زيارة مرتقبة للجنرال عبدالفتاح السيسي إلى ألمانيا أثارت جدلًا واسعًا كأول زيارة للسيسي إلى دولة ألمانيا منذ وصوله للسلطة، ألمانيا التي كانت تتحفظ في التعامل مع القاهرة منذ قيام السيسي بانقلابه في الثالث من يوليو عام 2013، وانقضاضه على الرئاسة بعدها، حيث كانت تشكك دوائر سياسية ألمانية في جدية السيسي بالقيام بإجراءات ديمقراطية عقب انقلابه، وكانت برلين قد ربطت مصير العلاقة مع السيسي في بداية الأمر بتنفيذ خارطة المستقبل التي أعلنت في بيان الانقلاب، وفي مقدمتها الانتخابات البرلمانية.
لكن السياسة في النهاية لا تعترف بهذا كله، وقد رأى البعض ردود أفعال ألمانيا على الانقلاب في مصر مجرد حفظًا لماء الوجه في دولة لا تعترف بالانقلابات العسكرية، لكنها تشارك في مؤتمر اقتصادي أعده قادة الانقلاب في مصر بصورة عادية، بل وتوجه دعوة إلى قائد الانقلاب نفسه لزيارة ألمانيا وتستعد لاستقباله.
لكن ثمة دوائر ديمقراطية بألمانيا، آثرت إفساد الزيارة ولو شكليًا، فجدول أعمال الزيارة كان مقررًا فيه لقاء بين السيسي ورئيس البرلمان الألماني “نوبرت لامرت”، الأخير رفض استقبال السيسي شكلًا وموضوعًا في بيان صدر عن البرلمان الألماني بالتزامن مع صدور حكم الإعدام بحق الرئيس السابق محمد مرسي، حيث بعث لامرت خطابًا إلى السفارة المصرية في برلين يقول فيه أن اللقاء المزمع عقده مع السيسي قد أُلغي بسبب تصاعد وتيرة الانتهاكات لحقوق الإنسان في مصر والتي كان آخرها موجة الإعدامات التي طالت الرئيس السابق.
هذا البيان كان صفعة على وجه السيسي وأشياعه في مصر الذين انطلقوا هائمين في الفضائيات والصحف التي يحركها جهاز الشؤون المعنوية في الجيش للرد على بيان البرلمان الألماني، مؤكدين أن هذا الرفض لا يمثل الموقف الألماني الشعبي والرسمي، في انعدام لأي روح للمنطق العقلي في هذا الحديث عن كون رئيس البرلمان الألماني المنتخب لا يعبر عن الموقف الرسمي ولا الشعبي لألمانيا، ولا تتعجب حين ترى بعض أنصار الجنرال على مواقع التواصل الاجتماعي يصفون رئيس البرلمان الألماني بأن له ميول “إخوانية” على حد وصفهم بسبب انتقاده حكم الإعدام على مرسي وسعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب المصري السابق.
بيد أن حاشية الجنرال لم تكتف بهذا وقررت أن تدعم السيسي في هذه الزيارة بسبب ما أسموه وجود لوبي “إخواني” في ألمانيا، فالسفارة المصرية ببرلين تخلت عن دورها الدبلوماسي وقررت تنظيم تظاهرات لمؤيدي السيسي في ألمانيا، فقد نشرت السفارة جدولًا زمنيًا عبارة عن توقيتات تظاهرات تحمل صور السيسي فقط لدعمه في وجه معارضيه في ألمانيا الذين قرروا التظاهر أمام البرلمان الألماني حاملين شعار رابعة العدوية ومنددين بالمجازر التي وقعت في عهد السيسي.
وفي إجراء آخر لا أحد يعلم من يقف وراءه في النظام لما يسمى “قوة مصر الناعمة”، فثمة مسؤول في جهاز سيادي أو ربما في الرئاسة قد استيقظ فجأة من نومه وقرر تنظيم زيارة لبعض الفنانين ليصطحبهم السيسي معه في زيارة ألمانيا.
أكثر من 20 شخصية مصرية أغلبهم من الفنانات يرافقون السيسى فى زيارته الهامة إلى ألمانيا، ضمن ما أطلقوا عليه “الوفد الشعبى” لمؤازرة الرئيس فى مواجهة اللوبى الإخوانى الذى يعمل فى برلين منذ سبعينيات القرن الماضى على حد قولهم، فيما اختزلت الجهة المنظمة لزيارة هؤلاء الشعب المصري في حفنة من الممثلين والمغنيين القدامى المعروف عنهم السير في ركاب السلطة أيًا كانت، فبعضهم قام بالدور نفسه إزاء حكم مبارك وقد كانوا من أشد مؤيديه، والبعض الآخر التقى بمرسي إبان فترة حكمه وأشاد به وبحكم الإخوان، ومن ثم رحلتهم إلى برفقة السيسي ليس شيئًا جديدًا عليهم، ولكن ما يثير الدهشة حقًا ماهية تلك العقلية التي تفتقت بمثل هذا الاقتراح لمحاولة دعم السيسي في ألمانيا عبر مجموعة لا تمثل أي وزن داخلي أو خارجي.
