قلما تجد الإداريين لهم كاريزما القيادة، وقلما تجد القادة يحسنون فن الإدارة ووضع الجداول والتفاصيل التى يتغاضى دائمًا عنها القادة، فالقيادة والإدارة قلّما تجتمعان في شخص واحد يسمى في التاريخ بـ “الفلتة “، كان حسن البنا أحد هذه الفلتات الذي اجتمعت فيه كل مقومات القيادة ومؤهلات الإدارة في آن واحد، ليؤسس جماعة الإخوان محققًا بعبقريته الإدارية قاعدة “الجاهلية المنظمة لا يواجهها إلا إسلام منظم”، واستطاع أن ينجو بجماعة الإخوان من أن تتحول إلى فكرة وأيدلوجية ومنهج ستنتهي بمجرد موته إلى مؤسسة تعمل وفق أطر إدارية منظمة ومحددة، ووضع لهذه المؤسسة منهجها وفكرتها وأصولها، فكان هذا التأسيس الأول للجماعة والمبهر في الوقت نفسه.
ولكن احتاجت الجماعة إلى التأسيس الثاني لها، فجاءت المحنة، وجاء الرجل الذي تأسست الجماعة على يديه تأسيسًا ثانيًا، وفي الحقيقة لم تكن المحنة هي الدافع لأجل أن تؤَسس الجماعة مرة أخرى ، بل المحنة كانت هي الوسيلة للتأسيس الثاني، ففي رأيي أن جماعة الإخوان لم تتخل عن مرحلة التأسيس والتكوين منذ نشأتها كفكرة عن الستة على رأسهم الإمام إلى يومنا هذا، بالعودة لهذا الرجل، إنه سيد قطب حين كان مسؤولاً للتربية بالجماعة ستة أعوام وكان – ولا يزال – منصب مسؤول التربية يضاهي منصب المرشد منزلة في أدبيات الجماعة، ففي أحيان كثير يكون هو مسؤول المرشد نفسه، واستطاع قطب ببلاغته وسحر بيانه وقوة تعبيره وتوج كل هذا بتضحياته التى جاءت مع مرضه ليكون نموذجًا فريدًا في العطاء والبذل من أن يؤسس التأسيس الثاني للجماعة من خلال شرحه الوافي والأصولي لفكر الإمام المؤسس الأول، والإحياء العملي للنموذج الذي حكى عنه الإمام نظريًا في معظم رسائله، وليكتمل التأسيس الثاني كان لا بد من محنة شديدة لتخرج الجماعة كلها من كون سيد قطب وحده يفهم منهج الإمام ودعوته وفكرته إلى كل فرد في الجماعة، وقد كان، فجاءت المحنة ليتحول كل فرد في الجماعة إلى البنا وقطب في الوقت نفسه، وقد جاءت المحنة في وقت أحوج ما تكون له الجماعة.
وخرجت الجماعة من التأسيسين الأول والثاني، فكرة واضحة ومنهجية منظمة وواضحة أيضًا ومؤسسة فولاذية، ولكنها غائبة في أذهان الناس، لا يفهمها الكثيرون ولا تعرفها المجتمعات، أفراد قليلة في كل قطر يعرفونها ويعرفون دعوتها، حتى جاء التأسيس الثالث، عمر التلمساني، جاء الرجل الحبوب الودود الذي يترحم على أعدائه – عبد الناصر – من عائلة التلمساني الشهيرة، ابن الذوات، وكانت الجماعة لا تزيد عن بضعة آلاف، فكانت إستراتيجيته “الانتشار الأفقي الواسع” و”إجراءات التكوين”، فكان الانتشار المجتمعي الطفري والطردي والموسع، ولم تهتم الجماعة إلا بأطروحتين “التربية العميقة للصف” و”انتشار الدعوة بين الناس”، فكانت أنشطة الجماعة كلها تكاد تنحصر في التربية للصف من خلال المعسكرات والكتائب حفاظًا على الموروث للبنا وقطب والأعمال الخدمية للجماهير والفنية والسياسية لغرض الخدمة، وأعلنت بحالها هدنة مع النظم، وكانت كلما ضغطت النظم على الجماعة استغلت تلك الضغوطات كوسيلة مثلى لتربية الصف فكانت تفيدها وتستغلها أكثر مما تضرها، وكان الخطاب الدعوى ينحصر في السلوكيات لوجدي غنيم والآداب وخُلق المسلم ومنهاج المسلم، وظهرت مصطلحات جديدة في الدعوة مثل “البديل الإسلامي” و”الإسلام الوسطي”.
وجاء مصطفي مشهور ليكمل الإستراتيجية التي وضعها المؤسس الثالث عمر التملساني، ليتوسع أفقيا ليكون عابرًا للحدود؛ فبايع قيادات الإخوان بدول شتى كما يقول حبيب إنه سافر معه إلى 33 دولة لمبايعة قيادات الإخوان له في هذه الدول؛ فأصبحت الجماعة متغلغلة في كل شارع وحارة وفي كل نقابة وجمعية، وشكلت الجماعة نموذجًا فريدًا من أساتذة الجامعات والمتفوقين في كل مجال لتدهش بذلك الجميع، أصبحت إمبراطورية شعبية جماهيرية تهوى إليها الأفئدة، ونجح المؤسس الثالث بإستراتيجيته فى تكوين “المجتمع المسلم” بجدارة، والانتشارالأفقي المبدع والمطرد ليكون محليًا ودوليًا ووصلت الجماعة إلى أعداد وصفتها الأمم المتحدة عام 2007 بأنها أكبر منظمة غير رسمية في العالم، كل هذا كان وفق منهجية الهدنة وتفادي الصدام مع الأنظمة.
