يتحدث كثيرون هذه الأيام عن اتجاه تركيا نحو الشرق، وتراجع اهتمامها بالعلاقات مع القوى الغربية، مشيرين إلى توتر علاقاتها بالدول الأوروبية الرئيسية، وانعدام أي فرص لالتحاقها بالاتحاد الأوروبي، مقابل تعزيز العلاقات مع روسيا والصين، بل وربما رغبتها في الانضمام لمنظمة شانغهاي، بيد أن تلك التحليلات كثيرًا ما يكون مبالغًا فيها، وتتجاهل في الحقيقة الخيارات التي تحتمها الجغرافيا والتاريخ على الأتراك، بغض النظر عن ماهية النظام الحاكم وأيديولوجيته.
على عكس بعض الأفكار السائدة، والتي تغذيها الأيديولوجيا بشكل رئيسي، لم تكن الخلافة العثمانية من المنظور الأوروبي عدوًا أساسيًا، وكان الاختلاف العرقي والديني بين الأتراك الذين قطعوا آلاف الأميال قادمين من آسيا الوسطى إلى الأناضول، وبقية الأوروبيين، هو ما يخلق مسافة ثقافية نوعًا ما بينهما، أضف لذلك أن أوروبا لم تكن معسكرًا واحدًا أبدًا، وكان العثمانيون يعرفون ذلك جيدًا، فإمبراطورية النمسا والمجر كانت عدوًا في أحيان كثيرة نظرًا لقربها جغرافيًا من الخلافة وتنازعهما على مناطق نفوذ عدة مثل البلقان، ولكن بلدانًا أوروبية أخرى لم تكن تنظر لتركيا نظرة عداوة على الإطلاق بحُكم انتفاء أية أسباب استراتيجية لعداوة كتلك، وهي أسباب لا تزال سارية إلى اليوم.
الأتراك والخريطة الأوروبية
على مدار القرون الخمسة السابقة، كان السؤال الأبرز الذي أقلق القوى الأوروبية الكبرى، وبريطانيا منهم بشكل خاص، هو صعود القوة الروسية على الساحة، فبعد أن تأسست دولة الروس الأولى، وهي دوقية موسكو الكبرى، ثم خلفتها روسيا القيصرية في القرن السادس عشر، بدأت الحسابات الأوروبية في التغيّر، وتحولت بشكل دائم إلى اعتبار القوة الروسية هي مكمن القلق الأول، لا سيما وأن الروس لا يحجبهم عن أوروبا سوى السهول الواسعة والمفتوحة في شرق القارة والتي يمكن اجتيازها بسهولة، في مقابل الأراضي الضيقة والوعرة التي تفصل الأتراك عن جنوب شرق القارة، وتجعلهم عدوًا أقل خطرًا بكثير، كما أثبتت معركة فيينا آخر محاولات التوسع العثمانية في قلب أوروبا، والتي لم تجسد فقط توقف نمو الخلافة، بل وهزيمة حتمية للعثمانيين أملتها الجغرافيا.
من ناحية أخرى، كانت البلاد الوحيدة التي تنظر إلى العثمانيين كعدو أكثر من الروس هي اليونان نتيجة نظرتها للأتراك كشعب حل محلها في السيطرة على آسيا الصغرى والقسطنطينية، و بالطبع بلدان عدة في شرق أوروبا مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا نظرت للحُكم الترُكي كاحتلال، وأحيانًا إيطاليا، والتي تحميها سلسلة جبال الألب من أي هيمنة روسية في الشمال، وشاركت في حروب عدة مع إمبراطورية النمسا والمجر ضد الخلافة نظرًا لرغبتها في الهيمنة على التجارة في بحر إيجه، وإن لم يكن الأتراك بالنسبة لها خطرًا بقدر ما كانوا منافسًا إقليميًا نظرًا لصعوبة بث قوتهم البحرية أبعد من شرق المتوسط وجزر اليونان.
كل تلك البلدان في الواقع لم تكن في القلب من النظام السياسي الأوروبي مثلها مثل فرنسا وبريطانيا، والذين شغلهم بالأساس الصعود الروسي، وهو صعود حتّم عليهم الاهتمام بقوة الخلافة العثمانية ووحدة أراضيها لحجب التمدد الروسي جنوبًا، وحصر قوة الروس في البحر الأسود بعيدًا عن المتوسط، وكان ذلك بحد ذاته كفيلًا بأن يقلص من قدرات الروس على الساحة الدولية مقارنة بالمنظومة الاستعمارية البريطانية الممتدة، ومن نظيرتيها الفرنسية والإسبانية المتنافستين في أفريقيا، وهو ما جعل رغبة الروس في الخروج من البحر الأسود وعبور حاجز القوة التركية مطلبًا استراتيجيًا أساسيًا أزليًا، وبالتالي خلق تنافسًا بينهما وبين الأتراك يبقى معنا إلى اليوم، ولا يزال يجعل من تركيا ركنًا أساسيًا في الاستراتيجية الغربية بقدر ما يجعل القوة الغربية عامودًا أساسيًا في الأمن القومي التركي.
سقوط الخلافة والمسألة الألمانية
زيارة الملك الألماني إلى مدينة القدس العثمانية عام 1898
كان التحول الأبرز في تلك الحسابات في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هو بروز القوة الألمانية، والتي قلبت من المسلمات الاستراتيجية في أوروبا رأسًا على عقب، وجلبت خطرًا جديدًا في قلب أوروبا حتم على الساسة في لندن وباريس الاقتراب من موسكو لاحتواء القوة السكانية والصناعية والعسكرية الجديدة تلك، وكان هذا بمثابة افتراق بين الاستراتيجية العثمانية ونظيراتها في دول الغرب الكبرى التي طالما رأت في تماسك الخلافة أمرًا ضروريًا، فصعود الألمان بالنسبة للأتراك لم يكن خطرًا أبدًا نظرًا لصعوبة وصول الألمان إليهم من ناحية، والعداوة الأساسية التي تشكلت بين قوتي الألمان والروس من ناحية أخرى، وجعلت من ألمانيا حليفًا محتملًا جدًا للخلافة.
