بلغ المشهد المصري في مختلف أبعاده ذروة التطرف، فبالإضافة إلى التأزم السياسي الذي عقب الانقلاب العسكري، المتجلي في أحكام قضائية، وسياسات تحمل لواء القضاء على الإخوان، تشهد أرض الكنانة انهيارًا اقتصاديًا، واحتقانًا اجتماعيًا، كنتيجة لعجز النظام الحاكم الحالي عن تحقيق الاستقرار.
مشهد سحب تلك المكانة الإستراتيجية من مصر، والتي كانت تحتلها في المنطقة، وأصبحت مصدر قلق لدول الجوار؛ بالنظر إلى ثنائية التأثير والتأثر التي تميز دول الإقليم.
ورغم إصرار النظام الحالي على اتباع سياسات العصا الغليظة وحتى المشانق، إلا أنه لم يفلح في إيجاد أرضية يثبت عليها حكمه، عدا ذلك الزخرف الباسل الذي نلمح في أغلب وسائل الإعلام المصرية، التي حباها الله بقدرة عجيبة على تحويل السماء الملبدة بالغيوم إلى سماء زرقاء وعصافير تزقزق.
وكما كان منتظرًا، بدأت تداعيات الضربة الوحشية التي تعرض لها إخوان مصر بالبروز، خاصة من خلال ما تابعناه مؤخرًا، من تجاذب بين تيار السلمية وتيار القصاص، وأمام هذا الوضع المتأزم، وأمام استقالة المجتمع الدولي عن لعب دور يبعد عن مصر شبح الانهيار، كثر الحديث عن دور ممكن لراشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية والمفكر الإسلامي، خاصة مع نجاحه في تجنيب تونس ما دفعت إليه قوى الثورة المضادة: إعادة إنتاج المشهد المصري في تونس، ورغم غياب التصريح، إلا أن رصد التحركات الأخيرة لقيادات النهضة ورئيسها قد تجعل من هذا الحديث واقعًا بصدد التشكل.
قراءة في بيان حركة النهضة حول أحكام الإعدام
لم تكن أحكام الإعدام التي أصدرها الشامخ المصري يوم 16 مايو لتمر مرور الكرام، وانهمرت البيانات المنددة من كل فج عميق، ورغم تماثلها صياغة وفكرة، ورد بيان حركة النهضة حاملًا جملة من الرسائل، التي اعتبرها بعض المحللين إيذانًا بحقبة جديدة قد يكون للنهضة ورئيسها دورًا محركًا.
فبالإضافة إلى شجب هذه الأحكام التي اعتبرها البيان ظالمة، استعملت حركة النهضة لأول مرة لفظ “الرئيس السابق” في إشارة لمحمد مرسي بعد أن كانت تعتمد صفة “الرئيس الشرعي”، كما شهد البيان الاستغناء عن صفة الانقلاب في وصف النظام القائم، وطالب في نقطته الرابعة بضرورة إيجاد مساحة للحوار الوطني، ودفع مبادرات المصالحة دون إقصاء بين الفرقاء المصريين، من أجل رأب الصدع السياسي، بعيدًا عن المواجهة وآثارها الخطيرة على وحدة مصر وشعبها.
هذا التغير على مستوى المفردات لا يمكن أن يكون في معزل عن القرار والرؤية السياسية لحركة النهضة، حيث ذهبت بعض التحليلات إلى أن النهضة واعية بأن الدخول في وساطة لا يكون إلا من طرف يعترف في مستوى أول بالنظام الحالي القائم في مصر، دون اعتبار ما حدث انقلابًا، بقدر ما هو خلاف سياسي وجب تلافيه بحوار وطني.
تصريح موجه من راشد الغنوشي
وفي لقاء مع الأناضول نًشر يوم أمس، وحول إمكانية لعب الغنوشي دورًا في تخفيف الأزمة المصرية، قال الزعيم التونسي إن “حقن قطرة دم واحدة لمصري يُسافر لها إلى أقصى الدنيا”، وأضاف الغنوشي “إننا يمكن أن نقوم بدور(للمصالحة بين الأطراف المصرية) وسنكون سعداء بذلك”.
وفي ذات السياق، أشار الغنوشي، “نتوقع أن تقع وساطة سعودية في مصر لأن المنطقة في حاجة إلى تصالح، ومصر كذلك تحتاج إلى تصالح”، وسبق أن دعا الغنوشي في الفترة الأخيرة الرياض إلى القيام بدور الوساطة من أجل تحقيق مصالحة في مصر، تشمل في المقام الأول المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين، غير أنه لم تُسجل بعد إجراءات سعودية في هذا الاتجاه.
وأوضح الغنوشي أن “العالم العربي في حاجة إلى مصر قوية، ويحتاج إلى جيش مصري قوي، فالعالم العربي بدون مصر لا شيء، وهذا سبق وأن تبين عندما انسحبت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي – في إشارة لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 -، العرب لم يفعلوا شيء في غياب مصر فلا عرب بدون مصر، وبالتالي تعافي مصر هو مصلحة عربية”، وأضاف رئيس الحركة أن “مصر لكي تقوم بدورها في العالم العربي حاملة لرايته ومدافعة عنه، لامناص من أن يكون وضعها الداخلي مناسبًا، وأن يكون الشعب المصري في حالة تصالح وليس في حالة حرب بين قواه”.
وعن ملامح رؤيته لحل الأزمة المصرية، أوضح الغنوشي، “لا أحد عارف بمصر يتصور أن الجيش المصري يمكن أن ينسحب من السياسة جملة، لأنه لا يمكن أن ننزع من مؤسسة هويتها، وهي مصدر من مصادر شرعية تكوينها، وليس من المعقول أن نطلب من الجيش الانسحاب من السياسة تمامًا وبشكل كامل”، وتابع: “وكذلك لا أحد عارف بمصر يمكن أن يتصور مصر، في الزمن المنظور، يمكن أن تصبح وتمسي وليس فيها جماعة الإخوان المسلمين، لأن الإخوان قوة مؤسسة لمصر الحديثة، لا أحد عاقل يمكن أن يتصور مصر بدون إخوان، أو كذلك بدون أقباط، فالأقباط جزء لا يتجزأ من مصر، أو تكون مصر بدون قوى ليبرالية، هذه القوى هي قوى أصيلة في مصر”.
وخلص إلى أن “أي معادلة معقولة لحكم مصر يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه القوى، من يتصور أن هذه الحرب على الإخوان ممكن أن تأتي عليهم، وتقلب الصفحة ونرى مصر بدون إخوان، فهذا يكون إضاعة للوقت، كل محاولات الإقصاء هي محاولات فاشلة، والإقصاء غير ممكن لأي طرف في المشهد المصري”، وكشف الغنوشي أنه سبق وأن نقل ملامح هذه الرؤية الرافضة لإقصاء أي طرف من المشهد السياسي المصري، إلى “شخصيات قريبة من النظام المصري” لم يكشف عن هويتها.
تتوالى إذن المؤشرات الإيجابية والرسائل الموجهة التي ترسلها حركة النهضة إلى المجتمع السياسي المصري، ورغم غياب رد صريح من السلطات الحاكمة في مصر، إلا أن تواصلها (الرسائل) قد يحيل إلى بعض من الإيجابية، لم يحن الوقت بعد لتخرج للعلن.
ورغم المحاولات التي يبذلها الغنوشي، سيكون على إخوان مصر تجاوز خلافهم التنظيمي، وتهيئة أنفسهم لتقبل تسوية قد تفرضها الظروف الحالية، بين الفينة والأخرى.