قبل حوالي عقدين من الزمن وبالتحديد في تاريخ 11 يناير 1992 ألقى التلفزيون الجزائري الرسمي على مسامعنا خبر إعلان الانقلاب العسكري على العملية الديمقراطية والشرعية في البلاد، ومن ذلك اليوم إلى يومنا هذا مازالت العملية الديموقراطية الحقيقية في الجزائر معطلة وغير فعالة؛ فالحاكم الفعلي حتى الآن هو الجيش والانتخابات التي تحدث كل فترة زمنية ما هي إلا مسرحية شكلية لتمثيل الديمقراطية الساخرة بأبطال جميعهم جنرالات عسكرية مخضرمة وخادمة للجهاز العسكري بكل إتقان وإخلاص، مثل عبدالمالك بن حبيلس ومحمد بوضياف وعلى حسين كافي وإليمين زروال وأخيرًا المُلقي على كرسي متحرك عبدالعزيز بوتفليقة.
حاول الشعب الجزائري مقاومة الانقلاب في أيامه الأولى ولكن الجيش لم يرحم المنتفضين ضده؛ حيث ارتكب ضدهم المجازر الفظيعة والدامية مثل مجزرة سيدي الكبير والرمكة وطلحة وغيرها الكثير، وقتل منهم أعدادًا كبيرة وصل تقديرها إلى أكثر من 200 ألف قتيل؛ الأمر الذي جعل الشعب الجزائري المنتفض يستسلم للعسكر ويقبل بهم كمشرعين ومديرين للبلاد.
ومع انطلاق لهيب الربيع العربي تشجعت ثلة من الشعب الجزائري من جديد لتطالب بالإصلاح والتغيير، ولأن لهيب الثورة في حينها كان مشتعل وبشدة في عدة بلدان مجاورة ومماثلة في الحال سارع الرئيس بوتفليقة ممثل الجيش بالإنابة إلى سن بعض القوانين لتهدئة الشارع، من أهمها رفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1992 ومراجعة قانون الانتخابات وإعطاء فرصة أكبر لجميع الأحزاب السياسية للمشاركة في الانتخابات البرلمانية وفتح أبواب أوسع لضمان حرية أكبر للصحافة والإعلام، كان يمكن لهذه الإصلاحات أن تستمر وتأخذ مجرى أكبر وأوسع لولا انقضاض بعض الدول الملكية على الربيع العربي ودعم الثورات المضادة وإشعال الفتن والاقتتال الداخلي في كثير من دول الربيع العربي؛ الأمر الذي أرهب الثلة الجزائرية الثائرة وجعلها تتراجع وتقبل بواقع الحال بدلاً من الفتن والضياع في مستنقع الاقتتال الداخلي.
من هذا الملخص نستطيع الاستنتاج أنه لا سبيل للتحركات الثورية الميدانية في حل عسرة الديمقراطية في الجزائر، إذًا ما البديل؟ نستطيع عرض طرح نظري وتطبيقي لوضع الجزائر، هذا الطرح النظري تحول إلى تطبيقي في تركيا بعدما ذاقت الكثير من ويلات الانقلابات العسكرية المعرقلة للعملية الديمقراطية الشرعية.
صاحب نظرية الطرح هو المفكر السياسي الإيطالي أنتونيا غرامشي؛ يوضح غرامشي صاحب نظرية الهيمنة أو السيطرة الاجتماعية، في نظريته هذه أن أساليب السيطرة السياسية تتفرع إلى الأسلوب الأمني الخشن وإلى الأسلوب الفكري الناعم المعتمد على تكوين حاضنة شعبية عن طريق عدة أدوات ناعمة مثل الاقتصاد والثقافة والتعليم ووسائل الإعلام والمؤسسات التابعة للدولة والمؤسسات المجتعية المدنية، وفي هذا الخصوص يؤكد غرامشي على نجاعة الأساليب الناعمة المعتمدة على إقناع العامة عن طريق أساليب الترغيب والإرضاء، حيث يؤكد أنه إذا انضمت العامة، التي ستكون صاحبة دور كبير في المؤسسات الحقوقية والاقتصادية والسياسية والثقافية الحكومية والدولية والمدنية، إلى فكرة معينة وتبنتها بطريقة ناعمة وترغيبية فإن هذه العامة ستبقي متبنية لهذه الفكرة ومدافعة عنها مهما كلف الأمر، ويسمي غرامشي أسلوب الإقناع الناعم الناجح باسم الانقلاب الفكري الناعم.
