في إطار تأسيس أصول علم الاستغراب، ذكرنا أن أول هذه الأصول هو “الانطلاق من الإسلام”، وذلك لأن وجود النموذج هو من ضرورات العلوم، ثم إن المسلم لا يسعه أن يتخذ له منهجًا غير الإسلام، كذلك فإن الإسلام من حيث كونه دينًا ربانيًا ونموذجًا معصومًا فإنه يعطينا من العلم والهدايات والتوجيهات ما يحسم أمورًا كانت بغيره تكون بلا حل ولا حسم.
ونواصل فنقول بأن: الذات الإسلامية هي أساس النهضة.
فيجب أن يكون الإسلام هو نموذجنا الحاكم لأن الذات هي أساس النهضة، فإن “الشرق بالإسلام، والإسلام بالشرق، وإذا تحدثت عن أحدهما فكأنني أتحدث عن الآخر، والإسلام دين ومدنية، وإن أمتنا ذات مدنية أصيلة، وليست الأمة الطفيلية التي تُرَقِّع لمدنيتها ثوبًا من فضلات الأقمشة التي يلقيها الخياطون”[1].
وما من أمة استطاعت بعث نفسها في عالم الحضارة إلا بالتمسك بأصولها وإن كانت فاسدة.
فلولا أن اليهود – حين تقطعوا أممًا – كانوا في حاراتهم يحيون مجتمعهم القديم؛ لذابوا، وإنما كانت هذه المجتمعات هي نواة تجددهم وإعادة انبعاثهم في دولة، فحتى “الحديث اليومي بين اليهود في المجتمع لم يكن يتمُّ بلغة البلاد، وإنما برطانة يهودية خاصة تُسَمَّى باليديش، وحين كان يهودي الجيتو يتعلَّم لغة جديدة، فإنه كان يتعلَّم “لشون هاقدوش”؛ أي: اللسان المقدس أو اللغة العبرية؛ لأن مجرَّد النظر إلى أبجدية الأغيار كان يُعَدُّ كفرًا ما بعده كفر، يستحقُّ اليهودي عليه حرق عينيه”[2]، فاستطاعوا بعد آلاف السنين أن يعيدوا بعث لغتهم من جديد في عملية مثيرة للانبهار على الرغم من كل شيء.
ولعله يثير العجب أن نجد الرواد الأوائل للنهضة الغربية، مع ثبوت تأثرهم بالإسلام وحضارته بشكل مباشر أو غير مباشر، يأخذون منه وهم يسبونه ويحتقرونه[3]، فهذا مارتن لوثر – الذي لا يجد الباحثون جذورًا لدعوته ضد سلطة الكهنة إلا الإسلام – يقول: “أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا القرآن، مليئ بالأكاذيب والخرافات والفظائع”، وهذا الشاعر الإيطالي دانتي – الذي عاش في بلاط النورمان العربي، وفي ظل فريدريك المحب لعلوم العرب – يضع النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلي بن أبي طالب في الحلقة الثامنة من الحفرة التاسعة في الجحيم ويصف عذابهم في “الكوميديا الإلهية” المتأثر فيها بأبي العلاء المعري ومحيي الدين بن عربي، وهذا توما الإكويني أبرز فلاسفة العصور الوسطى – والذي ما كان ليكون هكذا لولا تأثره بمنهجية ابن رشد وغيره من المسلمين – يزعم أن “محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أغوى الشعوب من خلال وعوده لها بالمتع بالشهوانية”[4].
وحين أخرجت اليابان بعثة من طلابها للتعلم في أوروبا، أغروهم هناك بدراسة الفلسفة والأفكار والآداب الغربية لا التقنية والصناعات كما هو المطلوب، فما إن عادوا أمر الإمبراطور الياباني بإحراقهم، ويرى د. عبد العظيم الديب أنه ربما يكون هذا هو السبب الذي أوصل اليابان إلى نهضتها[5].
ويشن باتريك بوكانان حربًا واسعة في كتابه “موت الغرب” ضد من يتحدث عن جرائم الرجل الأبيض وتاريخه في المجازر والمذابح، ويقول بأن هذه “الحرب على الماضي” هي المسؤولة عن إنتاج أجيال لا تؤمن بنفسها ولا تنتمي إلى حضارتها، ولا بأس لديه في طمس كل هذا تجنبا لتفكك أمريكا[6].
وإذا كان هذا تصرف الأمم ذات التاريخ الدموي الملوث، فكيف بنا نحن وبتاريخنا الناصع؟ حتى وإن كانت كلمة “الناصع” هذه تثير “الموضوعيين، وذوي الحساسية الحيادية”، إلا أن تاريخنا بالمقارنة بهذه التواريخ ناصع ولا شك، ولولا أن يخرج البحث عن قصده لأوردنا من أقوال مؤرخيهم ما يشهد بهذا.
لقد وُفِّق الأستاذ الإمام محمد عبده حين وصف السرَّ في ضرورة أن تكون النهضة ذاتية، قال: “إذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة فيه ما ليس لهم في غيره، وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلِمَ العدول عنه إلى غيره؟!”. فهذا على الحقيقة هو السر الذي يفسر أقوال زعماء كل نهضة في كل مكان[7].
