بعد انقلاب 1980، كان الشغل الشاغل للجيش هو كيفية إعادة الهيبة للسلطة التنفيذية، والتي كان دستور 1962 قد أرخى من قبضتها نوعًا ما تخوفًا من هيمنة المحافظين، بيد أنه أدى في النهاية إلى غياب الاستقرار السياسي واضطراب الوضع في الشارع التركي، مما دفع الجيش إلى العودة للبرلمان الواحد في دستور 1982 وإلغاء مجلس الشيوخ، وتعزيز منصب الرئيس، والذي تولاه قائد الجيش كنعان أوْرَن، كما تشكل مجلس للدفاع الوطني من القيادات العسكرية للإشراف على الحكومة، وتضمن الدستور الجديد شرط الحصول على أكثر من 10٪ من الأصوات ليتسنى لأي حزب دخول البرلمان لتهميش الأحزاب الصغيرة وخلق منظومة أقل اضطرابًا.
حاول الجيش الدفع بأحزاب جديدة إلى الساحة لتستوعب التيارات اليمينية واليسارية التي أثارت الاضطرابات في السبعينيات، وكان الحزبان الأبرز هما الحزب الوطني الديمقراطي، وتم تصنيفه كيمين الوسط، والحزب الشعوبي، كيسار الوسط، ولكن على عكس ما أراد الجيش، اتجه الشعب إلى حزب جديد شكّله توركوت أوزال، والذي كان مسؤولًا عن البرنامج الاقتصادي لحكومة سليمان دميرل المحافِظة الأخيرة قبل الانقلاب، وكان قد تم تعيينه من جانب السلطة العسكرية بعد الانقلاب مباشرة ليُشرِف على برنامجها الاقتصادي نتيجة لخبراته الطويلة في الإدارة والشركات الخاصة.
اللحظة الفارقة
كان عقد الثمانينيات بمثابة فرصة ذهبية للمحافظين، أولًا لأن الجيش كان مهمومًا في الداخل بخطر الحركة اليسارية، والتي رأى فيها مخططًا روسيًا ليس إلا، مما دفعه للميل إلى الكتلة المحافظة ربما لأول مرة بشكل كبير، بل وطرح تدريس الدين في المدارس كنوع من أنواع مواجهة الدعايا اليسارية، وثانيًا لأن تلك الفترة كانت لحظة تفوق الرأسمالية في شتى أنحاء العالم، بدءًا من سياسات رونالد ريجان في الولايات المتحدة ومارجرت تاتشر في بريطانيا، وحتى تحول الصين نحو السوق المفتوح بقيادة رئيسها دَنغ شياوبينغ، مما جعل الاتجاه نحو اليمين اقتصاديًا أيضًا أمرًا مطلوبًا من بلد يعتبر نفسه جزءًا من الغرب.
رئيس الوزراء التركي توركوت أوزال مع نظيرته البريطانية مارجرت تاتشر
بحتمية الاتجاه نحو اليمين، كانت تلك هي اللحظة التي طالما انتظرها المحافظون ليديروا دفة البلاد نحو سياسات اقتصادية ليبرالية تفتح الباب لقوى اجتماعية جديدة عبر المشاريع المتوسطة والصغيرة، وتكسر هيمنة النخبة القديمة، وهي سياسات كانت لتؤدي إلى ترسيخ التعددية السياسية وتحجيم دور الجيش، إذ اقتصرت الديمقراطية على مدار رُبع قرن على وجودها بشكل إجرائي، ورغبة الجيش بعد كل انقلاب في إجراء انتخابات حرة والعودة لثكناته، وهي ضمانات كانت تعكس رغبة المنظومة نفسها، لا مكتسبات الشعب التركي في المجال السياسي، ولا يدلل على ذلك أكثر من التدخلات العسكرية التي قام بها الجيش كلما شاء.
كان توركوت أوزال هو الرجل المناسب في الوقت المناسب، إذ نجح في استغلال الفرصة لخلق الانفتاح المطلوب، وكان حزبه، الوطن الأم، يضم اليمين بكافة أطيافه، بدءًا من الليبراليين سياسيًا، وحتى ذوي الميول الإسلامية، وعلى عكس انقسام المحافظين بين أربكان ودميرل، والذي سمح لحزب الشعب بالتفوق السياسي في أحيان كثيرة قبل الانقلاب، أتاح حل كافة الأحزاب وحبس جميع السياسيّين لتوركوت أوزال أن ينفرد بالسلطة، لا سيما وأنه لم يعاني من منظومة 1961 التي قيّدت من سلطات الأغلبية أيام دميرل، بعد أن عزز دستور 1982 سلطان القوة التنفيذية.
