تصل عشرات الشكاوى يوميًا لمنظمات حقوق الإنسان المهتمة بالملف الحقوقي المصري تفيد تعرض مواطنين مصريين للاختفاء القسري على يد رجال الأمن مع تأكيد ذويهم على عدم توصلهم إلى مكان احتجازهم، حتى أصبحت تلك الظاهرة متكررة بشكلٍ يومي منذ انقلاب الـ 3 من يوليو من العام 2013 وزادت وتيرتها في الأشهر القليلة الماضية بشكلٍ مريب.
الاختفاء القسري.. تعريف الظاهرة وموقف مصر منها قانونيًا
الاختفاء القسري هو الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكلٍ من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذنٍ أو دعمٍ من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يُحرمه من حماية القانون.
هكذا جاء تعريف الاختفاء القسري بموجب ما صدقته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر من العام 2006 في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري المضمنة لـ 45 مادة، تشتمل على منع حالات الاختفاء القسري ومكافحة إفلات مرتكبي جريمة الاختفاء القسري من العقاب، وأخرى وضعت في الاعتبار حق كل شخص في عدم التعرض لاختفاء قسري، وحق الضحايا في العدالة والتعويض، وغيرها من المواد التي تعتبر تلك الظاهرة جريمة ضد الإنسانية.
مصر غضت الطرف عن تلك الاتفاقية منذ صدورها قبل تسعة أعوام؛ فلم توقع عليها أو تقرها ولم تعترف بها ظاهريًا حتى كغيرها من الاتفاقيات الدولية التي اعترفت بها دون أن تجد لها أثر في التطبيق على أرض الواقع، ورغم مطالبات رابطة الاختطاف والاختفاء القسري المتكررة لمصر بالاعتراف بالاتفاقية والتوقيع عليها، التي كان آخرها من مؤسس الرابطة إبرام لويس في 30 أغسطس من العام الماضي، في اليوم الذي أقرته الولايات المتحدة ليكون يومًا دوليًا لضحايا الاختفاء القسري اعتبارًا من العام 2011، إلا أنها أصرت على موقفها السلبي تجاه الاتفاقية.
بدا جليًا أن توقيع مصر على اتفاقية الاختفاء القسري لن يثني رجال الشرطة عن جرائمهم الحالية في إخفاء المواطنين قسريًا ولن يقدم الجديد لخدمة الملف فلن تكون غير ردعٍ واهٍ، ذلك أن بعض المعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر سابقًا جرمت الظاهرة تلك، التي جرمتها أيضًا القوانين المصرية التي ظلت حبرًا على ورق ولم تدخل حيز التطبيق، ففي العام 1982 وقعت مصر على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي نص في عددٍ من بنوده على حفظ كرامة وحرية المواطن وتجريم القبض عليه دون سند قانوني، أي أن السلطات المصرية اعترفت بتجريم تلك الظاهرة وتعهدت بعدم ممارستها، الأمر الذي يكذبه الواقع المصري الآن بكل شواهده.
بشكلٍ أو بآخر، القانون المصري تطرق لتجريم الظاهرة وإن لم يفصح عن الاسم المتداول لها نصًا، فقانون الإجراءات الجنائية في مواده 40، 42، 43 نص على عدم جواز القبض على إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة، وكذلك على عدم جواز حبس مواطن إلا في السجون، مع تكلييف أعضاء النيابات العامة بالإشراف على السجون لضمان سير تلك القوانين بالإضافة لانتدابهم للتحقيق في الشكاوى المتعلقة بهذا الإطار، وأشار كذلك إلى وجوب المعاملة الكريمة للمواطنين.
وكذا نص قانون العقوبات المصري في المادة 280 على معاقبة المخالف لشروط القبض على المواطنين، وغيرها من المواد المتعلقة بضمان حرية وأمن وكرامة المواطن المصري، ووجوب التزام الدولة بتوفيرها للمواطن ومعاقبة المتسبب في حرمانه من تلك الحقوق المنصوص عليها في المواد 51، 54، 55، 59.
إحصاءات عن حالات الاختفاء القسري في الآونة الأخيرة
قبل أيام قليلة، أصدرت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات تقريرًا أكدت فيه أنها رصدت نحو 228 حالة اختفاء قسري في شهر أبريل وحده، وأن 50% من الحالات التي رصدتها في شهر مارس أي نحو 70 شخصًا مازالوا رهن الاختفاء القسري، وأكدت أن الحالات التي تمكن من التوصل إلى مكان احتجازها بدا عليها آثار تعذيب واضحة.
أما المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا تحدثت عن نحو 132 حالة مضى على اختفائها أكثر من عام من بينهم نساء وأطفال وطلاب، وأشارت منظمة حقوقية أخرى أن 600 مواطن تعرض لعملية الاختفاء القسري خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2015، وأجمعت المنظمات في تقاريرها أن الأرقام الصادره عنها لما تمكنت فقط من رصده بسبب الوضع الأمني الصعب في الداخل المصري، ولفتت القول إلى أن الواقع على الأرض يتجاوز ذلك بكثير.
