ترجمة وتحرير نون بوست
كتب إيميلي كرين ونيكولاس لين:
منذ استيلاء الجيش على الحكم في مصر في يونيو 2013، عمد النظام المصري إلى حظر الاحتجاجات، وحل آلاف المنظمات غير الحكومية، وتشديد قبضته على الصحافة، وكل ذلك باسم مكافحة الإرهاب، ولكن في خلفية المشهد، كان الرئيس المصري، العسكري سابقًا، عبد الفتاح السيسي، يخوض معركة أشد دهاء، وهي معركة المساجد في مصر.
قبل الانقلاب والسيطرة على الحكم، كانت الدولة المصرية تشرف وتتحكم بشكل مباشر بحوالي نصف المساجد التي تضمها البلاد، ومن وجهة نظر السيسي، استطاع الإخوان المسلمون، العدو اللدود للنظام المصري اليوم، التطور والازدهار خلال الـ 90 عامًا الماضية، ضمن النصف غير الخاضع للرقابة من المساجد، ولقد آن الأوان للتغيير، حيث قرر السيسي أن مساجد مصر، هي المكان المناسب للمباشرة بحملة القضاء التام على جماعة الإخوان المسلمين الآن وإلى الأبد، ولكن على عكس توقعاته المتفائلة، يبدو أن حملته ضد التطرف قد تأتي بنتائج عكسية.
عبد الرحمن،35 عامًا، يملك محل حلاقة رجالية في شارع مزدحم بالقرب من وسط القاهرة، ولمدة عشرة أعوام، اختار عبد الرحمن حضور الصلوات في مسجد الرحمن الذي يقع تمامًا بجانب محله، مفضلًا إياه على مسجد الرحمة الفسيح والواسع والأنيق، والذي يقع فقط على بعد حي واحد منه، حيث أشار أنه يفضل الدروس التي يتم إلقاؤها في المسجد الصغير “الإمام كان رجلًا بسيطًا”، قال عبد الرحمن، وأضاف “لقد كان ممتازًا، ممتازًا حقًا، ولكنه رحل الآن، لا أعرف إلى أين”.
في فبراير الماضي، اختفى إمام مسجد الرحمن الصغير، وتم وضع لافتة على باب المسجد تقول “سيتم حاليًا إقامة صلاة الجمعة في المسجد الكبير، وإغلاق هذا المسجد، إلا في أوقات الصلاة اليومية”، وعلى الفور، صدر مرسوم عن وزارة الأوقاف المصرية، يمنع جميع المساجد التي تقل مساحتها عن 80 مترًا مربعًا من استضافة المصلين إلا في أوقات الصلاة اليومية، وبذلك تم حظر الدروس، وحظر التماس الصدقات للفقراء، وأُغلق مسجد الرحمن جنبًا إلى جنب مع 27.000 مسجد آخر يشبهه.
على الرغم من أن هذه المراسيم بدأت لتوها بالدخول إلى حيز التنفيذ، بيد أن الدولة كانت تعمل على تحقيق هذا الهدف منذ أكثر من سنة؛ ففي يناير 2014، أعلنت الحكومة المصرية المؤقتة أنه للمرة الأولى منذ عقود، ستبدأ وزارة الأوقاف بتطبيق قانون صدر منذ عهد جمال عبد الناصر، يحظر على أي إمام غير مصرح له بأن يلقي خطبًا في الجوامع؛ مما أسفر عن طرد 12.000 إمام، كما قام المسؤولون المصريون بتوحيد خطب الجمعة، وهذا ما يعني أن جميع الأئمة عليهم في كل أسبوع الالتزام بإلقاء خطبة من على منابرهم في الجوامع، محددة الموضوع سلفًا.
سابقًا، كان لدى الأئمة العديد من الخيارات التي يمكنهم من خلالها الحصول على تصريح بالعمل؛ فيمكن أن يدرس الإمام في جامعة الأزهر العريقة والمرموقة، أو يتبع دورة تديرها وزارة الأوقاف المصرية، أو يخضع لتدريبات تعقدها المنظمات غير الحكومية المرخصة، مثل منظمة الجمعية الشرعية، حيث كان يتم الإشراف على هذه الجمعيات من قِبل وزارة الأوقاف، وبذات الوقت، كان يُسمح لهم بتدريب أئمتهم بالطريقة التي يرونها ملائمة.
