ترجمة وتحرير نون بوست
الجزائر هي من بلدان العالم العربي، فهي ديكتاتورية، تحتوي على إسلاميين، ونفط، وصحراء شاسعة، وعدد قليل من الإبل والجنود والنساء المضطهدات، لكنها بذات الوقت تختلف بشدة عن بلدان العالم العربي، كونها الدولة العربية الوحيدة التي بقيت بمنأى عن أحداث الربيع العربي 2010-2011؛ فوسط الكوارث التي زارت المنطقة بشكل روتيني، بقيت الجزائر استثناءً، فهي دولة جامدة على الساحة الدولية، وغير مرئية، وتكره التغيير، وتحاول الابتعاد عن الأنظار.
هذا الواقع ناجم إلى حد كبير لكون الجزائر عاشت بالفعل ربيعها العربي في عام 1988، ولم تتعافَ من نتائجه حتى الآن؛ فالتجربة الجزائرية تركت الجزائريين مسكونين بخوف عميق من عدم الاستقرار، ونظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يتولى السلطة منذ عام 1999، استغل هذا الخوف القابع في أعماق الشعب، بالإضافة إلى استغلال الثروة النفطية للبلاد، للسيطرة على الشعب، في الوقت الذي استعمل فيه خدعًا عبقرية لإخفاء الجزائر عن أنظار العالم.
في أكتوبر 1988، خرج سيل من آلاف الشباب الجزائريين للشوارع للاحتجاج ضد جبهة التحرير الوطني، وهي الحزب المهيمن الذي ولد من رحم حرب الاستقلال الجزائرية، كما ساهمت عوامل أخرى في تنشئة هذه الجبهة، كغياب القيود من فترات الرئاسة، وسوء إدارة الاقتصاد الاشتراكي، واستبداد الجهاز المخابراتي الجزائري، وحينها تم قمع الانتفاضة عن طريق سفك الدماء والتعذيب، ولكن مع ذلك، اضطر نظام الحزب الواحد إلى التراجع خطوة إلى الوراء، بتنازله عن تفرده بالحكم، عن طريق إدخال التعددية، وإعلانه عن إجراء الإصلاحات.
هذه الإصلاحات أسفرت عن انتخاب الإسلاميين في أول انتخابات حرة عام 1990، ومرة أخرى في الانتخابات التشريعية لعام 1991، بيد أن هذا الانتصار لم يدم طويلًا، حيث تهاوت نجاحات الإسلاميين بفعل الجيش في يناير من عام 1992، وحينها، وقبل وقت طويل من ظهور الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر، ابتدعت الجزائر مفهوم الانقلاب العلاجي أو التصحيحي، أي الانقلاب الذي يعالج الإسلاموية، وفي ذلك الوقت، لم يحظَ تدخل الجيش بردود فعل جيدة، على الأقل لدى الغرب الممتعض، خاصة لكون هذا التدخل حصل قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحينها لم يكن العالم قد أدرك بعد تهديد الإسلاميين، على عكس الجزائر، التي كانت تنظر إلى الإسلام حينئذ على أنه خطر داهم، وفعلًا أعقب الانقلاب عقد من الحرب الأهلية، التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 200.000 شخص، وتشريد مليون آخرين، ناهيك عن المفقودين.
عندما حل الربيع العربي في 2010-2011 على تونس وليبيا ومصر، حلم الشباب الجزائري بالتغيير أيضًا، ولكن الخوف الذي يملء جوفهم من عودة الحرب أو الإسلاميين، كان يفوق آمالهم وأحلامهم، وكما قال أحد عامة الشعب الجزائري “لقد دفعنا الثمن مسبقًا”، وبالطبع وخلال فترة الاضطرابات التي حاقت بالجوار الجزائري، انخرطت الحكومة في جهد عازم على إحباط أي رغبة ثورية لدى الشعب.
في ذلك الوقت كتبت في أحد مقالاتي “نعم، لقد دفعنا الثمن مسبقًا، ولكننا لم نستلم أي بضاعة”، كون النظام قضم ببطء المكاسب الديمقراطية التي تم إحرزها في أكتوبر 1988، حيث قوض حرية التعبير، ونظام التعددية الحزبية الحقيقي، والانتخابات الحرة، كما عاود الرجوع إلى النظام الديكتاتوري في هيئة ديمقراطية مسيطر عليها، ورغم أن الحكومة في يد رئيس مريض وغير مرئي، بيد أنها كانت بارعة في العزف على أوتار مخاوف الشعب، حيث كان جوهر حملة رئيس الوزراء للانتخابات التشريعية لعام 2012 “صوّت ضد التغيير”.
استغلت الحكومة الجزائرية أيضًا الصدمة التي كوّنها وجود الاحتلال الفرنسي في الجزائر لمدة 132 عامًا، حيث قامت بصياغة وقولبة الربيع العربي باعتباره شكلًا من أشكال الاستعمار الجديد، وحتى يومنا هذا، مازال شبح الاستعمار هو الأساس الأيديولوجي للنظام، والركيزة الدعائية التي يعتمد عليها، ليسمح لما يسمى بمحرري البلاد، الذين أصبح معظمهم الآن في العقد الثامن من العمر، ليقدموا أنفسهم على أنهم القادة الوحيدين الممكنين لهذه البلاد، كما لعب التدخل الفرنسي المباشر للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا لمصحلة النظام الجزائي الحاكم، حيث ثبّت من الأوهام التي تطلقها الحكومية الجزائرية حول ثالوث الشر المعادي: فرنسا، وكالة الاستخبارات المركزية، وإسرائيل، وهذا الواقع كان كافيًا لتهدئة أي حماس شعبي، واتهام قادة المعارضة بأنهم خونة وعملاء للعدو.
