تتجه حركة النهضة التونسية إلى عقد مؤتمر عاشر استثنائي ستخوض من خلاله في قضايا جوهرية باتت في حكم الملح مع التغييرات التي شهدتها تونس.
وكما تطرقنا في مقال سابق، يعتبر إحراج “سبل تصريف المشروع” أحد القضايا الأساسية التي رحلت من مؤتمرات سابقة والتي من المنظر أن تستأثر بجزء مهم من النقاشات.
لا شك أن الحركات السياسية التي تكتنز عمقًا مضمونيًا في طرحها تحتاج دائمًا أن تتأمل في الأساليب والأوعية التي تنطلق منها وعبرها نحو الترويج لمشروعها الحضاري، وأن تكون لها القدرة والقابلية للتكيف هيكليًا مع أهدافها، وحركة النهضة بما أنها مشروع حضاري متعدد الأبعاد، تحتاج كجسم أن تتناول هذه المسألة بهذه الأريحية حتى لا ينبع القرار من حالة ذهنية متوترة.
وفي السياق ذاته، تحتاج الإجابة عن مثل هذه الأسئلة العميقة درسًا لمختلف الأبعاد المتعلقة به وبذات العمق، لأن هذا الجنس من القرارات يصعب الرجوع عنه، فهو قرار إستراتيجي يحتاج فترة زمنية هامة قبل أن يجوز تقييمه.
في تقدير الموقف السياسي
حركة النهضة بما هي جسم اجتماعي ذي طرح حضاري وتمظهر سياسي، تتفاعل بالضرورة تأثيرًا وتأثرًا بما يحيط بها من واقع وطني وإقليمي، وهو ما يدفع الباحث عن إجابة لإخراج “سبل إدارة المشروع” لأن يحسن قراءة هذا الواقع حتى يحسن الإجابة.
وبالتملص من سطوة الآني لبرهة من الزمن بحثًا عن التجرد، وبمزج التاريخ الحديث وتفاصيله مع خارطة النفوذ بتعقيداتها، نخلص إلى جملة من الثوابت – في المدى القصير والمتوسط – التي قد تكون ضمن الموجهات العامة للعقل الباحث عن إجابة للسؤال المذكور أعلاه.
فأما الخلاصة الأولى، فهي أن المنجز السياسي في الحالة التونسية مازال هشًا يحتاج جهدًا إضافيًا حتى تنتهي عملية التثبيت، فرغم التوافق على الدستور وارتفاع مستوى فصوله، إلا أن الدساتير يفسرها الأقوى (وهو ما تحسسناه مؤخرًا بعدد ليس هينًا من الخروقات الدستورية)، كما أن القوانين التي تسير البلاد لم يقع تحديثها بعد لتنسجم مع روح الدستور.
وأما الخلاصة الثانية، فتتعلق بعدم مضي المشهد السياسي التونسي بعد إلى حالة من الاستقرار، ولعل ضمور الحضورالحزبي، سواء في الشق الحاكم أوفي الشق المعارض، فيه دلالة على أن الأحزاب التي تشكل المشهد السياسي لم تهتد بعد إلى الوضع الذي يريحها والذي به يمكن أن تتخلص من التذبذب الذي يميز سياساتها؛ إن هذا الغموض يفتح الباب واسعًا لكل الاحتمالات، ويجعل من المستحيل استقراء المستقبل في ظل مزاجية القرار السياسي المحكوم بموازين قوى لم تثبت بعد.
من جهة أخرى، مكابر من ينكر أن موجات الربيع العربي جوبهت بموجات مضادة أشاحت عن قوة عودها، ورغم نجاح تونس في تجنب جنونها والخروج بأخف الأضرار، إلا أننا إزاء جنون لن يكل ولن يمل قبل تحقيق غايته كاملة خاصة مع استفحال نهم الدم والإقصاء في علاقة بالقوى التي أفزتها الثورات.
