ترجمة وتحرير نون بوست
هناك مساوئ لكونك ممثل أو كاتب ساخر منحدر من دولة استبدادية عميقة، والعيش في المنفى هو النتيجة السيئة المتكررة والدائمة لهذا الواقع، ولكن لا أحد يمكنه أن ينكر أن للمنفى مزاياه أيضًا.
“أنا محظوظ لكوني ممثل كوميدي إيراني،” قال كامبيز حسيني لجمهور الديمقراطيين والمعارضين والمنشقين الذين تجمعوا هذا الأسبوع في النرويج، لحضور منتدى أوسلو للحرية السنوي أو كما يقال له “دافوس المعارضين”، ويضيف الحسيني بقوله “لا يمكن أن أعاني من نقص في المواد الكوميدية التي أقدمها عن إيران”.
لرسم البسمة على وجوه الجمهور، يمكن للحسيني ببساطة أن يعرض لقطات من التناقضات السخيفة الواقعة في التصريحات العلنية للجمهورية الإسلامية، مثل المرة التي قام بها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية بدعوة الإيرانيين في الخارج للعودة إلى ديارهم، ليخرج بعدها مسؤول إيراني كبير موضحًا أن جميع المغتربين أحرار بالعودة إلى طهران، ولكن أولئك الذين أخطأوا بحق الوطن، يمكن أن يتوقعوا أن يتم القبض عليهم إزاء هبوطهم على أرض إيران.
“لم أكن ممثلًا كوميديًا في يوم من الأيام، ولكنهم أجبروني أن أصبح كذلك”، قال الحسيني، الذي يسجل برنامج أسبوعي ساخر من نيويورك، والذي ذاع صيته بين محبيه باسم “جون ستيوارت الإيراني”.
يقول لاري دايموند، خبير الديمقراطية في جامعة ستانفورد، إن الكوميديا أصبحت أكثر إثارة للضحك من أي وقت مضى في فترة عودة الاستبدادية، ويوضح دايموند أنه منذ عام 2006، تم عكس – أو على الأقل إيقاف – التطور الديمقراطي الذي استمر لمدة الـ 30 عامًا منذ انتهاء الحرب الباردة، وإن رد الفعل السلبي على الربيع العربي هو أحد حلقات هذا الانعكاس الأكثر حداثة، ويدلل دايموند على صحة ما يقوله من خلال البيانات الصادرة عن فريدوم هاوس.
توضح الصورة السابقة نسبة الانتصارات التي حققتها الحرية بالمقارنة مع الهزائم منذ عام 1991 وحتى عام 2014، ومن الواضح بالطبع الانخفاض الشديد الحالي في معارك الحرية التي تم كسبها مقابل معارك الحرية الفاشلة.
أما هذه الصورة، فتظهر معدلات الديمقراطية في العالم منذ عام 1974 وحتى عام 2014، بحيث يمثل الخط الأحمر الديمقراطية الانتخابية والخط البرتقالي يمثل الديمقراطية الليبرالية، ومن الملاحظ طبعًا انخفاض مستوى الديمقراطية خلال السنين الماضية.
يقول دايموند “إن الدول الضعيفة تفتح الباب أمام استخدام السلطة السهل والسافر، وهذا بدوره يؤدي إلى الفساد والمحسوبية والسرقة على التوالي، وحينئذ يفقد المواطنون الثقة في الدولة السارقة، ومعها يفقدون ثقتهم في العملية الديمقراطية”، وفي الوقت نفسه، يتابع الديكتاتوريون مسيرتهم، حيث ينعت دايموند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ “أحد أخطر الرجال في عالم اليوم”، ويتفق مع أولئك الذين يرون شي جين بينغ الحاكم الصيني الأكثر استبدادية منذ ماو تسي تونغ.
النفوذ الإيراني يتنامى عبر الشرق الأوسط، ودايموند يوضح في منتدى أوسلو أيضًا عن وجود “مؤامرة سلطوية متكاملة تنتشر على نحو متزايد”، ووسيلتها الأساسية هي منظمة شنغهاي للتعاون، التي تجمع كل من روسيا والصين وأربع دول من أسيا الوسطى، معظمهما في قبضة الطغاة المستبدين.
إن الطريقة التي يمكن من خلالها عكس الواقع الاستبدادي، كما يعتقد دايموند، هي جعل الديمقراطية تعمل بشكل أفضل، وأساس هذه الممارسة هي محاربة الفساد، حيث هلل دايموند فرحًا عند رؤية أتاهيرو جيجا، رئيس اللجنة الانتخابية في نيجيريا، يحافظ على هدوء أعصابه وهو يقوم بتسليم نتائج التصويت الذي سقط فيه رئيس الدولة الأفريقية الأكبر من حيث عدد السكان بنتيجة صناديق الاقتراع، وغادر منصبه طواعية، في الوقت الذي كانت فيه استطلاعات الرأي السابقة عبارة عن كرنفالات من الرشوة والعنف.
