأضراره، لأن طريقة عرضه كانت جاذبة وتعزز فكرة أن التدخين زيادة في الألق.
لكن المشكلة الحقيقية التي يواجهها أصحاب الإعلانات اليوم، هي أن الإعلانات أصبحت فاصلًا يركض فيها المشاهد لجلب كأس ماء أو عصير، أو يقلب المشاهد المحطة إلى حين انتهاء الإعلانات، فأوجدت الشركات بديلًا عن هذه الإعلانات التي أصبح المشاهد يتهرب منها لكثرتها، وأصبحت تتبع سبلًا كثيرة بل مجنونة ومضحكة أيضًا في الترويج لمنتجاتهم.
فاز آندر فيشر، شاب في العشرينات من عمره، بجائزة الاختراع في الإعلانات، أعلن هذا الشاب على موقع “ebay” عن استعداده أن يضع إعلانًا على جبهته لمدة ثلاثين يومًا مقابل مبلغًا معينًا من المال، وقد دفعت شركة اسمها “snorestop” على هذا العرض 37.376 دولارًا! يقول فيشر “من أجل 40 ألف دولارًا، لا أندم على أن أظهر كالأبله لمدة شهر”، من المضحك حقًا إلى أي حد قد تصل إليه الشركات في الترويج لمنتجاتها.
لكن الطريقة الأنسب الآن هي عرض المنتجات عن طريق الأفلام والمسلسلات، بحيث ترعى الشركات مسلسلًا أو فيلمًا معينًا، على أن يستخدم الممثلون وأبطال هذا الفيلم المنتج بشكل متكرر، فمثلًا تجد أبطال هذا الفيلم يترددون باستمرار على مطعم معين أو يستخدمون نوعًا معينًا من العصائر أو يلبسون ساعة معينة، هذا الاستخدام المتكرر في الفيلم يجعل المنتج مألوفًا لدى المتابعين دون وعي كامل منهم، مما يدفعهم لاستخدامه وشرائه والتردد عليه – إن كان مطعمًا – حين رؤيته.
الآثار المترتبة على هذا الأمر قد تكون أيضًا خطيرة للغاية، ففي إحدى الدراسات وجد الباحثون أنه كلما زادت مشاهدة الأطفال بين الصف الخامس والثامن لمسلسلات وأفلام يكثر فيها التدخين، كلما كانت رؤيتهم للتدخين أكثر إيجابية، وقيسوا على ذلك كم الخمور والمشاهد التي يراها أطفالنا وشبابنا، ونراها نحن بشكل متكرر ويومي.
إحدى الطرق المثلى هنا لتجنب الآثار السلبية للإعلانات الدخيلة والسيئة، هي توعية الشباب والفتيان والناس بسياسة الترويج هذه، فكلما كان الإنسان واعيًا بنية أحدهم لتغيير سلوكه كانت مناعته تجاه هذا التغيير أقوى، فحين يكون الإنسان واعيًا فإنه يحلل ما يراه ويسمعه بشكل حذر مما يؤدي إلى تجنب هذا التأثير والتغيير السلوكي.
طريقة أخرى أُطلق عليها مصطلح “Attitude Inoculation”، وتعتمد هذه الطريقة على خلق مناعة ذاتية عند الناس عن طريق تعريضهم لـ “جرعات” من الحجج بشكل متكرر مخالفة لاعتقاداتهم، مما يدفعهم للتفكير المنطقي بالأمر، فيؤدي ذلك إلى ثبات في الأفكار والمبادئ، على العكس فإن الذين لم يفكروا بالأمر بشكل منطقي وعميق ومكثف معرضين بشكل أكبر وأسرع لتغيير معتقداتهم وأفكارهم، مجرد تعّرضهم للحجج المقابلة، يعمل هذا الأمر تمامًا كما نعطي التطعيمات للناس فتصبح لديهم مناعة من المرض ذاته.
————————————–
المرجع من كتاب علم النفس الاجتماعي
Aronson, Wilson, Akert, (2004). Social Psychology (8th Ed.) . USA: Pearson