أبرز الحالات التي سُلِط عليها الضوء من قِبل النشطاء
اختطاف أحد مؤسسي مدرسة شيخ العمود بجامعة الأزهر لإحياء علوم الدين، أنس السلطان، وشقيقيه طالب الثانوية، إسلام، والطالب الجامعي، أسامة، بعد اقتحام منزله بمدينة نصر وتكسير محتوياته وسرقة مبالغ مالية وهواتف محمولة وأجهزة لاب توب أثناء عملية المداهمة، وذلك فجر الثلاثاء الموافق 26 مايو من الشهر الجاري واقتياد ثلاثتهم إلى جهة غير معلومة، مع إنكار قسمي أول وثان مدينة نصر تواجدهم داخل أحدهما، حتى عرضهم على نيابة مدينة نصر بالأمس فقط، تعد أبرز حالات الاختفاء القسري الأخيرة التي أثارت جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً وأن الرجل لم يعلن انتماءه لأي فصيل سياسي، كما لم يعبر عن رأيه السياسي في الأحداث التي أعقبت انقلاب الـ 3 من يوليو 2013.
الفتيات كذلك حَزن على نصيبهن من تلك الجريمة، فالطبيبة بمستشفى القصر العيني بأسيوط، أسماء خلف شندين، اختطفت من مقر عملها قبل أكثر من عام، ظلت أسرتها تبحث عنها من أبريل من العام الماضي في كل أماكن الاحتجاز بالمحافظة وقدمت بلاغات عديدة لأقسام الشرطة والنيابات والنائب العام والمحامي العام ولم يجد جديد من حينها بشأن مصير الطبيبة، وكذلك إحدى طالبات جامعة الأزهر فرع الشرقية، علا عبدالحكيم، التي اُختطفت من أمام الجامعة منذ يوليو الماضي ومازال مصيرها مجهول هي الأخرى، وغيرهن العشرات.
يطول الحديث في هذا الصدد بالتحديد فلا تكفي سطور هذا المقال لعرض قصص ومآسٍ لمواطنين اختارهم الأمن المصري لممارسة عنفه المتأصل، كما يصعب توصيف حالة الرعب والقلق التي يعيشها المتخطف قسريًا وأهله الذين يظلون شهورًا يبحثون عنه، فما بين شكاوى لا تقدم جديدًا يسعون بشتى الطرق إلى تقديمها للوزارات المعنية والنائب العام والنيابات ودعاوى لمجالس الدولة وغيرها من الجهات السيادية علها توصلهم لجديد عن ذويهم، وما بين معلومة شاردة تصل من هنا أو هناك عن تعذيب يلقاه الضحية فيموت الأهالي يوميًا عشرات المرات لمصير مختطفهم المجهول، بالطبع المعاناة النفسية علاوةً عن المعاناة المادية للأسر التي يختطف عائلهم الوحيد فيعيشوا في ضائقة مادية بالإضافة للمعاناة السابقة.
سيناريوهات يلقاها المختطف القسري
أثناء متابعتي مع أسرة إحدى الفتيات المختطفة تفاصيل الحادث وكل ما يجد به، فوجدت تجلي لحظة السعادة لدى الأسرة بعدما وجدوا ابنتهم ملقية في أحد الشوارع القريبة من مكان سكنهم يظهر عليها آثار ضرب وعنف جسدي لقته من قِبل قوات الأمن التي اختطفتها من أمام مدرستها واحتجزتها لمدة إسبوعين، روت الفتاة أنها كانت تلقى معاملة سيئة في مكان مهجور بعض الشيء حيث مكثت في دورة مياه، وبين الفينة والآخرى كانت تدخل عليها إحدى السيدات أو أفراد الأمن بالمكان ليقوموا بضربها وإهانتها جسديًا.
بعض الأشخاص بعد ظهورهم لا يعودون لمنازلهم، فيعرضون على نيابات ترفض تسجيل أي تفاصيل عن اختطاف الحالة الماثلة أمامها وإخفائها لشهور وتعرضها لضروبٍ من التعذيب، والبعض الآخر قد يُصاب بعلة مستديمة، فقد سجلت بعض الحالات أصابها شلل كلي ونصفي، وأخرى أصابها عجز في أداء الوظائف الجسدية كالنطق والحركة بسبب ما لاقوه أثناء اختطافهم.
ربما يلقى المختطف مصير آخر كالموت، إما تحت وطأة التعذيب إذ سجلت قرابة مائتي حالة لقت حتفها نتيجة التعذيب المستمر في أماكن احتجاز مجهولة تابعة لقوات الأمن، أو لتوريط الضحايا في تهم ملفقة بعد قتلهم لكي لا يتمكنوا من إنكارها، أو كحالة الطالب، إسلام عطيتو الأخيرة، حيث اختطف من لجنة الامتحان وتم تصفيته بالرصاص الحي ومن ثم إشاعة انتمائه لتنظيم إرهابي، وسبقه عشرات الحالات بنفس السيناريو، أو أن يتم تفجيره كالحادث الأخير في بني سويف الذي أودى بحياة 5 أشخاص، وسابقه في الشرقية الذي أزهق أرواح ثلاثة طلاب جامعيين، وكان المشهد واحدًا رغم اختلاف توقيت ومكان الحادثين، فقد تم اختطافهم من قِبل عناصر الشرطة ومن ثم قتلهم وتفجير قنبلة بجوار جثثهم وذلك لاتهامهم بالضلوع في تفجيرات.
هذه الجريمة الآن باتت سلاحًا مستخدمًا في أيدي السلطات المصرية بلا أدنى تورع، فبشكل يومي تسجل حالات اختفاء قسري لمعارضين مصريين بعضهم يظهر بعد فترات متفاوتة لحسن طالعه، والآخر يلقى مصير الموت أو المجهول، الأمر الذي لم يعد يجدي نفعًا معه تذكير بقانون أو حقوق للبشر، وأصبح على الجميع أن يوطن نفسه لمواجهة هذا المصير في يوم ما، إذا ما أصر على التغريد خارج سرب الدولة.