يوجد بعض الباحثين الذين يقولون إن “الركود الديمقراطي” هو أسطورة، وهذه الأفكار تستند في جزء منها للقراءة المتفائلة بشكل كبير لانتشار الديمقراطية في التسعينيات، ولكن بجميع الأحوال، فإن الحكومات الديمقراطية والحكومات الاستبدادية تقيمان صداقات في الخارج مع بعضهما بشكل وثيق؛ فواشنطن سعيدة منذ فترة طويلة بالضمانات الأمنية التي تقدمها لتجارة النفط الخام مع المملكة العربية السعودية وغينيا الاستوائية، كما أن باريس احتضنت جيلين من فساد أسرة بونغو في الغابون.
السلام المصطنع
لا أحد في منتدى أوسلو للحرية، الذي ترأسه سابقًا فاكلاف هافل، القائد الثوري التشيكي، ويترأسه الآن محترف الشطرنج الروسي ومعارض بوتين المنشق غاري كاسباروف، دعا إلى العودة إلى مبدأ “التدخل الليبرالي”، وهو المبدأ الذي مهد الطريق لغزو العراق في عام 2003 بغية نشر الحريات هناك صوريًا، ولكن مع ذلك، كان هناك قلق عميق حول تعثر القيم الليبرالية في الديمقراطيات الناشئة وفي الغرب على حد سواء.
“إن أكبر أزمة للديمقراطية تأتي من صميم الديمقراطية ذاتها” يقول بوبي غوش، وهو صحفي هندي المولد ومعلق سياسي، حيث طرح غوش المعضلة التالية: لماذا يصوّت الكثير أو القليل من الأشخاص بحرية للسياسيين القلائل أو الكثر الذين يصرّحون بوضوح عن أجنداتهم الاستبدادية؟ هذا الواقع ينطبق من شينزو آبي في اليابان وحتى بوتين في روسيا، ومن بول كاجامي في رواندا وحتى فيكتور أوربان في المجر.
البعض في منتدى أوسلو يضيف ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند، والقوميون الهندوسيون إلى القائمة السابقة، ويعلّق غوش على هذا قائلًا “ربما هناك في بعض الحالات شعور بأن هؤلاء الأشخاص الذين يقبعون في السلطة بالهند، سوف يبقون الخصومات العرقية تحت السيطرة، وهنا نقول مرة أخرى، أليست الديمقراطية ذاتها من المفترض أن تفعل ذلك؟”.
ربما السياسيون في الديمقراطيات الليبرالية أصبحوا متماثلين للغاية في مسعاهم لتحقيق مكاسب انتخابية في عصر مجموعات التركيز ووسائل الإعلام الاجتماعية.
“إذا كان الخيار ما بين الكوكا كولا أو البيبسي، فالناس سيقولون لك :تبًا لك، سوف نجد خيارًا آخر”، قال أحد الناشطين المؤيدين للديمقراطية في المنتدى، ومن ثمّ تطفو الظاهرة المستمرة المتمثلة بقيام طبقات المجتمع الوسطى باستدعاء العسكر لحماية ثروتهم النسبية، عن طريق الإطاحة بالحكومات المنتخبة؛ فمثلًا ملايين التايلانديين المؤيدين للحكم العسكري “صادروا من أنفسهم حق المواطنة على أرض الواقع، ليخضعوا لحكم الزعماء المستبدين”، كما يقول برافيت روجانافوروك، وهو صحفي تايلاندي أكسبته وجهات نظره المؤيدة للديمقراطية مضايقات المجلس العسكري التايلندي المستمرة، ويتابع بقوله “أولئك الذين تم إغواؤهم بالحكم العسكري، فقدوا الثقة في العملية الديمقراطية، واختاروا بدلًا منها السلام المصطنع، الذي تطبقه وتحرسه بنادق العسكر”.