بشكل ما، كان عصر أوزال هو بمثابة عودة لمندرس، ولكن هذه المرة برغبة الجيش نفسه، وبظروف دولية مواتية لترسيخ التغيير بشكل لا يمكن التراجع عنه، بيد أن تلك اللحظة الفارقة قد تبددت جزئيًا، أولًا بعد اشتعال الصراع بين الجيش وحزب العمال الكردستاني في جنوب شرق البلاد، وثانيًا بعد عام 1987، إذ حصل كافة السياسيون القدماء على عفو سياسي، ليعود كل من دميرل وأربكان وأجاويد إلى الساحة، الأول عبر حزب الطريق القويم، والثاني عبر حزب الرفاه، والثالث عبر حزب اليسار الديمقراطي، بل وظهر أيضًا أردال إينونو، نجل عصمت إينونو، ليقود الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
عام 1989، أصبح أوزال رئيسًا للجمهورية، تاركًا منصب رئيس الوزراء وقيادة الحزب لخلفه الضعيف مسعود يلماز، والذي لم ينجح في إقناع الناخبين على ما يبدو بإمكانياته السياسية، ليميل الأتراك مجددًا نحو دميرل، الذي خرج بالمركز الأول في انتخابات 1991، وأصبح رئيسًا للوزراء، ثم رئيسًا للجمهورية عام 1993 بعد الوفاة المفاجئة لتوركوت أوزال بأزمة قلبية، والتي خلفت فراغًا بالطبع في الساحة السياسية، وأعادت البلاد جزئيًا إلى حكومات الائتلاف غير المستقرة.
صعود الإسلاميين
نجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان
جذب الأنظر في تلك الفترة هيمنة اليمين بكافة أشكاله، وظهور الإسلاميين كقوة نجحت في دخول البرلمان وتجاوز الـ10٪، حيث حصل حزب الرفاه على حوالي 17٪ في انتخابات 1991 ليحل رابعًا، ثم يحقق المفاجأة عام 1995 بخروجه بالمركز الأول، تاركًا المركز الثاني لحزب الوطن الأم بقيادة يلماز، ثم الثالث لحزب الطريق القويم بقيادة السياسية تانصو تشيللر، خليفة دميرل بعد أن اتجه الأخير للرئاسة، في حين تراجع اليسار تمامًا بقيادة أجاويد، ليتم تشكيل حكومة ائتلافية بين أربكان وتشيللر ترأس فيها الأول الحكومة وأصبحت الأخيرة نائبة له.
بطبيعة الحال، لم تنل حكومة أربكان رضا الجيش، والذي استمر تأثيره بشكل ناعم في الساحة السياسية، ليُصدر مجلس الأمن القومي مذكرة عام 1997 ويُجبر أربكان على توقيعها، والتي تضمنت قرارات بإغلاق الكثير من المدارس الدينية التي افتُتِحت تحت رئاسته للحكومة، وإلغاء بعض الطرق الصوفية، وهي مذكرة دفعته في النهاية للاستقالة، ثم حل الحزب من جانب المحكمة الدستورية بحجة تقويضه لأسس الجمهورية العلمانية، ليتم تأسيس حزب الفضيلة خلفًا له برئاسة رجائي قوطان بعد حظر أربكان من ممارسة السياسة.
لم ينجح قوطان في إقناع الناخبين الأتراك في انتخابات 1999، لتتفتت أصوات اليمين، والتي تجاوزت مجمعة أكثر من 50٪، بين الحزب القومي الصاعد بقوة بقيادة دولت بغشلي، والذي لا يزال موجودًأ إلى اليوم، ثم حزب الفضيلة الذي حل ثالثًا، وحزبي الوطن الأم والطريق القويم، في حين تكتلت أصوات اليسار خلف حزب أجاويد لتعطيه المركز الأول، وليقوم هو بتشكيل الحكومة بالائتلاف مع الوطن الأم والحزب القومي، والتي قادت تركيا لأزمة اقتصادية عام 2001، لتتم انتخابات جديدة عام 2002 لم ينجح فيها أحد في تجاوز الـ10٪ سوى حزب العدالة والتنمية الجديد، صاحب الجذور الإسلامية كما أشير له آنذاك، وحزب الشعب الجمهوري الذي أعيد تأسيسه بقيادة دنيز بايقال وتجاوز بالكاد النسبة المطلوبة.
أردوغان عمدة لإسطنبول عام 1994
كما هو معروف، كتبت تلك الانتخابات شهادة وفاة كل النخب السياسية القديمة، والتي اختفت تمامًا من الساحة، بعد أن كان الحديث يدور قبل الانتخابات عن حكومة ترأسها إما تشيللر أو بغشلي، وكان رجب طيب أردوغان، والذي قاد الحزب للفوز مع رفيقه عبد الله كول، يتمتع بسمعة قوية آنذاك بعد سنوات حكمه كعُمدة إسطنبول في التسعينيات، والتي قام فيها بالكثير من الإصلاحات في المدينة الأكبر في تركيا، واضطر لترك منصبه بعد حل حزب الرفاه، وحظره هو شخصيًا عن الترشح للبرلمان إثر إلقائه لأبيات شعرية رأت المحكمة أنها بمثابة تحريض ديني.
بشكل ما، ظلت الفجوة التي خلفها أوزال فارغة طوال التسعينيات، والذي يُعَد عقدًا ضائعًا إن جاز القول أدى لتبديد اللحظة الفارقة، ليستمر تأثير الجيش في ساحة سياسية بقيادات ضعيفة، حتى ظهر حزب العدالة في 2002، والذي تُعَد مسيرته في السلطة، على الأقل في عقدها الأول، استمرارًا لخارطة الطريق التي رسمها لتركيا حزب الوطن الأم عام 1983، ومع غياب منافسين حقيقيين، ونجاح الحزب في ترسيخ هيمنته على الشارع المحافظ، لم تشهد تركيا انقسامًا في الأصوات المحافظة منذ 2002، ليستمر حزب العدالة صعودًا، ويهيمن على الساحة لأكثر من عقد، هو العقد الأبرز في التحول نحو الجمهورية الجديدة.