بالطبع فإن حديث اليوم وغد ولأسابيع قادمة في الشارع السياسي المصري والإسلامي هو محاولة التكهن بإجابة سؤال: مالذي حدث حقًا داخل أروقة صنع القرار في جماعة الإخوان المسلمين المصرية؟
وسنحاول هنا تقديم إحدى الإجابات أو أحد السيناريوهات لما حدث، ثم سنتناول ما هو أبعد من الحدث الآني لمأزق جماعة الإخوان الذي سيجعل تلك الأزمة مستمرة ومرشحة لمزيد من التفاقم.
أولاً: معلومات وليس رأي أو تكهنات
بالانتقال قريبًا من مصر إلى سوريا، فأصبح واضحًا أن الثوار أو المجاهدين إن شئت قد قفزوا قفزة نوعية في صراعهم مع الأسد منذ معركة وادي الضيف انتهاءً إلى تحرير أريحا السورية منذ أيام قليلة ومعها السيطرة بالكامل على إدلب، هذا التقدم مرجعه بداية إلى إتمام اتفاق أمريكي تركي حول شكل إنهاء الأزمة السورية بالشكل الذي يمثل المشترك بين المقاربة التركية والمقاربة الأمريكية للأزمة/ الثورة السورية، وكان هذا ضمن إطار عام بمقايضة مصر بسوريا، بمعنى أن تقترب أمريكا أكثر من المقاربة التركية للأزمة السورية مقابل أن تقترب تركيا بدورها من المقاربة الأمريكية للأزمة المصرية القاضية بإخراج أزمة مصر من كونها صراع على شرعية الحكم إلى المدى الذي يمكن أن يكون عليه نظام الحكم الحالي ديموقراطيًا وبه سقف حريات نسبي.
ثم مع إتمام الإطار العام لإنهاء المعضلة السورية ما بين الطرف الدولي المتمثل بأمريكا والطرف الإقليمي الأهم المتمثل بتركيا وحدثت نجاحات بهذا السياق، أصبحت البيئة مناسبة لانتقال الاتفاق للمستوى الإقليمي أي ما بين تركيا والسعودية في ظل التقارب الحالي بينهما، وقد عرضت تركيا بالفعل أن تفتح قناة اتصال بين السعودية والإخوان ورفضت السعودية هذا العرض وكان ردها أن هذا سيضر بعلاقة شراكتها الإستراتيجية مع الجيش المصري
فانتقلت محاولة التسوية وإنهاء الأزمة وفق الإطار أعلاه إلى اقتراح رئيس وزراء لمصر “إسلامي” يكون مقبولاً من كل من الإخوان والجيش وهو شخصية بطبيعة تكوينها ومرجعيتها ستحرص على سقف حرية مرتفع وكبح جماح توحش وتغول الجهاز الأمني المصري ويتم الإفراج عن معتقلين من النساء والقصر وكبار السن ومن يكون وجودهم مدعم وضروري لترميم العلاقة المهترئة بين الجيش والإخوان، بل وتدعيم الدولة المصرية المهترئة وتحقيق إنجازات حقيقية وليست “أوهام” نظام السيسي الحالية وشبه المنهارة ووقف الإعدامات المزمع تنفيذها وعلى رأسها بالطبع إعدام الرئيس مرسي ومرشد الإخوان ثم لاحقًا بعد إتمام عملية الترميم يعاد دمج الإخوان بالنظام السياسي الحالي؛ فبهذا يتم تطعيم النظام الحالي بالقدر المعقول من الديموقراطية والحرية، وهو سيناريو يشبه إلى حد كبير سيناريو إنهاء عشرية الدم بالجزائر بدمج “حمس” أو حركة مجتمع السلم (إخوان الجزائر) في النظام الذي انقلب على الجبهة الإسلامية برئاسة عباس مدني التي فازت بالانتخابات التشريعية وكانت على وشك تغيير النظام الجزائري بأكمله ومعهم طويت صفحة العنف والدم بالجزائر؛ وبهذا تكون الأزمة المصرية وعبئها على النظام التركي التي صارت مكلفة بدون جدوى أو مصلحة يرجو النظام التركي تحقيقها في المدى المنظور، قد طويت.