وضع المسألة في إطارها التاريخي
من المهم بمكان أن نقلب دفاتر التاريخ لنضع المسألة التي نتناولها في سياقها عل ذلك يساعدنا في طرح أسئلة إضافية تفكك السؤال الأصلي لتيسير الإجابة عنه.
انطلقت الحركة الإسلامية في تونس كحركة إصلاحية دعوية اجتماعية إلى حين إعلان نفسها حزبًا سياسيًا سنة 1981، وهو تاريخ إلحاق البُعد الحزبي السياسي بباقي الأبعاد.
وكنتيجة طبيعية لهذا البُعد الوافد، انطلق الحديث داخل جسم الحركة حول الموازنة بين هذه الأبعاد كلها داخل انتظام يقول بالشمولية، وقد أفضت هذه النقاشات إلى طرح هذه المسألة رسميًا في مؤتمر سنة 1986، الذي خاض فيما عرف وقتها بالروافد أو المنابر التي يمكن عبرها إدارة مختلف هذه الأبعاد.
ورغم أن أغلب الحديث السائد وقتها كان حول تقدم الهم السياسي على حساب باقي الهموم الدعوية والثقافية والاجتماعية، لم ينتصر المؤتمر إلى فكرة المضي نحو منابر مستقلة يختص كل منها بأحد الأبعاد (مع تبني خيار أولوية العمل الدعوي والثقافي والاجتماعي رغم أن تلك الفترة كانت سياسية بامتياز).
وبعد المحنة التي تعرضت لها حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقًا)، عقد مؤتمر سنة 1995 كان من بين خلاصاته أن مضي التنظيم في استيعاب الصحوة كان من بين الأسباب التي أدت إلى ضرب كل أشكال التدين في البلاد عندما تم ضرب الحركة، إذ اعتبرت السلطة أن الصحوة الدينية كانت حاضنًا هامًا للحركة الإسلامية وأحد أوجهها التعبوية.
وفي مؤتمر 2001، أُعيد نقاش ذات المسألة إلا أنه لم يكن متاحًا الفصل فيها في وضع جسم الحركة وقتها، المتشظي بين السجون والمنافي، وأُرجئ النقاش إلى حين التئام الشمل.
ولئن أفضى مؤتمر 2007 إلى إحالة المهمة السياسية إلى الداخل وترجيح الجانب الدعوي في العمل المهجري، إلا أنه لم يكن قادرًا على الإجابة على سؤال “سبل تصريف المشروع” بالنظر إلى الواقع الذي كانت ترزح تحته البلاد من واقع ديكتاتوري بوليسي.
ورغم تسجيل حدث الثورة وانعقاد المؤتمر التاسع سنة 2012، إلا أنه كان هناك إجماع بأن النقاشات لم تتعمق بالشكل الكافي الذي يمكن من خلاله الحسم في هذه المسألة، لترحل إلى المؤتمر العاشر الاستثنائي الذي نحن على مسافة أشهر منه.
مجموع ما سبق يتلخص في أن عدم القدرة على الحسم في المسألة كان نابعًا من الشعور بأن الوضع العام ليس مناسبًا (وإن اختلفت التفاصيل بين فترة وأخرى).
وضع المسألة في سياقها الإدراكي
من المهم التأكيد على أن تناول مسألة سبل إدارة المشروع لحركة النهضة والذي يطرح فرضيتين، هو تناول لكيفية الإنجاز ولا يطرح للنقاش هوية النهضة، وبأن كلا الخيارين من المتاح المباح، فلا المنتصر لخيار الفصل بمروج لتعاليم الحزب (رغم أنه يحق للبعض اعتبار العلمانية الجزئية طريق خلاص للمشروع الاسلامي)، ولا المنتصر لخيار الوصل بأحرص ممن لا يوافقه الطرح.