وعلى الصعيد السياسي قابل نظام السيسي هذه الزيارة كعادته قبيل السفر بعدة إجراءات ربما تساعد السيسي في زيارته، أبرزها بالتأكيد تكرار كلمة الإرهاب ليل نهار في الإعلام، وتصدير صورة أن مصر لا تفعل شئ في يومها سوى “محاربة الإرهاب” كما يقولون، فالأجهزة الأمنية قررت فجأة أن تشوق الجمهور لاستقبال بيان هام، ومن ثم يخرج بيان يقول أن جماعة الإخوان جماعة إرهابية، إثارةً للسخرية بلا حدود، ولكن لابد من رفع كارت محاربة الإرهاب أمام أي دولة تتحدث عن حقوق الإنسان كألمانيا.
سبق هذا الإفراج عن محمد سلطان نجل القيادي في جماعة الإخوان المسلمين صلاح سلطان، الذي اعتقلته السلطات المصرية لقرابة العامين، أضرب خلالهم سلطان عن الطعام مدة 490 يومًا، وهو يعتبر أطول إضراب عن الطعام في التاريخ، بسبب اعتقاله وتلفيق له عدة تهم من ضمنها الانتماء لجماعة الإخوان في مصر، بالرغم من كون محمد سلطان مواطنًا أمريكيًا يعيش في الولايات المتحدة ولم يتواجد في مصر إلا نادرًا منها لحظة اعتقاله بالخطأ، وقد رفضت السلطات المصرية كل المطالبات الداخلية والخارجية للإفراج عنه.
فجأة قررت السلطات المصرية الإفراج عن سلطان بعد أن ضغطت عليه للتنازل عن جنسيته المصرية ليتسنى لهم التماس مبررًا للإفراج عنه، والترويج لذلك في صالح النظام قبيل زيارة هامة لرأس النظام إلى ألمانيا، من المتوقع جدًا أن يُسأل فيها عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
حدث ثالث سبق الزيارة بيوم، وهو تأجيل تأييد حكم الإعدام على الرئيس السابق محمد مرسي الذي كان مقررًا له اليوم، رغم أن تسريبات إعلامية عدة أشارت إلى أن مفتي الجمهورية قد أيد الحكم، وهي استعداد مسبق من النظام للإجابة عند سؤاله عن حالات الإعدام وفي قدمتها بالطبع إعدام مرسي، فالسيسي لا يريد أن يسبب ذلك حرجًا له أمام الدوائر السياسية الألمانية، فإذا قدم السيسي وفي يده حكمًا بالإعدام مؤيد على الرئيس الذي قام عليه بنفسه بانقلاب عسكري، ربما يثبت وجهة نظر رئيس البرلمان الألماني فيما قاله، وتأجيل تأييد الحكم لمدة أسبوعين لن يُغير من الأمر شئ وقد يساعد على حفظ ماء وجه الجنرال الذي يبدو وأنه خائف من تلك الزيارة.
كل هذه الأحداث في هذا السياق لم تكن وليدة الصدفة، ويجب أن تقرأ كمحاولة لتصدير النظام صورة غير حقيقية عن نفسه كالعادة ربما أهمها أنه نظام مكافح للإرهاب ليحظى بدعم أوروبا عن طريق هذه الفزاعة المعتادة، بالإضافة لإعداد بعض الأفعال التي تقلل من إحراجه في ملف حقوق الإنسان الذي يعد في أقل وصف له “كارثيًا”، وكذلك للخروج من فخ إعدام مرسي بتأجيل تأييد الحكم عليه والتعلل بالإجراءات القضائية.
ربما لا يعلم النظام المصري أن الأوساط السياسية الألمانية تعلم حقيقة الوضع في مصر تمامًا، ولكنها تستخلص مصالحها من بين ثنايا الانقلاب في مصر، فبعض الصحف الألمانية سخرت بالفعل من وصف السيسي لمصر بأنها “أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا” ، كما تحدثت أيضًا عن مذابح رابعة والنهضة في عهد السيسي، وصرحت صحف أخرى أن السيسي مجرد ديكتاتورًا امتدادًا لعصر مبارك، ولا يوجد أي دلائل لديمقراطية نظام السيسي كما يحاول تصديرها للألمان، بينما لا يمانع السيسي من مقابلة هذا كله بمجرد انتزاع اعتراف أوروبي بشرعيته ، وهذا جل اهتمام النظام المصري في هذه الزيارة.