هذا التغير الدراماتيكي قد علم به قيادات السجون وقيادات مكتب الخارج الذين تم إبعادهم بالانتخابات الماضية، فوجدوا أنهم سيُضيعوا فرصة ثمينة للهدنة والتقاط الأنفاس والأهم منع إراقة مزيد من الدماء إذا لم يقبلوا بما هو متاح، وإذا تم تجاوز تلك الفرصة ستكون الجماعة قد قطعت خط العودة مما يعني أن المسالة إما نصر أو انهيار الجماعة نفسها وأن يتم القضاء عليها تمامًا أو البقية الباقية منها بعبارة أخرى صيغة الصراع الوجودي وإما نحن أو أعداؤنا على حسب ميزان القوى لن تنتهي إلى نحن أي الجماعة بل هم، وهذا هو ما جعلهم يتدخلون لاستعادة زمام الجماعة بهذا الشكل العنيف والتصادمي لأن حسب رؤيتهم يرون في القيادة الجديدة لجماعتهم أنهم بتفويتهم تلك الفرصة التي لن تتكرر سيقودوا نفسهم ومن تحتهم وتابعيهم إلى الهلاك المحقق ولو لم يكونوا متأكدين من جدية هذا الطرح لم يكونوا ليغامروا بإحداث تلك الفتنة داخل جماعتهم التي ستطول ولها ما سيتبعها.
وبهذا السياق أيضًا يتم تفسير اتصال الدكتور محمود حسين بالنظام الإيراني لأنه يدرك أن الأتراك سيتجاوزوا مرحلة احتضان الإخوان، فبالتالي يجب البحث عن محضن بديل أو منفى بديل فليجرب حظه تلك المرة مع إيران!
ولم يكن الأتراك على علم بهذا الاتصال أو تم دون الرجوع معهم في التنسيق، وهو ما عجل لديهم القرار بالمضي لتسوية لمصر تخلصهم من العبء الإخواني وهذا مثال نموذجي لما يطلق عليه النبوءة المحققة للذات، أي: القيادة التاريخية للإخوان خشيت أن يرفع الأتراك دعمهم لهم فبحثوا عن بديل بإيران منافس تركيا الأخطر؛ وهو ما أعطى للأتراك حافز إضافي للمضي بهذا الاتجاه.
ثانيًا: تحليل ما سبق وصولاً لعقدة الأزمة
التف السعوديون على الاتصال بالإخوان وهو ما يرفضه تمامًا شركاءهم بالجيش المصري واتصلوا بهذا المرشح “الإسلامي” لرئاسة الوزراء، فبالتالي الأزمة أو العقدة هنا هي إجابة سؤال: هل ثمة ضمانات جدية فعلاً لإنفاذ تلك التسوية، فاتفاق السعوديين ليس مع الإخوان وبالتالي التزامهم بالاتفاق ليس مع الإخوان وبالتالي ضماناتهم لإنفاذ الاتفاق ليست ضمانات مقدمة للإخوان الذين هم المعنيين بالاتفاق! ولهذا لا يبقى للإخوان إلا المراهنة على أن هذا المرشح الغسلامي لن يقبل بمغامرة لحرق نفسه ولن يقبل بهذا الاتفاق إلا وهو متأكد من جدية تنفيذه.
العقدة الأهم هي جانبي الدم؛ فأولياء دم من قُتلوا ومن اُنتهكت أعراضهم ومن عُذبوا ومن شُردوا في الأرض وفي منافي الرب لن يقبلوا نهائيًا بأي تسوية قبل القصاص والإثخان بمن نكل بهم حتى لو لم يسرف ولي الدم بالقتل كما تقول الأية الكريمة وسيقفوا بوجه من يحاول ذلك، ومن الطرف الآخر أولياء من ينتظرون القتل على المشانق ومن ينتظرون أعوامًا طويلة بالسجون ومن هربوا ولا يرتجوا عودة إلى وطنهم وأهلهم بالقريب أو حتى بالبعيد إلا إذا وجدوا فرصة تبدو سانحة لمن يلوهم لحفظ دماؤهم هم من سيقفوا للقيادة الجديدة للإخوان ومنطقهم “من سبقوكم ضيعوا دماءنا برابعة والنهضة وما قبلها في الحرس الجمهوري وما بعدها وكانوا سببًا مباشرًا بإهلاكنا وأنتم أكملتم على طريقهم وأهلكتمونا حينما كانت هناك فرصة لحفظ دماءنا!