من المهم أيضًا الإشارة إلى أن الحديث اليوم لا يتعلق بفصل الدين عن السياسية، فموقف حركة النهضة ثابت من هذه المسألة، بل إن الدستور حسم فيها، ولا يتعلق بفصل الدعوي عن السياسي، فتطور وعي حركة النهضة ونضجها يطرح كسؤال فرضية فصل الحركة الاجتماعية عن الحزب السياسي، باعتبار أن البعد السياسي بُعد نهم لا يترك لباقي الأبعاد مجالاً.
من المهم أن يبحث النهضويون عن الإجابة متخففين من وهم عقدة ذنب التفريط في هوية المشروع ونضالات السابقين، فالمسألة ببساطة تتعلق بالفاعلية وسبلها.
بين الفصل والأصل
بناء على ما سبق، يمكننا تحسس طريق الإجابة على سؤال سبل إدارة المشروع، ورغم أن الحديث عادة ما يتمحور حول فرضيتي الفصل والوصل، إلا أني أتبنى مفهومي الفصل والأصل: إما المحافظة على الأصل الذي خاضت به حركة النهضة أغلب معاركها، وإما التخفف من ثقل الشمولية بإيجاد أوعية جديدة تكسر “صنم الوعاء الواحد”.
لم تجرؤ المؤتمرات السابقة على المس من الوحدة الهيكلية للحركة تحت ضغط الظرف غير المستقر، ورغم تحسن الأوضاع، يحيل التقدير السياسي للحظة الراهنة على تواصل تلك الضبابية التي لا يمكن الاعتماد عليها لاتخاذ قرار مصيري.
من جهة أخرى، يحتاج قرار الفصل تقديم مشروع واضح المعالم، فإلى هذه اللحظة لا توجد إجابة حول سؤال “نفصل ماذا عن ماذا؟”، كما أن الفصل يحتاج جردًا دقيقًا للرصيد البشري باعتبار أن فصل الأوعية سيحتاج توزيعًا للرصيد البشري وهو ما لا أعتقد بوجوده (الجرد الدقيق للرصيد البشري).
كما أن مناصري خيار الفصل، يعللون طرحهم بوجوب التخفف من بعض الأبعاد مع تواصل التنسيق، أي أننا سنصبح إزاء أكثر من جسم قيادي، ما يستوجب إيجاد آلية للتنسيق فيما بينها، وهو ما يستوجب خلق آلية تنسيق تزيد الجسم ثقلاً حيث أراد التخفف.
وفي علاقة بمسألة التخفف وأن الشمولية باتت عبئًا وهضمت جانبًا على حساب جوانب أخرى، هل يمكننا اعتبار أن السؤال حول الفصل والأصل هو السؤال المناسب؟ ألا يريد العقل الباطن النهضوي أن يقفز بمثل هذا السؤال عن سؤال محوري وأساسي وهو كيفية تجاوز العجز في إدارة الرصيد البشري الممتد والمتنوع الذي يتميز به عن باقي الأحزاب؟ هل مضت كبريات الشركات العالمية العابرة للقارات التي توظف مئات الآلاف والتي تنشط في أكثر من مجال إلى التجزء؟ أم أنها أحسنت إدارة رصيدها البشري وخلقت نسقًا بضوابط علمية كان مرتكز نجاحاتها؟
لا أعتقد أن هذا المؤتمر يختلف عن سابقيه في علاقة بقدوم اللحظة المناسبة وأيضًا في علاقة بتنضيج الأطروحات، فطرح الفصل بديلاً عن الأصل يحتاج تقديم بديل حقيقي واضح المعالم.
قد يكون من الأسلم الاقتناع بأن طرح هذه المسألة سيكون بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، والغابة هنا هي في حسن التصرف في الرصيد البشري والانفتاح على الطاقات، فالمضي إلى فصل هيكلي مع نفس القصور في الإدارة سيفضي إلى نفس المشاكل ونفس العجز.
“كيف ندير رصيدنا البشري” هو السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرحه مؤتمر حركة النهضة، ويوم نجد إجابات حول هذه المسألة، سيكون من السهل أن نمضي في خيارات هيكلية جديدة بناء على ممكنات وبدائل واقعية.