نتيجة تراجع الاهتمام بالخلافة، والتي اتسمت بالضعف في قرنها الأخير وكانت ربما لتسقط في وقت مبكر عن 1922 لولا دعم بريطانيا وفرنسا لها اقتصاديًا وسياسيًا، اتجهت أولويات الساسة في أوروبا أثناء الحرب العالمية الأولى إلى تقسيم التركة العثمانية المتهالكة بعد أن أصبح تدعيم أركانها غير ذي قيمة، بل ووصل الاقتراب من روسيا خوفًا من الألمان إلى تعهد صناع القرار في الغرب بإعطاء مضيق البوسفور والسيطرة على إسطنبول إلى الروس إذا ما انتصر الحلفاء في نهاية الحرب، في محاولة لخلق كماشة على التمدد الألماني في شرق أوروبا والبلقان.
بالطبع، وبعد أن قرر صناع القرار في الدولة العثمانية التحالف مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وأغلبهم في ذلك الوقت من حركة تركيا الفتاة التي حكمت فعليًا منذ انقلابها (أو ثورتها) عام 1908، أصبحت تركيا رسميًا عدوًا، وخضعت لهجوم دول الحلفاء في إسطنبول وولايات المتوسط من ناحية، وفي القوقاز وشرق الأناضول من ناحية، حيث وضع الروس أعينهم على مناطق الأرمن والجيورجيين في شرق الأناضول لطرد النفوذ التركي من القوقاز وتقليصه في البحر الأسود، وربما تحويله إلى دويلة صغيرة في قلب الأناضول فقط ليس إلا، في مقابل تدعيم تمدد اليونانيين الذين دخلوا إزمير في ذلك الوقت، ورأي الروس أنهم الأقرب إليهم لأسباب دينية وثقافية واضحة.
صحيفة جمهوريت المحسوبة على النظام التركي عام 1941 بعد توقيع ميثاق الصداقة بين تركيا وألمانيا في إطار الحياد التركي آنذاك
بعد نهاية الحرب وهزيمة الألمان، عادت الحسابات القديمة، وأصبحت روسيا هي القلق الأبرز في أوروبا، وهو ما دفع الساسة الأوروبيين إلى التحول من مواجهة إلى دعم حكومة مصطفى كمال التي أثبتت قوتها على الساحة في مطلع العشرينيات مقابل تضاؤل شرعية وقوة السلطان العثماني، وأسست بالتبعية الجمهورية التركية الجديدة، والتي لم يكن فقط شغلها الشاغل تعزيز الروابط السياسية بالغرب، بل والالتحاق به ثقافيًا بشكل يقلص ربما المسافة التي ذكرناها بين الأتراك والأوروبيين، وهي جهود كما نعرف لم تُثمر كثيرًا، فالشرائح المحافظة من ناحية حافظت على إرثها الإسلامي، في حين اتسمت الشرائح العلمانية الجديدة بفقدان الثقة في القوى الغربية على المستوى السياسي نتيجة القومية التركية والانعزالية الشديدة للنظام التركي الجديد.
مرة أخرى، وبعد صعود الألمان من جديد في الثلاثينيات، اتسمت السياسة التركية بالتعاطف مع الألمان ومحاولة الاقتراب منهم لتعزيز رصيدهم في مواجهة الروس، ولكن الحرب حين قامت هذه المرة كانت الإدارة التركية، بقيادة عصمت إينونو، حريصة على التعلم من أخطاء الإدارة العثمانية السابقة في الحرب الأولى، وأعلنت حيادها حتى تتبين لها ملامح المنتصر في الحرب، وهو ما بدا بالفعل عام 1945 حين لاحت بوادر هزيمة الألمان، لتقفز الإدارة التركية في معسكر المنتصرين قبل أشهر من إعلان نهاية الحرب، ثم تبدأ الحرب الباردة بعد نهاية مسألة الألمان إلى غير رجعة، وترسّخ العداوة بين المعسكرين الشرقي والغربي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، والذي جعل تركيا حجر أساس في الاستراتيجية الغربية، وعضوًا في حلف الناتو إلى اليوم.
***
تبقى تركيا إذن لكل تلك الأسباب في التحالف الغربي، لا سيما وأن غريمها التاريخي في موسكو بدأ يعود مجددًا للتمدد في شرق القارة والبحر الأسود، ولعل ما اعتبره كثيرون تحولًا عن الاستراتيجية الغربية من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين صرح بأن بلاده على استعداد لدخول منظمة شانغهاي، وبدأ في الاقتراب مؤخرًا من نظيره الروسي، لم يكن في الحقيقة سوى تجليًا للثقة المطلقة التي يشعر بها الأتراك تجاه أهميتهم لدول الغرب في هذه اللحظة أكثر من غيرها، فكلما كان الغرب في حاجة إلى تركيا، كلما كانت، للمفارقة، أكثر قدرة على التحرك شرقًا وجنوبًا دون خوف من تخلي الغرب عنها أو ضغطه عليها لكيلا تبتعد كثيرًا، وهي اللحظة التي لم تتكرر ربما سوى مرة واحدة أثناء الحرب العالمية الأولى، وأدت إلى سقوط الخلافة، ولن تتكرر على ما يبدو بعد أن أصبحت برلين ركنًا أساسيًا في التحالف الغربي.