ولكن في مارس، أعلنت وزارة الأوقاف أنه ابتداءًا من العام الدراسي القادم، ستعمد إلى إدارة جميع مراكز التدريب الدينية بنفسها، كما أن جميع فحوصات الترخيص ستُدار ويتم الإشراف عليها من قِبل الوزارة أو الأزهر حصرًا، وبذلك عملت الدولة المصرية على زيادة إدماج الأزهر، المؤسسة التي كانت تفتخر سابقًا باستقلاليتها، ضمن شبكة وزاراتها وإداراتها الحكومية.
منذ تأسيسه قبل أكثر من 1000 سنة، خدم الأزهر باعتباره الركيزة الأساسية للدراسات الإسلامية المعتدلة، ولم يقتصر دوره الفاعل على مصر فحسب، وإنما امتد ليشمل العالم الإسلامي السني بأسره، ونتيجة لذلك، تنافس كل حاكم مصري منذ عهد محمد علي بغية السيطرة على هذه المؤسسة ورسالتها، ورغم أن عبد الناصر استطاع ضم الأزهر تحت مظلة وزارة الأوقاف المصرية في عام 1961، بيد أن التوتر الصحي والملائم ظل مستمرًا ما بين الأزهر والدولة، حول قدرة الجامع على التعليم والتدريب بالشكل الذي يراه ملائمًا، بعيدًا عن تسلط الدولة، ولكن منذ الفترة القصيرة التي حكم بها الإخوان المسلمون البلاد، أصبح الأزهر أكبر حليف للدولة في القضاء على اتجاهات الإسلام غير المرغوب بها.
تحت القيادة الجديدة للإمام الأكبر أحمد الطيب، تم تضييق تعاليم الأزهر وتدريباته إلى حدود المذهب الصوفي الأشعري، وهو اتجاه إسلامي معتدل يتواءم مع رؤية النظام الحالي للدولة الإسلامية الحديثة، “سابقًا، لم يحصر الأزهر نفسه ضمن هوية واحدة” قال جورج فهمي، الباحث في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، وأضاف “هذا ترك مساحة لنشاط السلفيين والإخوان المسلمين، ولكن الآن الطيب يريد أن يجعل الأزهر أكثر محدودية”، وإذا تم تطبيق القانون الذي ينص على ضرورة تدريب جميع الأئمة من قِبل الأزهر أو وزارة الأوقاف، فإنه سيضمن نجاح الأزهر في توحيد مصر تحت هوية أزهرية واحدة، وسيضمن أيضًا نجاح الدولة في القضاء على أصوات المعارضة السياسية.
ويتابع فهمي موضحًا “الوزارة تحاول الآن فرض السيطرة الكاملة على جميع مراكز التدريب الدينية، ليس مجرد الإشراف، بل السيطرة الكاملة”، وأردف قائلًا “سابقًا، لم يكن يتوجب على الشخص الخضوع لامتحانات، وكان الأمر يقتصر على الخضوع للتدريب لدى المنظمات غير الحكومية، ومن ثم كان يحق للإمام إلقاء الخطب في مساجد هذه المنظمات، ولكن الآن باشرت وزارة الأوقاف بمحاولاتها للسيطرة على جميع المساجد، وجميع الأئمة، وهذه السيطرة تشمل احتكار تشكيلة الأئمة الموجودة في البلاد”.