هذا الانقلاب الفكري الناعم تم تطبيقه في تركيا عن طريق حزب العدالة والتنمية؛ حزب العدالة والتنمية قبل إعلان نفسه كحزب أسس حركة مجتمعية مدنية سعت بكل جهد لنشر الوعي السياسي والاقتصادي والثقافي والتعليمي الداعي للديمقراطية والتحرر من وصاية الجيش الذي في كل انقلاب يؤخر الدولة سياسيًا واقتصاديًا خمس سنة للوراء، كما قامت هذه الحركة المدنية بدعوة كوادرها إلى تحصيل أعلى مستويات العلم والتجربة والدخول بمؤهلاتهم إلى جميع مؤسسات الدولة دون استثناء لخلق كادر حكومي واعٍ قوي قادر على الوقوف ضد الجيش وقرارته، نشر الوعي والثقافة لم يكن بصورة مباشرة تستهدف الجيش بطريق علنية بل كانت بطريقة سياسية تلمحية بمعنى كانوا يدعون إلى السعي لإرساء الديمقراطية البحتة المعتمدة على إرادة الشعب فقط الشعب لا غيره (كلمة غيره بشكل عام كانت تلمح للجيش).
بهذه الطريقة تم نشر الوعي وإيجاد كادر حكومي موجود في جميع مؤسسات الدولة وحتى المؤسسة العسكرية وبشكل قوي وتابع لمفهوم الديموقراطية والشرعية، وفي عام 2002 فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية بحاضنة شعبية وحكومية قوية يُعتمد عليها؛ وبالفعل اعتمد حزب العدالة والتنمية على هذه الحاضنة المثقفة والواعية والمتعلمة عام 2007 حينما أعلن الجيش أنه يأمر حزب العدالة والتنمية بالانسحاب من العملية السياسية وترك السلطة، ولكن الحاضنة الشعبية والحكومية الموالية للديموقراطية والمؤمنة بها والتي أعدها حزب العدالة والتنمية ونشر فيها الوعي والمكونة من عدد كبير من المثقفين والبروقراطيين والإعلاميين والاقتصاديين والدبلوماسيين، انتفضوا ضد العسكر من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات والمحاكم الدولية والنشاط الدبلوماسي أي من خلال كسب تعاطف بعض الدول الغربية، بحيث جعلوا العسكر يعيش الصدمة أمام هذا الحشد المعارض لانقلابهم خاصة بعد قدوم هذا الاعتراض من داخل المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية التي هددت بالإضراب والخروج ضد العسكر ومن الولايات المتحدة الداعمة الدائمة للانقلابات العسكرية في تركيا.
هذا التغيير والحشد كان الأساس فيه الحركات والمؤسسات المدنية التي نشرت الوعي والثقافة ضد العسكر الذي دائمًا كان يتحجج في حمايته لمبادئ تركيا الديموقراطية والعلمانية والمدنية ويبعد من يريد عن الحكم متى يريد، ولكن الحركات المدنية نشرت الوعي الذي يبين خداع الجيش وبعض جنرالاته المستأجرة من قِبل بعض الدول والذي يبين ضرورة الانقلاب الناعم الذي يتم عن طريق تقلد مناصب مهمة وعالية في جميع مؤسسات الدولة، نشر حزب العدالة والتنمية هذا الوعي عن طريق أسلوب الإقناع وعن طريق كسب العامة بلا استثناء، حيث أعلن نفسه أنه حركة ديموقراطية شاملة ولم يعلن نفسه أنه حركة إسلامية أو ليبرإلية؛ وبذلك استطاع كسب تعاطف نسبة كبيرة من الشعب التركي الذي احتضنه ودافع عنه واعطاه الفرصة في أكثر من مرة ليمثله كسلطة حاكمة.
الجزائر وغيرها من الدول التي تعيش عرقلة في العملية الديمقراطية ليس لها وسيلة للتخلص من هذه العراقيل إلا من خلال الانقلاب الفكري المدني المؤسساتي الناعم لتكوين حاضنة شعبية واعية ومثقفة تميز الأمور وتعيها وتكون حامية للعملية الديموقراطية والتشريعية ومتمركزة في مناصب مهمة في الدولة، كما ويجب أن تكون هذه الحاضنة وطنية قبل أي فكر أو أيديولوجية لتكون قوية وحامية بالفعل للعلمية الديموقراطية لأنه لو كانت ذات أيدولوجية واحدة فإنها ستبقى ضعيفة بجانب الأحزاب الأخرى التي ممكن أن تحيد للجيش ضد الأيدولوجية الواحدة مثلما حدث تمامًا في مصر.