غزا الأمريكان بغداد وأنا في سن الخامسة عشر، فعرفت الوجع الحقيقي ساعتها ومازلت أتذكر طعم الألم المر الذي تجرعته في ذاك اليوم الربيعي من الأجازة الدراسية، شاهدت بأم عيني كيف يُسلب الوطن وكيف تُدجن العقول وكيف يخونك ابن جلدتك وكيف يتبختر فوق جثتك! لم يشبه ذلك أبدًا وقع الهزائم الممتدة في التاريخ التي تُتلى علينا في البرامج التعليمية أو في حكايات الموروث التي رضعناها منذ نعومة أظافرنا.
ولدت وقد كان الصهاينة يحتلون فلسطين ويعيثون فيها ظلمًا وعُدوانا، حقًا لا أذكر متى دخل وعيي الإيمان بالقضية الفلسطينية.
أتذكر حرب لبنان والصهاينة في صائفة الست وألفين، أتذكر تسمرنا أمام الشاشة لمتابعة الأخبار منذ الصباح الباكر وزهونا بأغاني المقاومة “حزب الله” الذي كنا ننظره ساعتها البطل الآتي من أعماق التاريخ ليرجع أمجاد الأمة الضائعة.
في حضن هذه الأحداث ترعرع وعيي ونما، وعلى وقع مضايقة إدارة المعهد والجامعة على المرتديات الحجاب كنت أعيش، وصاحبه وقع الخوف من الصدح بمظاهر استبداد الحاكم وفساد نظام الدولة، فلم أكن لأتعرف عليها حق تعرف إلا في رحاب الجامعة أين ثلة شبابية نشيطة تقوى على الوقوف في الساحات وعلى إرهاب رجال الأمن الذين يُحاوطون الجامعة خوفًا من كلماتِ تدوي بيد أنها لا تتجاوز الحيطان! ربما كانت الأحلام يومها قاصرة، نعم هؤلاء شباب مؤمن لا يهاب قول الحق وتعرية الطاغية لكنه يعلم ونعلم أن ظلمة السجن سوف تبتلعه اليوم أو غدًا، يعلم أن دوره هو أن يحرك ساكنًا في وعي الغافلين أو المستهترين بما يقع من فساد داخل الوطن، أما بقية الشباب، الذين لم تبتلعهم دوامة الفساد، فكانوا لا يقوَون على حلم غير النجاح في الدراسة والتمكن من الولوج إلى الوظيفة العمومية ولو كان ثمن ذلك رشوة، لأن غالبية ظنت أن لا مهرب من أسلوب الحياة الذي فرضته الدولة الفاسدة إلا بالتماهي معه ومجاراته.
كادت الأحداث التي فجرت الثورة أن تغدو أحداثًا طبيعية في بلد اعتادت فيه الدولة قمع مواطنيها ولو بتصفية أولئك الشجعان الذين يجتازون خط الخوف إذا بدأت المواجهة بين المتظاهرين ورجال الأمن الذين يعدون عدة من يدخل حربًا لا من يواجه مواطنين عُزل، لكن بي إيمان راسخ أن الإرادة الإلهية لا غير هي التي جعلت هذه الأحداث نوعية تصنع نقلة في واقع البلاد بل في واقع المنطقة العربية جمعاء وفي النظام العالمي أيضًا.
اندلعت الثورة فانقشع الغمام وأضيئت سماء الأحلام وكبرنا سنين من الحلم والطموح بحياة يكون فيها العيش كريمًا آمنًا والقول حرًا صادقًا، انفجرت النشاطات المجتمعية والمبادرات الشبابية فبرزت أنفس مُريدة للعمل ومحبة للتغيير، لكن سقف الانتظارات كان عاليًا وكان الظن يحوم حول أن اندلاع الثورة هو تحققها وأن أنفاس الحرية قادرة على تطهير ما أصاب البلاد من فساد، كبرت الأحلام في يومنا أدهرًا حتى هرول الإحباط إلى الهمم يُثبطها، ونفثت شياطين الإعلام سمها في عقول المنهكين من شظف العيش والمتعجلين من القوم الذين لا يعرف الصبر إليهم سبيلاً، وتعِب شباب استنزف طاقاته في ثورجية علم لاحقًا أنها لا تُسمِن من جوعٍ ولا تُغني.
الحلم لم يكن كل الأمر وموسم الحصاد تأخر، الأرض بورها الفساد وهي تستحق الكثير من الجهد والمثابرة والمُصابرة حتى ترجع أرضًا تلد ثَمرًا.
الحلم طار بنا عاليًا فكان السقوط مُؤلمًا لأن أجنحتنا لا تقوى إلى التو على التحليق بعيدًا، لم يمض كثيرًا على تعلمنا فن الطيران فكيف نُحلق بعيدًا؟
الحلم شيء جميل يجعلنا نواصل الحياة، لكن يجب أن ننفتح على جراحاتنا ونتقبل أن واقعًا صعبًا ما نعيش وأن الإصلاح لا يكون مُستعجلاً وأنْ لا شيء سيبدو على النحو الذي ننشد بين ليلة وضحاها، الحلم الجامح والرومانسية الزائدة في حب الأوطان بالتباهي بمحبتها لا ينفعان اليوم، بل ما ينفع هو أن نقبل أن نعمل في أحلك الظروف عل أجيالاً قادمة تنعم بما سنرسخه من مبادئ وقيم ترقى بنا، صحيح أن ما نحمل من موروث يُثقل كاهلنا، لكن أيدفعنا إلى اليأس والتسليم والتماهي مع حالة الضياع القيمي والهوياتي والعلمي، وصحيح أن ما نعيشه من واقع مُفجع ومنهك، لكن أيكون هذا سببًا للتباكي وارتداء ثوب الضحية دومًا؟ أم سببًا للقيام رغم كل شيء؟
إن جيلا عاش ويعيش كل هذه الملاحم وكبرته الثورة أزمانًا ليس له إلا أن يُقاوم ويؤمن أن التغيير يُصنع بيده إذا ما ارتقى هو بوعيه ونقب عن مكامن الإبداع فيه ولم يستسلم.