بمجرد وضع هذه القوانين في حيز التنفيذ، فإن الدولة المصرية ستتمتع بالسيطرة الكاملة على الأشخاص الذين يُسمح لهم بالخطبة، والأماكن التي يتم إلقاء الخطب بها، والمواضيع التي يتم طرحها في الخطب، وكمركز لتدريس المنهج السني في العالم الإسلامي بأجمعه، سيكون لهذا التسلط تداعياته التي تتجاوز حدود مصر؛ فهذه الهيمنة تحدث تحت ذريعة مكافحة التطرف الديني والإرهاب، وهي الحملة التي حققت للسيسي تقديرًا رفيعًا بمواجهة المجتمع الدولي، حتى إن البعض يتحدث عن منحه جائزة نوبل للسلام، لدوره الفعّال في هذه الحملة، وبجميع الأحوال، سيسمح هذا التسلط والاستئثار للسيسي بمواصلة تضييق الخناق على منافسه الأخطر، جماعة الإخوان المسلمين.
في حي صغير بالجيزة يسمى الكوم الأخضر، خدم مسجد الإيمان المتواضع كنقطة تجمع لجميع أفراد الحي لمدة 15 عامًا، قبل أن تغلقه وزارة الأوقاف قبل شهرين، وليد، وهو صاحب متجر في الحي، واظب على الحضور إلى المسجد منذ يوم تأسيسه، وانخرط في جوه المجتمعي، واستمع إلى تعاليمه البسيطة، وسابقًا، وفي أوائل أيام افتتاح المسجد، تناوب أفراد المجتمع على إمامة الصلاة وإلقاء الخطب يوم صلاة الجمعة، لكنهم في نهاية المطاف استقروا على اختيار رجلًا واحدًا ليكون بمثابة شيخ المسجد، وهو الشيخ مصطفى، وعندما أغلقت وزارة الأوقاف المسجد، منعت بدورها الشيخ مصطفى من الخطبة، وحذرته من أنه إذا استمر بذلك، فقد يتم اعتقاله، ولكن مصطفى رفض الرضوخ، وغادر الكوم الأخضر، واستأنف الدعوة – سرًا – في مسجد على الجانب الآخر من الجيزة لم يتم إغلاقه.
وليد أصبح يؤدي صلاة الجمعة الآن في مسجد التوحيد والنور، وهناك، يجلس على حصيرة خارج المسجد ويستمع إلى الخطبة عبر مكبر للصوت، “أشعر أن الكنائس تحصل على حريتها الآن أكثر من المساجد” قال وليد، وأضاف “رجال الأمن لا يمكنهم الدخول إلى الكنائس، ولكن يمكنهم الدخول إلى أي مسجد واعتقال الأشخاص”، وأردف قائلًا “إننا نشعر وكأن شيئًا سُلب منّا بالغصب، الناس يشعرون بأنهم مقيدون بشعائرهم وتعبيرهم الديني، وفي ظل السيسي، أصبحت الأمور أشد تقييدًا من أي وقت مضى”.
يشير عمرو عزت من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن القوانين التي تحكم الدين في مصر لم تتغير منذ عقود، ولكن حصل تغيير ملحوظ في تفسير وتطبيق القوانين الدينية منذ وصول السيسي للسلطة، ويوضح عزت أن القانون المصري يحتوي على نصوص غامضة – بشكل متعمد – فيما يخص موضوع التعددية الدينية، بغية استخدام التشريعات الدينية بشكل يتناسب مع جدول الأعمال السياسية في كل وقت من الأوقات، “القانون المصري لا يحمي التعددية الدينية عندما يتعلق الأمر بالإسلام” يقول عزت، ويتابع “القانون يشير إلى الأئمة كفئة واحدة، ويعطي الدولة الحق في الإشراف على مشاريعهم الدينية، حتى تتمكن من حصرهم في خندق واحد”.
ولكن المشكلة، وفقًا لفهمي، الباحث في معهد كارنيجي، هو أن هذه القوانين يصعب تطبيقها، حيث يقول “حتى في عهد جمال عبد الناصر، عندما كانت الدولة أكثر قوة وتماسكًا مما هي عليه الآن، لم تستطع تطبيق القانون، ولك أن تتخيل ذلك الآن، في ظل ضعف الدولة، فالقانون موجود، لكن المشكلة دائمًا ستكون في إنفاذه وتطبيقه”.