وتغاضت الجماعة مع مرور الوقت عن تأثير تلك المنهجية على المنهج نفسه، ونست الجماعة شيئًا فشيء منهجها الأساسي الذي وضعه المؤسس الأول وفسره الثاني ومات في سبيله وهو “إزالة الطواغيت” سواء محليًا أو دوليًا، وتحولت السياسة وخدمة الناس من وسيلة مؤقتة الغرض منها الانتشار المجتمعي وخلق المجتمع المسلم إلى كونها المنهج الحقيقي والوحيد في التغيير، وتحولت الهدنة المؤقتة إلى ديمومة منهجية، وظهرت بعض القيادات تقول في اللقاءات “نريد تغيير الشعار من سيفين ومصحف إلى وردتين ومصحف”، وتحول الخطاب الإعلامى في كل القطاعات إلى تفنيد الشبهات وأننا قوم خلقنا لنخدم قومنا ونعيش لهم خدمًا ليل نهار، حتى إنها تناست إعلاميًا أن السياسة كانت إحدى الوسائل لتحكيم شرع الله فصار هذا الهدف لا يتداوله الإخوان إلا في اللقاءات وكان لا يُستحضر إلا في نفسية الأخ أثناء قيامه بالنشاط السياسي، أما الخطاب الإعلامي فكان أننا نريد أن نفوز بمقعد كذا لنعمل على خدمتكم وخدمتكم فقط، حتى السياسة تحولت إلى نشاط خدمي مجتمعي!
وبعدما حققت الجماعة مرحلتها المجتمعية والانتشار الجماهيري الدولي والإقليمى والمحلي، وصار هناك مجتمع مسلم حقيقي يمثل الإسلام الذي جاء به محمد بدون زيادة ولا نقصان، وصار فكر المؤسسين الأول والثاني عند فكر عوام كثير من المسلمين – المجتمع الربعاوي – وصارت أيضًا المنهجية التلمسانية لا تصلح لمعطيات العصر ودوافع الصراع ومرحلة الحركة والجماعة، وصار هناك ثمة انحراف عن المنهج والفكرة لدى بعض قيادات وأقطاب الجماعة، ومن هذا كله أصبحت الجماعة أحوج ما تكون للتأسيس الرابع، وجاء الانقلاب!
أهم ما يميز هذا التأسيس أنه غير مرتبط بشخص المرشد أو قيادة الجماعة كما كان في التأسيس الأول والثاني والثالث، بل على العكس فقواعد الجماعة لأول مرة هي التي تؤسس التأسيس الرابع، ويزيد من الأمر أن الجماعة تحولت من كونها شركة تضامن يختص بشؤونها أفرادها المؤسسين فقط إلى شركة مساهمة تخص الأمة كلها، فكلنا أدركنا أن أخطاء الإخوان تصيب الأمة كلها بالوبال، وأن إنجازاتهم تصيب الأمة كلها بالرفعة، وأدرك الإخوان أنفسهم كذلك، فصار يشارك في التأسيس الرابع للجماعة من هم خارج الإخوان أنفسهم!
وتلقت الجماعة عدة صدمات أعادتهم للمنبع (الإمام وقطب)، وصدموا في تلمسانية المنهج وأدركوا أنها كانت عبقرية من التلمساني في وقته ووقته فقط، أما الأن فهي كالبناء على البحر، وأدركت الجماعة – على الأقل القواعد منها – الخديعات الثلاث (الديمقراطية – التوافق – خدمة الشعب)، وأدركت الجماعة أيضًا – على الأقل القواعد منها – الثبوتيات الثلاثة (الجهاد سبيلنا – الصراع على التحكم وليس الحكم – السياسة لتحكيم شرع الله وليست لخدمة الناس ).
واقول إنه لولا الانقلاب لزالت الجماعة عن بكرة أبيها ولتحولت إلى حفنة من الدروايش تخدم الناس وتطعمهم شأنهم شأن الصوفية في التكيات والولائم المباركية، ولأصبحت أفكار البنا وقطب حبرًا على ورق وأثرًا من آثار الجماعة وتراثًا من تراثها.
وحيث إننا نعيش في التأسيسس الرابع للجماعة؛ فعلى قيادات الإخوان إدراك أن الموجة أعلى منهم بكثير، فيجب أن تتشكل لطبيعة المؤسسين وتتهيأ لمرحلة جديدة من الحكم والتهيئة لمرحلة الأستاذية.
ولعل رجلاً لايزال نطفة في صلب أبيه الآن، يأتى بعد سنوات ليكتب ويقول عنا كما نقول عن قياداتنا، ويقول إن أصحاب التأسيس الرابع يجب أن يتنحوا الآن لنعلن التأسيس الخامس متمركزًا في الخلافة الإسلامية، وربما سيكون هذا التأسيس هو بيان حل الجماعة .. من يدرى!