***
إن “الانطلاق من الإسلام” هو ما يعصمنا من التأثر غير الواعي بالمناهج الأخرى، وقد رأينا في تاريخنا القريب كيف يكون المرء متعصبا ضد الغرب ولكن على منهاج الغرب نفسه، كما هو الحال في القوميين العرب، الذين شربوا القومية بمفهومها الغربي ثم أعادوا توجيهها ضده، ويظنون أنهم متحررون منه مضادون له[8]!!
هذا حسن حنفي الذي كتب “مقدمة في علم الاستغراب” ليواجه به التغريب، لم يشعر أنه يتحرك على قاعدة الغرب إذ يواجهه، ودعا إلى استعراض جديد للتاريخ بناء على رؤيتنا كشرقيين، فانظر ماذا صنع؟
قال حسن حنفي: “العصور الوسطى بالنسبة للغرب هي بالنسبة لنا عصرنا الذهبي (وبالتالي) فإن العصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصورنا الوسطى… ويظهر (أثر المركزية الغربية) في وعينا الحالي لدرجة زحزحة الوعي التاريخي الإسلامي كلية لحساب الوعي التاريخي الأوروبي، فإذا سئلنا: في أي قرن نحن نعيش؟ لأجبنا في القرن العشرين! أي أننا نجيب بحضور الوعي التاريخي الأوروبي ونحن لسنا أوربيين، ولو سئلنا في أي عصر نحن نعيش لأجبنا: في عصر العلم والتكنولوجيا مع أننا ما زلنا في عصر النهضة، نحاول الخروج من العصر الوسيط”[9].
فهنا يبدو حسن حنفي محكومًا بالسياق الغربي نفسه والتقسيم الغربي للعصور والمراحل، لكنه يريد زحزحة هذا المقياس لتعبر كلمة “العصور الوسطى” ذاتها عن زمن آخر، وكلمة “عصر النهضة” عن زمن آخر، فالمعيار والتقسيم واحد بينما “تصنيف الحالة” داخل هذا المعيار هو المختلف باختلاف الحالة بيننا وبين الغرب، بينما الاستغراب الذي نؤصل له والمنطلق من رؤية إسلامية لا يلتزم بالأساس بهذا المعيار، وليس محكومًا بأن نُجْرِيَ مقياسهم على تاريخنا، فنحن لسنا ملزمين من الأصل بأن نستعمل هذه المصطلحات التي صارت لها مدلولات سلبية (العصور الوسطى) أو إيجابية (عصر النهضة)، وإذا ألزمتنا ظروف علمية أو أكاديمية أو شيوع المصطلح، فبالإمكان أن نعمل على نزع الإيحاءات السلبية أو الإيجابية لما لا نرتضيه من مدلولات هذه الألفاظ، ولا يعني هذا الاضطرار لأن نتخلى عن صياغة النظرية أو المعيار الذي يعبر عن تاريخنا وعن تاريخ العالم أصدق تعبير، وهو معيار منطلق من القرآن والسنة، وقد بُذِلت مجهودات كثيرة[10] في رسم هذه المعايير لكنها تحتاج جمعًا وتمحيصًا ثم تفعيلاً.
ثم لا بأس أن نستعمل مقياسهم إذا وجدناه الأصدق في التعبير عن حقيقة علمية، باعتباره حكمة نأخذها من كل أحد، إلا أن هذا سيكون قليلاً إذا كان “الانطلاق من الإسلام” هو المنهج، بينما سيكون كثيرًا إذا كان “الانطلاق من الجغرافيا” هو المنهج، ولا يكون من فائدة حينئذ إلا تغير وِجْهة الألفاظ.
وفي النهاية يظل موضوع “الانطلاق من الإسلام” في دراسة الغرب بحاجة إلى مؤتمر أو أكثر، وعدد من الندوات وورش العمل لصياغة ملامح عامة يسترشد بها أصحاب التخصص في دراساتهم التفصيلية والفرعية المتخصصة.
————————————–
[1] عبد الرزاق السنهوري: إسلاميات السنهوري باشا.
[2] د. عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية 1/ 31، 32.
[3] ونحن لا نضرب المثل بهم في الإجحاف والظلم بل نضربه في قدرتهم على الانتقاء وأخذ ما يريدون دون ما يكرهون.
[4] ثابت عيد (مترجم): صورة الإسلام في التراث الغربي ص 20، 21، 24، 25، 32.
[5] د. عبد العظيم الديب: نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي ص 182.
[6] باتريك بوكانان: موت الغرب ص 285 وما بعدها.
[7] محمد عبده: الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام 3/248.
[8] والحديث هنا عمن صدقوا في مذهبهم، لا عمن كانوا قوميين ظاهرا وهم أدوات الغرب والشرق -ومؤخرا: إيران- على الحقيقة!
[9] د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص 41، 42.
[10] كتب في هذا المجال كثيرون منهم الشيخ محمد قطب رحمه الله، والشيخ د. منير الغضبان رحمه الله، ود. جمال عبد الهادي، ود. عماد الدين خليل، وغيرهم.