المثال الأوضح على ما تقدم، هو حالة مسجد الدعاء في حي الدقي بالجيزة، المسجد هو عبارة عن غرفة بلا نوافذ، وبحجم مرآب صغير، محشور ما بين مبنيين سكنيين، ويرفع المسجد الآذان من مكبر صوت معلق بعمود هاتف في الشارع، ومساحته تقل بشكل كبير عن الحد الأدنى المتطلب للمساجد والمحدد بـ80 مترًا، وإمام الجامع، الشيخ أنور، محصلته في التدريب الديني هي صفر، فهو لم يتلقَ أي تدريب لا من الأزهر ولا من غيره، وفي الواقع، عندما لا يعمل كخطيب في المسجد أو إمام للصلاة، يعمل أنور، الشاب الهادئ ذو اللحية المحددة، كعامل توصيل لمحل بيتزا مجاور، ولكن على الرغم من صدور قرار وزارة الأوقاف، يقول أنور إنه لا يزال يعمل كإمام للمسجد الذي يتابع نشاطه دون توقف، “سمعت عن قرار الوزارة” قال أنور، وأضاف “إنهم يتخذون مثل هذه القرارات في بعض الأحيان، لكنهم لا يطبقوها على أرض الواقع”.
إن تطبيق وإنفاذ القوانين الجديدة، ليس مهمة شبه مستحيلة على الدولة فحسب، وإنما أيضًا مهمة قد تكون لها عواقب خطيرة ومعاكسة لما تسعى إليه الدولة، حيث يقول فهمي “إنفاذ هذه القوانين سيؤدي إلى بزوغ سوق دينية موازية، فسيتم تأسيس جو ديني موازي، حيث الناس لا يذهبون إلى المساجد لأنهم يعتقدون أن المساجد لا تتفوه سوى بما تمليه عليهم الدولة، لذلك سيذهبون إلى الاجتماعات الدينية الخاصة”، ويشير فهمي، الذي تركز أبحاثه الحالية على طرق مكافحة التطرف الديني لدى الشباب، أن هذه القيود المفروضة من الدولة ستعمل ظاهريًا على القضاء على الفكر المتطرف، ولكنها في الحقيقة ستعمل كسماد يُضاف إلى تربة التطرف ويساعدها على النمو، ويردف قائلًا “بمجرد بزوغ هذه السوق الموازية، ستنتشر الأفكار المتطرفة بسرعة خارقة، لأنها ستكون خارجة عن أي سيطرة، وهنا لا أقصد فقط سيطرة الدولة، بل سيطرة الآباء على أبنائهم ، فأنت لن تعرف أين يذهب أبناؤك، وهنا يكمن الخطر الحقيقي”.
كمعظم بنود الجدول السياسي للسيسي، فإن الدافع خلف السيطرة على المساجد، يتمثل بالحد من نفوذ الإخوان المسلمين، ولكن حتى في تحقيق ذلك، من غير المرجح أن تنجح الدولة، وفق ما يرى عزت، حيث يشرح ذلك بقوله “في الواقع، جماعة الإخوان ومن حولهم، لا يتخذون المساجد كمركز نشاط لهم، بل إنهم يستخدمون الجامعات والمدارس والنقابات والمنظمات الخيرية، كما أنهم يعقدون اجتماعاتهم في المنازل الخاصة أو في الجامعات، لأن المساجد يتم الإشراف عليها من قِبل الدولة منذ فترة طويلة”.
أما فهمي، فيرى أن الدولة يجب عليها انتهاج سياسة معاكسة تمامًا للسياسة التي تتبعها حاليًا، حيث يقول “إذا كنت ترغب بمواجهة الإخوان أو السلفيين، فمن ثمّ عليك أن تعزز دور المسجد في الأحياء، وإعطائها الحرية للقيام بالأنشطة، واستضافة الدروس الدينية”، وأضاف قائلًا “أخشى أنه مع ازدياد شدة قبضة السيسي، سيتحول الإسلام المشروع، إلى مجرد إسلام ناطق باسم الدولة”.
المصدر: فورين بوليسي