أكبر مثال مدهش على الاتجاه العالمي الذي يخطوا بعيدًا عن الديمقراطية الليبرالية، ربما يكون في تركيا، فقبل أربع سنوات، كان مصطفى أكيول، مؤلف كتاب “إسلام بدون متطرفين”، يأمل أن تصبح بلاده نموذجًا لليبرالية الإسلامية، ولكن أحلامه خابت بعد اعتماد الدولة التركية على “السلطوية المذعورة”؛ فلتبرير التفريق الوحشي للمتظاهرين في جيزي بارك في عام 2013، ادعى رجب طيب أردوغان أن الأيادي الخارجية الغادرة والقوى الغربية المستعمرة هي التي كانت خلف إثارة القلاقل والاضطرابات في تركيا، ويعلّق أكيول على ذلك بقوله “تلك الرؤية التآمرية للعالم هي جزء أساسي من الحكم الاستبدادي”، ولكن بطبيعة الحال، فإن هذه الشكوك من التدخل الغربي ليست دائمًا خيالات تطفو في أدمغة الطغاة، فكما تقول النكتة القديمة: لماذا لم يجرِ أي انقلاب عسكري في الولايات المتحدة؟ الجواب ببساطة بسبب عدم وجود سفارة أمريكية في واشنطن!!.
بجميع الأحوال، فإن أكيول لا يخشى من تعميق إسلامية الدولة أكثر من خشيته من تعميق سلطوية الدولة، حيث يقول “تركيا لن تتحول إلى مملكة سعودية أخرى، ولكنها قد تتحول إلى نسخة روسية أخرى”.
“لا يمكنك قول ذلك”
بعيدًا عن كييف أو ميدان التحرير في القاهرة، فإن الليبرالية متذبذبة حتى في معاقلها، “الغرب خجول جدًا من الإفصاح عن قيمه، فهو لا يتكلم عن الليبرالية الكلاسيكية” يقول شيراز ماهر، زميل بارز في المركز الدولي لدراسة التطرف في كينغز كوليدج في لندن، “هذه الذبذبة تجعلنا متشككين بالغرب، وهذا يشعرنا بعدم الارتياح” يضيف ماهر، ويتابع “هذا التذبذب الغربي يأتي على نقيض الدولة الإسلامية، التي تعرف تمامًا ما تمثله، وهذا اليقين هو مغرٍ بشكل لا يصدق”، علمًا أن تحليل ماهر نابع من معرفة وخبرة عميقة، كونه سبق له وأن كان عضوًا في حزب التحرير، وهو جماعة إسلامية متطرفة.
إن الطريقة المعتوهة التي تعالج فيها كافة المجتمعات الغربية مسألة التطرف، تقوض ربما القيم الليبرالية بشكل أكبر، ويشير كنان مالك أن تمسكه بحرية التعبير تمتد إلى طفولته، حين كان طفلًا أسيويًا ثرثارًا في البيئة البريطانية العداونية، ورفض أن يصمت على الرغم من التحذيرات الاعتيادية التي وُجهت له، أما اليوم، فهو كاتب يقوم بالكشف عن نظام الرقابة الذي يزحف إلى صميم المملكة المتحدة، حيث تم حظر الخطابات المسيئة أو المستفزة بشكل متزايد بموجب القوانين أو الأعراف، “لا يمكنك قول ذلك” هي الاستجابة التقليدية لأصحاب السلطة عندما يتم تحدي سلطتهم، قال مالك للناشطين في أوسلو.
المحاكم البريطانية كانت سريعة جدًا بسجنها للإسلاميين المتظاهرين الذين يستخدمون شعارات عنيفة، مثل “اقطعوا رأس من يسب النبي” وما شابه ذلك، رغم أنه ينبغي حقًا أن يُنظر إلى هذه العبارات باعتبارها تصعيد خطابي، بدلًا من كونها تحريض مباشر على العنف، كما يقول مالك، ويضيف “تقويض حرية التعبير ليست الممارسة الوحيدة التي تجعل من ليبرالية الغرب تبدو مريبة، بل أيضًا الإحصائيات التي تشير إلى أن ربع جميع السجناء في العالم يوجدون في الولايات المتحدة، و58% من هؤلاء السجناء هم من الأمريكيين الأفارقة واللاتينيين”.
الثمن الباهظ
ولكن رغم جميع ما تقدم، كان يوجد بشكل خاص، بعض الامتنان والثناء بين بعض الناشطين في أوسلو لبعض الوزراء الغربيين، الذين عمدوا بسرعة وهدوء إلى منح حق اللجوء للمعارضين الذين أجبروا على الفرار من دولهم الاستبدادية، حتى عندما وصلت هذه الممارسة إلى حد الإهانة الدبلوماسية لحليف إستراتيجي، أو هددت بتشكيل رد فعل سيء في ساحات السياسة الداخلية، حيث تعلوا المطالبات المتشددة المناهضة للهجرة، ولكن مع ذلك مازال يوجد وزارء مستعدين لدفع أثمان باهظة خدمة للحرية.
