تعد دولة إيران نموذجًا لما يسمى بـ “الثيوقراطية الدستورية” وهي المتفردة في العالم بهذا النظام المسمى بولاية “الفقيه”، وبالرغم من ذلك فقد باتت مؤخرًا واحدة من البلدان الأقل تديّنًا في الشرق الأوسط، إذ يتضائل الدور الذي يلعبه الدين والتدين في المجال العام الإيراني اليوم عمّا كان عليه الحال منذ عقود حين قامت الثورة الإسلامية في نهاية عقد السبعينيات.
الإيرانيون يرون الإسلام جزءًا من هويتهم، ولكن الشيء الذي نفر منه الجميع قدر استطاعته هو الدين المؤسسي، فلايزال على النساء ارتداء الحجاب في الشارع، ولازلن ممنوعات من دخول الملاعب، ولازالت مظاهر كالفصل في الحافلات بين الرجال والنساء موجودة، وهو ما يتغير تدريجيًا بسبب اتجاهات رأس الدولة في مزيد من الانفتاح الفكري.
فالرئيس حسن روحاني الذي جاء على رأس السلطة في 2013 يرى أنه لا يمكن إرسال الناس إلى الجنة بسياط، ولا يمكن إجبارهم على الفضيلة، وهو تطور نوعي في تفكير رأس الهرم السلطوي في إيران، فالرجل يدخل في معارك الآن مع رجال الدين لمنع الشرطة من مضايقة الفتيات التي ترى الشرطة أنهن لا يرتدين حجاب بصورة جيدة من وجهة نظرهم، معتبرًا ذلك تدخل غير مقبول منهم.
الشرطة الإيرانية مدعومة من فقهاء إيران ترى فلسفة الجمهورية الإسلامية الإيرانية قائمة على أن الدين بقلب المجتمع، وعلى الشرطة الحفاظ على ذلك ما استطعت، أما روحاني يرى أن الأمر يحمل مسؤوليات دينية فردية، ويقيد تدخل الشرطة في أي مسألة شخصية للمواطنين إلا إذا اُنتهك القانون بشكل فعلي.
أما على الجانب الآخر، فقد خطب خامئني في جمعية ضباط الشرطة موضحًا أن تطبيق الإسلام هو الأولوية الأولى للشرطة في جمهورية إيران الإسلامية، حيث وجه خطابه إلى الضباط قائلًا “يمكن أن يتم كل عمل باسم الله”، مصرحًا للضباط أن واجبهم الرئيس خدمة المجتمع داخل الجمهورية الإسلامية.
تصريحات خامنئي بالطبع على عكس الاتجاه الذي يسير فيه روحاني، فقد طلب روحاني من بعض من وصفهم بـ “المتشددين” التوقف عن التدخل في في حياة الناس الخاصة بهذا الشكل، واصفًا المُصرين على حماية المجتمع بهذه الطريقة بأنهم “يعتقدون أننا مازلنا نعيش في العصر الحجري”، روحاني نفسه أطلق تصريحات سابقة وقت حملته الانتخابية قال فيها إن اللاتي لا يرتدين الحجاب لسنا سيدات سيئات بالضرورة، وأن المجتمع الإيراني قبل الثورة كانت العديدات من النساء فيه لا يرتدين الحجاب”، وتعهد روحاني حينها بكبح جماح “شرطة الأخلاق” الإيرانية وضمها تحت سلطة وزارة الداخلية، لكن هذا لم يتم بسبب رفض القوى الأكثر محافظة في المؤسسة السياسية الإيرانية.
محاولات روحاني لكبح جماح شرطة الأخلاق لم تنجح جميعها، ولكن المتابعين داخل المجتمع الإيراني يرون أن نشاطها يواجه حصارًا من قِبل الرئاسة الإيرانية، على عكس ما شهدته نشاطات شرطة الأخلاق إبان حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد، والذي ينتمي للجناح الأكثر تشددًا في إيران.
ردود الأفعال على تصريحات وإجراءات روحاني جاءت عنيفة من رجال الدين الشيعة الإيرانيين، فليس خامئني فقط هو من سار عكس هذا الاتجاه، فقد فتح الباب فقط للآخرين للتدخل في النزاع، فآية الله مكارم شيرازي، وهو رجل دين شيعي بارز رأى أن تصريحات روحاني ليس فقط تضعف من الروح المعنوية للشرطة، ولكنها أيضًا تعط “الضوء الأخضر للعناصر الفاسدة في المجتمع من وجهة نظره للقيام بممارسة كل أنواع القذارة في المجتمع دون أي تداعيات أو استجابة لضباط الشرطة “.
وأشار رجل دين آخر وهو آية الله نوري همداني إلى أن الدستور الإيراني جاء “مباشرة من الفكرة الإسلامية”، وأن فكرة الشرطة التي لا تطبق الإسلام حالت دون مفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في المجتمع، وهي فكرة موجودة في القرآن، فيما ذهب آية الله محمد يزدي، رئيس مجلس الخبراء، وهو الهيئة الدينية التي تختار المرشد الأعلى، هدد الرئيس روحاني بعواقب وخيمة لتوجهاته هذه قائلًا: “إن السلطة التنفيذية لا تستطيع أن تنكر التعاليم التي يجب التمسك بها”.
الإصلاحيون في الجانب الآخر يؤيدون توجهات روحاني الحالية في هذا الصدد بالتحديد، فمع موجة الحر التي ستضرب البلاد في فصل الصيف، واتجاه بعض النساء إلى تخفيف حجابهم جراء هذا الحر، ستتجه شرطة الأخلاق إلى محاسبتهم، وهو ما يتصدى له روحاني الآن لمنعه وتخفيف من وطأة حدته في المجتمع الإيراني.
فقد أعرب الإصلاحيون المساندون لروحاني أن ما يدعو إليه روحاني مجرد مبادئ أساسية تحتاجها جميع الدول الحديثة، مؤكدين أن إدارة البلاد على أساس القانون هو حجر الزاوية في نظم الحكم بالدولة القومية المعاصرة، وغير ذلك من الطرق فهي دعوة للفوضى بعيدًا عن حكم القانون.
روحاني وفريقه أيضًا يرون في وجهة نظرهم أن المتشددين في إيران متمسكون بالتفسير الأوحد للنص، وهو ما يرفضه روحاني ويرى أنه يجب الاحتكام إلى التفسيرات المتعددة للمسائل الدينية التي تخص المجتمعات، فالشرطة لا يمكن في وجهة نظرهم أن تعتمد سوى على القانون، وليس على الفتاوى المختلفة التي قد تتضارب أحيانًا.
البعض من المحللين يرى أن اشتباكات روحاني مع رجال الدين لن تنتهي لأنهم يرونه يحمل مشروعًا لاستخراج الأيدولوجيا من القوانين الإيرانية، وهو أمر شاق بطبيعة الحال، في ظل سطوة رجال الدين الإيرانيين.