في عام 2005، وقعت تركيا مذكرة لبدء المفاوضات رسميًا لدخول الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبره كثيرون خطوة جادة من حكومة العدالة والتنمية آنذاك لدخول أوروبا، وتحقيق الحلم الذي انتظره الأتراك طويلًا، بيد أن توتر العلاقات بين تركيا وفرنسا أيام ساركوزي، وبرودها حاليًا مع ألمانيا، أحدث نوعًا من التعثر في المسيرة الأوروبية، لا سيما وأن الاتحاد الأوروبي نفسه مشغول بأزماته الداخلية على حساب ضم أعضاء جدد كما كان خلال العقدين الماضيّين، كما أن صعود اليمين المتطرف في بلدان أوروبية عدة يخلق بطبيعته نوعًا من رفض عضوية تركيا ذات الأغلبية المسلمة.
بالتزامن مع تجمّد عملية الانضمام لأوروبا، نشطت في السنوات الأخيرة جهود تركيا للاتجاه شرقًا، ليتراجع نصيب أوروبا من التجارة مع تركيا في مقابل تزايده مع آسيا، وهو اتجاه يعززه الاهتمام التركي الخاص ببلدان آسيا الوسطى التي تربطها بتركيا روابط ثقافية ولغوية عدة، والصعود السريع في العلاقات بين تركيا والصين، والشراكة السياسية الجديدة بين روسيا وتركيا، أضف لذلك بالطبع اتجاه الحكومة التركية منذ أواخر العقد الماضي نحو ترسيخ دور جديد أكثر انتشارًا بين بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأقل هوسًا بالانضمام لأوروبا، وآسيا بالطبع ستكون الوجهة الأساسية باقتصادها النامي وعلاقاتها التاريخية مع تركيا، ما يستتبع أهمية وجود حليف آسيوي قوي للأتراك، سيكون على ما يبدو الصين.
نصيب مناطق العالم من التجارة مع تركيا في عامي 2000 و2012، وتراجع واضح لأوروبا وأمريكا مقابل صعود آسيا والشرق الأوسط
التجارة والتكنولوجيا تجمع الأتراك والصينيين
في أكتوبر 2010، وبينما انطلقت الطائرات الصينية والتركية في تدريبات عسكرية مشتركة جلبت ضباط الجيش الصيني إلى سواحل المتوسط، أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية بيانًا تشير فيه إلى أن تلك هي أول مرة تقوم دولة عضوة بحلف الناتو بتدريبات من هذا النوع مع الجيش الصيني، في حين ردت أنقرة بأنها اتخذت كافة الاحتياطات لحماية التكنولوجيا الحساسة الخاصة بالولايات المتحدة وحلف الناتو الموجودة على الأراضي التركية، وأن طائرات الإف 16 الأمريكية لم تشارك في المناورات.
بالطبع، لم تكن تلك المناورات وليدة اللحظة، بل تتويج لسنوات طويلة من النشاط الدبلوماسي خلقت به تركيا شراكة خاصة مع الصين، واحدة من أبرز الدول التي عززت تجارتها بتركيا، إذ ارتفع التبادل التجاري بينهما في عهد العدالة والتنمية من مليار إلى 24 مليار دولار، كما دخلت الشركات الصينية المملوكة للدولة في المشاريع الصناعية ومشاريع البنية التحتية، بعد أن كانت المشاريع الكبرى في تركيا حكرًا على الغرب، لا سيما وأن الشركات الصينية معروفة بمرونة أكبر في نقل التقنيات الخاصة بها عن الشركات الأوروبية.
الشركة الصينية الأبرز في تركيا هي هواوي Huawei المعروفة، والتي تساهم بقوة في قاعدة البحوث والتنمية التركية، وهي موجودة بالسوق التركية منذ 2002، أي قبل وقت طويل من بروز اسمها على الساحة العالمية، وهي تزود تركيا بالقدرة على مواكبة التغيرات في عالم الاتصالات، وتقوم عبر مركز البحوث الخاص بها في إسطنبول بتنسيق التعاون التكنولوجي في المنطقة كلها، لتجعل من تركيا بذلك مركزًا من مراكز تكنولوجيا الاتصالات في المنطقة.
وفدا الصين وتركيا يحضران إطلاق القمر الصناعي التركي الأول
بالإضافة إلى ذلك، تشارك الصين بقوة في تنمية مجال الأقمار الصناعية، والذي تتخلف فيه تركيا عن إيران، لا سيما الأقمار الصناعية المخصصة للاستخدامات العسكرية والاستخباراتية التي تطمح تركيا إلى تركيبها بالكامل في الداخل، وبالتالي الاستقلال عن التحالف الغربي في هذا الصدد، والذي لا يعطي أنقرة كل ما يحصل عليه، وأحيانًا ما يقرن بين تقديم المعلومات والتزام الأتراك بشروط التحالف الغربي، ولا يدلل على ذلك أكثر من التعاون بين الصين وتركيا في بناء ثلاثة أقمار صناعية يتم تصنيعها داخل تركيا، وتم إطلاق الأول منها بالفعل من صحراء جوبي في الصين.