في فندق أوسلو الكبير، كان يمكنك ملاحظة رجال يرتدون الطقم الرسمي الأسود، وهم يضعون السماعات الصغيرة داخل آذانهم، ويقفون باستعداد كعناصر حماية مخصصة للكاتبة الفرنسية – المغربية زينب الغزوي، التي تصادف كونها بيوم أجازة في يوم 7 يناير، عندما قتل سعيد وشريف كواشي تسعة من زملائها في مكاتب المجلة الساخرة شارليشارلي إيبدو.
الغزوي عادت إلى باريس، وقدمت العديد من المقابلات التلفزيونية، وقالت إنها ساعدت على إصدار نسخة الناجين من مجزرة شارلي إيبدو، وهي النسخة التي يظهر فيها النبي وهو يبكي مع عبارة “غُفر لكل شيء”، وفي اليوم الذي صدرت فيه هذه النسخة، ظهرت هاشتاج جديدة على موقع تويتر نصها كما يلي #وجوب_قتل_زينب_الغزوي_ثأرًا_للنبي، وحينها قامت عشرات الحسابات المرتبطة بداعش بإعادة تغريد الهاشتاغ لـ 7500 مرة، كما تقول الغزوي، قبل أن تقوم إدارة تويتر بحذفه بعد أيام قليلة، ولكن حينها كان قد سبق السيف العذل، فحياة الغزوي كانت قد دُمرت بالفعل، حيث تم تعميم تعليمات دقيقة حول كيفية تنفيذ عملية قتل الغزوي، كما تم نشر عنوان زوجها في الدار البيضاء، مما أدى إلى عيشها وزوجها في رعب دائم.
ولكن على الطرف الآخر، ريما سوبراني، وهي رسامة كاريكاتير سياسي من فنزويلا وصديقة لأحد الذين لقوا حتفهم في حادثة شارلي إيبدو، تم طردها في العام الماضي من الصحيفة التي تعمل بها، بعد أن رسمت كاريكاتير تتحدث فيه عن إرث هوغو شافيز وحالة الخدمات الصحية في فنزويلا، وبعدها تعرضت سوبراني للذم والتهديد بالقتل من قِبل العامة، ولكنها مع ذلك تقول “الفكاهة مرآة المجتمع، إنها تتغذى من خراب العالم، مثل سلاح ذكي، فالفكاهة هي وسيلة لمقاومة الطغيان”.
في منتدى أوسلو أيضًا قام مو عامر، وهو ممثل كوميدي ارتجالي عربي- أمريكي، بافتتاح عرضه بقوله “اسمي مو عامر، وهو اختصار لمحمد” قبل أن يرفع صوته عاليًا قائلًا “مفاجأة أيها الكلاب، اليوم هو اليوم المنتظر” في دلالة ساخرة للطريقة التي يفجر بها الإسلاميون الراديكاليون أنفسهم، وهي خطوة شجاعة من رجل يؤدي عروضه في كثير من الأحيان أمام القوات الأمريكية.
تم التذكير في أوسلو أيضًا بضحايا الحرية، حيث سمع النشطاء تحية لبوريس نيمتسوف، السياسي الليبرالي الروسي الذي تم اغتياله بالقرب من الكرملين في فبراير الماضي، ومن نور العزة أنور، الذي يقضي والده، زعيم المعارضة الماليزية أنور إبراهيم، عقوبة الحبس بتهم مشينة ندد بها أغلب فقهاء القانون الدولي، كما تم قراءة رسالة من أصدقاء رائف البدوي، المدون السعودي الذي حُكم عليه بألف جلدة وعشر سنوات في السجن العام الماضي لكتابته في أحد المدونات السعودية، ورسالة أيضًا عن نبيل رجب، الناشط البحريني في مجال حقوق الإنسان، والفنان الكوبي دانيلو مالدونادو، الذي تم حبسه لنشره تغريدات حول التعذيب في السجون الكوبية، ولقيامه بإعادة استحضار رواية جورج أوريل “مزرعة الحيوان” عن طريق كتابة أسماء الأخوين كاسترو على زوج من الخنازير.
كما تم أيضًا عرض قصة جي سيونغ هو الذي سافر 6000 ميل من خلال الصين وميانمار وتايلاند هربا من كوريا الشمالية، حيث قام بذلك مع عكازين، بعد أن تم قطع رجله اليسرى من قِبل قطار عابر إثر إغمائه فوق سكة الحديد بسبب نقص الغذاء ، ولكنه وصل في نهاية المطاف إلى سيو، وكانت أعظم رغبات هو تتمثل باجراء اتصال مع والده مرة أخرى في كوريا الشمالية وإخراجه منها أيضًا، وفي البداية كان من المستحيل الاتصال به ولكن بعد ذلك وصلت أنباء عن قيام السلطات الكورية الشمالية باعتقال والده وتعذيبه حتى الموت.
المصدر: فايننشال تايمز