وهكذا، تم سحق النشاطات الاحتجاجية الأولى في يناير 2011 فورًا، حيث كان جهاز الشرطة الضخم جزءًا من اللعبة، إلى جانب التلفزيون الحكومي، الذي تناوبت محطاته على تذكير الناس بمعادلات تقشعر لها الأبدان متمثلة بأن الديمقراطية = الفوضى والاستقرار = الجمود.
المال ساعد أيضًا على إحباط الربيع الجزائري، فالنفط والمال الناجم عنه، حافظ على الجزائر من فوضى الاحتجاجات؛ ففي الأساطير المعاصرة التي تحكي عن حكاية الربيع العربي، يُقال إن البوعزيزي التونسي، الرجل العاطل عن العمل، أطاح بالرئيس بعد أن أضرم النار في نفسه أمام الملأ، ولكن هذا البطل لا يمكن أن يكون جزائريًا؛ ففي هذا البلد، كان محمد البوعزيزي سيتم رشوته، وشراء ولائه، ووضعه في صف الحكومة.
النظام الجزائري غني بالنفط والغاز الطبيعي، ومنذ اندلاع الثورات العربية، فتح النظام الجزائري جعبته المالية، وأعطى المواطنين سكنًا مجانيًا، وقروضًا منخفضة الفائدة، ورشاوى ضخمة، حيث تم توزيع أموال النفط لا بهدف إنعاش الاقتصاد أو خلق فرص عمل حقيقية، ولكن بغية إخماد الغضب وتحويل المواطنين إلى عملاء، والحكومة الجزائرية، اتبعت إستراتيجية أكثر أملًا من غيرها، حيث لم تقتل الناس، بل قتلت الوقت.
ورغم أن توزيع المعونات ساعد على إحباط الثورة، بيد أنه لم يستطع أن يلغيها نهائيًا، حيث تحرك الآلاف في أعمال شغب محلية صغيرة، لا يتجاوز أعضاؤها الـ 10.000 إلى 12.000 شخص في كل سنة، حسب بعض التقديرات، ولكن هؤلاء المتظاهرين لم يطالبوا بالديمقراطية، بل خرجوا سعيًا لتأمين السكن العادل، والطرقات، والمياه، والكهرباء، ويُذكر أنه في عام 2011 أضرم رجل النار في نفسه في غرب مدينة الجزائر العاصمة، وتوافد الصحفيون بسرعة إليه، مخمنين أنهم عثروا على رجل ثوري جزائري، ولكن الرجل الجزائري قال من سريره في المشفى الذي لم يلقَ حتفه فيه “أنا لست البوعزيزي، أنا فقط أريد سكنًا لائقًا”.
وفي ذات الوقت، تمكن بوتفليقة، المريض والغائب عن الأنظار، من فرض نفسه على السلطة مرة أخرى، عندما تم إعادة انتخابه في عام 2014 دون المثول أمام الملأ، في حملة تم فيها إلصاق صوره المعدلة على برنامج الفوتوشوب في جميع أنحاء البلاد، واتباعًا للمثل القائل إن أفضل الديكتاتوريات هي التي تعرف كيف تبقى في الخفاء، تم وضع الصحفيين المحليين تحت رقابة صارمة، وتقييد دخول ووصول وسائل الإعلام الأجنبية، كما تم تخفيض مستوى السياحة، وتحديد صور الجزائر التي يتم بثها دوليًا.
كان المشهد الوحيد الذي أفلت من قبضة الحكومة الجزائرية خلال السنوات القليلة الماضية، هو مشهد قيام بعض الإسلاميين باعتقال رهائن في حقل غاز تيقنتورين في عين أميناس، في يناير من عام 2013، ولكن الحكومة، ومن خلال استجابتها الصارمة لهذه الأزمة، كانت قادرة على تصوير نفسها كنظام شريك يُعتمد عليه في الحرب العالمية ضد الإرهاب، وإن لم تكن حليفًا أيديولوجيًا للغرب؛ فما بين مرسي، أو الأسد، أو السيسي، تُفضل الحكومات الغربية بوتفليقة، حتى في خضم شيخوخته ومرضه وبالكاد قدرته على الكلام، وما بين أنظمة مكافحة الإرهاب ونظام الجمود الجزائري، نجحت الحكومة الجزائرية في تسويق نفسها كنموذج حتى بدون أن تكون ديمقراطية، وهذا ليس بالأمر الهين.
ولكن الوضع لا يمكن أن يستمر على هذا الحال، فسياسيًا، أصبح النظام الجزائري باكستان شمال أفريقيا، من خلال تركز المال والسلطة في يد طبقة يراها الغرب شريكًا صعب المراس، والجزائر كبلاد، تعتبر كبيرة وواسعة جدًا ليتم حكمها من قِبل حكومة مركزية، كما لم يظهر أي قادة جدد في هذه البلاد، قادرين على ضمان مرحلية انتقالية موجهة وآمنة، وفوق كل اعتبار، الإسلاميون آخذون بالظهور والارتقاء إلى ساحة الأحداث في المنطقة، وأسعار النفط في انخفاض مستمر؛ لذا فإن الاستثناء الجزائري لا يمكن أن يستمر لفترة أطول من الآن بكثير.
المصدر: نيويورك تايمز