الملف الأبرز الذي قد يجمع بين الطرفين، وتم الإعلان عنه في 2013، هو تصنيع منظومة الدفاع الجوي الصاروخي “لوراميدز” التي تريدها تركيا، والتي كان من المتوقع أن تفوز بها إما شركة أمريكية أو فرنسية نتيجة لوجود البلدين في حلف الناتو، بيد أن تركيا فاجأت الجميع وأعلنت أن الشركة الحكومية الصينية CPMIEC فازت بحق تصنيع المنظومة نتيجة الشروط المناسبة التي قدمتها، والتي تضمنت التصنيع المشترك على الأراضي التركية، والذي رفضته الشركة الفرنسية، وهو ما أثار حفيظة الدول الغربية بالطبع، وأدى إلى مراجعة من قبل الشركات الغربية لشروطها، لتظل الصفقة إلى اليوم قيد الدراسة.
بكين وأنقرة: الالتقاء الاستراتيجي
تجمع أنقرة وبكين الكثير من المصالح في آسيا، أبرزها الرغبة في كسر احتكار روسيا لآسيا الوسطى، والذي تحاول موسكو تعزيزه عبر الاتحاد الجمركي الخاص بها، وهو ما سيعزل تلك البلدان نسبيًا عن السوق العالمي، ويصعّب من قدرة الشركات الصينية والتركية على اختراقها، وهو ما لا يعجب الصين وتركيا بطبيعة الحال، واللتين تحاولان منع انضمام أي بلد آخر (لم تنضم للاتحاد حتى الآن سوى كازاخستان) بتعزيز الروابط التجارية وخلق صورة مفادها أن دخول الاتحاد سيضرّ اقتصاديًا، وهي صورة منتشرة بالفعل نتيجة تراجع الاقتصاد الروسي وغزو المنتجات الصينية للأسواق المحلية.
على صعيد آخر، لا ترى الصين تركيا مجرد شريك اقتصادي فحسب، إذ تولي أنقرة اهتمامًا خاصًا نتيجة رغبتها في احتواء التوتر الموجود في ولاية تركستان الشرقية (شينجيانغ)، والتي يغلب فيها عرق الأويغور التركي، وينادي البعض فيه بالاستقلال عن الصين، والتي هيمنت على المنطقة في مرحلة تاريخية متأخرة، وبينما تدرك تركيا أن فصل الأويغور شبه مستحيل الآن، يتمحور هدفها الرئيس حول تأسيس وجود اقتصادي لها في المنطقة استنادًا للروابط الثقافية والتاريخية بين الأتراك والأويغور، وهو ما سيعطيها قاعدة انطلاق جيدة لدورها في آسيا الوسطى، وكذلك لوجودها كلاعب قوي في الاقتصاد الصيني، في حين سيحقق للصين هدف تهميش الحراك الانفصالي والعنيف فيها مقابل الدور الناعم للأتراك.
أحمد داوود أوغلو في زيارة إلى شينجيناغ معقل أتراك الأويغور
لا يلتقى الأتراك والصينيون في آسيا الوسطى فحسب، بل وفيما يتعلق بالتوازن في جنوب آسيا بين الهند وباكستان، فالصين بطبيعة منافستها للهند تميل لتعزيز دور باكستان الإقليمي، وتحبذ ألا يكون هناك تواجدًا للهند في آسيا الوسطى، لا سيما وأن كشمير الباكستانية تحجبها عن التواصل الجغرافي مع المنطقة وهو ما يستتبع دعم الصين لباكستان في ملف كشمير، أما تركيا، ونتيجة لمنافستها لإيران على كسب ود مسلمي آسيا الوسطى وأفغانستان، فإنها تميل هي الأخرى لتعزيز دور باكستان في المنطقة كقوة سنية توازن إيران، خاصة وأن تركيا لا تملك اتصالًا جغرافيًا مع آسيا الوسطى كالذي تتمتع به إيران، مما يجعل باكستان حليفًا قويًا لها، وبالتبعية يخلق نوعًا من التنسيق الاستراتيجي بين الصين وباكستان وتركيا، في مقابل تحجيم الدور الإيراني، والإبقاء على الدور الهندي بعيدًا عن قلب آسيا.
***
بالنظر للمسافة التي ستظل تفصل بين تركيا والهند، والتنافس الاستراتيجي الذي تحتمه الجغرافيا بين الأتراك والروس مهما تقاربوا سياسيًا، وحدود الدور الذي تستطيع اليابان أن تلعبه خاصة مع ركود اقتصادها مؤخرًا وموقعها الجغرافي البعيد، يبدو وأن الصين ستكون هي الشريك الاستراتيجي الأول لتركيا في آسيا وعلى مستويات عدة، بدءًا من التبادل الثنائي التجاري والتكنولوجي، وحتى على المدى البعيد فيما يخص فتح آسيا الوسطى للسوق العالمي، والملف الأفغاني، والتوازنات بين الهند وإيران وباكستان في جنوب آسيا.
بالطبع لا يعني ذلك التحالف أن تركيا ستلقي تحالفها مع الغرب خلف ظهرها، إذ تظل علاقتها الاستراتيجية العسكرية والسياسية بأوروبا والولايات المتحدة قائمة لأسباب تاريخية وجغرافية عدة تتعلق بالموازين في المتوسط وشرق أوروبا، ولكن الأفق الجديد الذي فتحته السياسة التركية في الشرق على مدار العقد المنصرم، يتطلب بالتبعية شريكًا جديدًا هناك، إلى جانب الشريك التقليدي المتمثل في الغرب، لا سيما وأن نصيب الأخير من القوة الدولية سياسيًا واقتصاديًا يتضاءل تدريجيًا.