على الأرجح فالنظام المصري الحالي لا ينظر بأي حال من الأحوال بجدية لتسوية تستوعب الإخوان مجددًا بالنظام السياسي، بل هو على طول الخط كان ينظر للصراع على أنه صراع صفري لا ينتهي إلا بانتهاء الإخوان تمامًا من مصر وليس هذا فقط بل بانتهاء ظاهرة الإسلام السياسي من المنظقة العربية ككل، ولا يجب أن نتوهم أن السعودية تستطيع أن تضغط على النظام المصري ليستجيب لها فيما يراه مهدد له وينضغط له حتى لو رغبت السعودية بهذا الضغط فعلاً، وإنما على الأرجح ما يخطط له النظام من التعامل مع هذا الطرح هو كالآتي: استعارة تكتيك النظام الأردني في التعامل مع إخوان الأردن من خلال أزمة الذنيبات؛ أي أنه سيتعامل مع القيادات المسببة للأزمة باعتبارهم هم قيادة الإخوان الحقيقية وتثبيت هذا كأمر واقع حتى لو كان لقواعد الإخوان رأى آخر مع الشورى ونتائجها داخل جماعتهم، فسيؤدى هذا لمزيد من التشظي والانقسام ويظهر أمامه بوضوح أكبر الطرف المناوئ والمقاوم له والذي يمضي بطريق الثورة الخشنة، ثانيًا يتم القضاء على هذا الطرف المقاوم ثم الالتفاف للطرف الذي سالمه وقبل بتلك التسوية والقضاء عليه هو الآخر بعد أن تم بالمرحلة الأولى نزع مخالبه وبهذا يكتمل له نصره والقضاء نهائيًا على معضلة الإخوان بمصر.
ولكن لعل أسوأ ما في تلك المعضلة ويمثل صلب الأزمة باعتقادي هو تعامل القوى الدولية والإقليمية مع ساحات صراعتنا، فهي بالنهاية كما يقول التعبير الشهير أحجار على رقعة شطرنج يتم المساومة عليها وتبادلها ومقايضتها بما يحقق مصلحة اللاعب، فبالنهاية عمق أزمة الإخوان مع حليفهم القطري السابق والتركي الحالي هو أنهم بالواقع لم يكونوا أبدًا حلفاء وإنما – لكي نسمي الأشياء بمسمياتها – كانوا ومازالوا أداة من أدوات وكروت القوة للسياسة الإقليمية التركية، إذا لم تحقق الأداة الفائدة المرجوة منها سيتم الانتقال لأداة أخرى لتحقيق الأهداف الإجمالية والصورة الكبرى التي تبغي السياسة التركية تحقيقها، بعبارة أخرى عمق أزمة الإخوان وعقدة الأزمة هو أنهم إلى الآن ليسوا فاعلاً أو لاعبًا بالسياسة المصرية ناهيك عن الإقليمية، بل بكل محطاتهم إلى الآن هم على الدوام مفعول بهم من قِبل من يخطط لتوظيفهم أيا كان هذا المخطط.
العقدة الأخرى للصراع هو التحرك المنفرد بكل الأزمات الحالية على امتداد ساحة المنطقة العربية، فبالرغم من مفارقة أن من يحمل السلاح الأهم بسوريا هم من يؤمنون بإسلامية الصراع وأنه صراع للأمة الإسلامية ككل ولكن مازالت الثورة السورية تجري بالسياق السوري فقط وليس بسياق إقليمي وكذلك نفس الشيء بالنسبة لمصر، فلو ربطت الثورة المصرية نفسها ومصيرها بالثورة السورية واليمن وليبيا وتونس لما أمكن أن يتم مقايضة سوريا بمصر أو العكس ولكان للثورة السورية شأن آخر إذا ارتبطت على كافة المستويات بالمصرية والعكس وهذا ينطبق على كل دول الربيع العربي عمومًا وحينها فقط نتحول من مفعول بنا إلى فاعل.
وأيضًا نفس الأمر في التعامل مع السعودية؛ فالسعودية تحتاج بالفعل لأن تكون شريكًا للإخوان كما هي شريكًا للجيش المصري لاعتبارات عديدة ليس هذا مقامها ولكن أحدثها على عجالة أنها وجدت داعش داخلها تستهدف شيعتها وتلك معضلة لأن الخطاب الديني للوهابية (المذهب المؤسس للسعودية) هو أول ما يدعم السلوك الداعشي على أرضها، وبالتالي هي تحتاج لاستيراد واستعارة خطاب إسلامي بديل لمواجهة هذا التحدي الآخذ بالتكون والنضج، وهذا الخطاب الإسلامي البديل ببساطة هو الخطاب الإخواني، وهكذا على هذا المنوال يمكن لجماعة الإخوان أن تبدأ بالتفكير كيف يمكننا بما نمتلكه من كروت قوة أن نفرض على السعودية أن تعقد معنا حلف اضطرار حتى وهي لنا من الكارهين ولكن مضار عدم الحلف أعلى من المضي فيه، وتلك هي أهم نقطة نود توضيحها بهذا المقال وهو أنك لن تستطيع فعلاً الحصول على أي ضمانات بخصوص أي تسوية أو هدنة ما لم تكن تمتلك قوة ذاتية وقوتك التي ترتجى أو تخشى هي ضمانك بأي لعبة سياسية سواء كان اللاعب معك السعودية أو تركيا أو غيرهما لأن الضمانات هنا هي ضمانات لمن أبرموا الاتفاق وليس لك وهما معنيان بمصلحتهما وليس بك أنت.
ومن هنا نخلص أنه لا تعارض فعلي بين مساري ووجهتي نظر أطراف الأزمة فعلاً، فمن يسير بمسار المناورات السياسية والتسويات لن يكون أصلاً قادرًا على تسوية بدون مركب القوة الخشنة والناعمة وغيرها لكي تكون تلك التسوية هي حصاد مقاومة الطغيان بمصر وحصاد الثورة الخشنة، والفاعلون بتلك الثورة العنيفة بدورهم هم بالفعل يحتاجون إلى قيادة الإخوان التاريخية بقبولها واحترامها دوليًا أو على الأقل استعداد العالم وتفضيله التعامل معهم بدلاً من التعامل مع فاعل جديد مجهول المعالم والتفكير، بل أن تأخذ جماعة الإخوان قرارًا رسميًا بتلبية نداء الكنانة الذي أطلقه علماء الأمة من مقاومة الظلم بمصر هو مضر بمن يقفون فعلاً بخنادق المواجهة وهذا ليس حصر على تجربتنا الحالية وإنما ما من تنظيم بدأ كدعوة ثم تحول للنمط الجهادي إلا وواجه إخفاقا ذريعًا.
فالآن أمام الإخوان مفترق طرق إما أن يدركوا ثلاثية أن لا تعارض فعلي بين اتجاهي أطراف الأزمة بل هي اتجاهات مكملة لبعضها فما لا يؤخذ بالقوة يؤخذ بالتدبير، وثانيًا أنه لا يوجد طرف يعرض أو يعطي تسوية أو مكاسب أو حتى يناور إلا طرف يمتلك قوة، وثالثًا أن أزمة مصر لن تحل ولا تحل إلا بسياق إقليمي جامع، فالأفضل لهم أو لنقل الأحسن من بين اختيارات كلها سيئة أن يتم اتخاذ مسلك من أثاروا تلك الأزمة وأن يفوتوا فرصة التسوية القادمة إن كانت جدية والأكثر عملية أن يكون مبحثهم إجابة سؤال وما الضمانات؟ وكيف ننتج تسوية لا تعني انفراد النظام بالطرف المقاوم؟ فيكون مطلب التفاوض ليس وقف الإعدامات والحريات وإنما توفير الحماية للثائرين بشوارع مصر، ولكن إن اختاروا الطريق الأول وتلك الثلاثية فعليهم معرفة أن من سيفوتون فرصة عصمة دماءهم الآن هم بنهاية المسار الأول كذلك مقتولون، ولكن الفارق هنا أن دماءهم وتضحياتهم سيكون لها ثمنها وهنا ستكون األوياتهم ليست البحث الآن بتسوية وإنما ترميم العلاقة مع تركيا التي اهترأت بفتح الاتصال مع الإيرانيين فإذا استطاعوا إتمام تلك المهمة العاجلة والآنية فهم إذًا على الطريق الصحيح.