ترجمة وتحرير نون بوست
قبل حوالي عام واحد من الآن باشر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الظهور بقوة على الساحة الدولية، ومنذ ذلك الحين تم تشكيل تحالف دولي لهزيمة التنظيم، هذا التحالف الذي قادته الولايات المتحدة، كان يحوز كافة المتطلبات المادية التي تؤّمن له النجاح، حيث يمتلك التحالف ميزة التفوق الجوي، كون داعش يفتقر إلى القوة الجوية، وأنظمة الدفاع الجوي الفاعلة، كما أن التحالف يمتلك أيضًا مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة التي تساعده على الأرض.
في العراق، يحظى التحالف بدعم الجيش العراقي المدرب والمسلح أمريكيًا، والميليشيات الشيعية المدعومة إيرانيًا، وقوات البيشمركة الكردية، أما في سورية، فإنه يعتمد على مختلف فئات المعارضة المسلحة السورية، وحزب العمال الكردستاني (PKK)، ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، كما أنه يستفيد، بشكل غير مباشر، من أنشطة الجيش السوري، مثل الغارات الجوية التي تستهدف داعش، وخاصة ضمن وحول محافظة دير الزور، ولكن مع كل هذه القوى مجتمعة، لا يمكن للتحالف أن يتباهى إلا بانتصارات صغيرة، مثل الاستيلاء على المدينة المتنازع عليها حتى الآن، تكريت، والتقدم الكردي في المناطق المجاورة لجبل سنجار، حتى إن المثال الأكثر رمزية على انتصارات التحالف، المتمثل باستعادة كوباني، جاء بتكلفة هائلة، وحجم الدمار في كوباني يتحدث عن نفسه من هذا المنطلق.
المفارقة هنا، هي أن الإنجاز الحقيقي لقوات التحالف لا يتمثل بعدد القرى والبلدات التي ساعد على تحريرها من أيدي داعش، بل بعدد البلدات والمدن التي منع سقوطها في أيدهم؛ ففي الصيف الماضي كان سقوط بغداد لا يبدو سيناريو غير وارد، وأربيل كانت على بعد ساعات فقط من محاصرتها بالكامل من قِبل قوات داعش، وحتى الآن يبدو أن جميع هذه المدن آمنة، وفي الواقع، أن تدخل الولايات المتحدة سريعًا هو الذي حقق هذه النتيجة.
ولكن حتى هذه الإنجازات لا تزال قابلة لأن تنعكس، ومعركة الأنبار الأخيرة، بالإضافة إلى معركة مصفاة نفط بيجي، تقفان كشاهد، يذكرنا بهشاشة الجيش العراقي ومثابرة عناصر داعش، كما تثبت هاتان المعركتان الحقيقة المتفائلة المبالغ بها، إن لم يكن الوهمية، للخرائط التي أصدرتها مؤخرًا وزارة الدفاع الأمريكية، مدعية فيها أن تنظيم داعش يفقد الأراضي بشكل مطرد.
رغم أنه فقد بالفعل بعض الأراضي، ومئات، إن لم يكن الآلاف، من جنوده، بيد أن قدرة تنظيم داعش وشهيته المنفتحة نحو فتح جبهات جديدة، وإلحاق خسائر فادحة في صفوف أعدائه، لم يتم تقليصها حتمًا، كما أن الهدف الرئيس المتمثل بهزيمة داعش لا يزال غير مؤكد، ولا أحد يتحدث حاليًا عن انهيار سريع للتنظيم، وبالنظر إلى كل الصعاب التي تجابه الدولة الوليدة، يحق لنا أن نتساءل كيف يستطيع داعش البقاء على قيد الحياة، في ظل القصف الجوي المشترك والمعارك البرية التي يقودها التحالف وشركائه ضده؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من تقييم الجانبين، بتكتيكاتهما، وروحهما المعنوية، والتزامها بالحرب.
في الحرب، يلعب عنصران أساسيان دورًا حاسمًا للغاية، وهما القدرة الاستخباراتية وعنصر المفاجأة، هذان العنصران مترابطان ببعضها بلا شك، فكلما كشف أحد الأطراف معلومات أكثر عن عدوه، كلما زادت قدرته على تحديد نوع وعدد وكيفية استعمال الموارد في حربه معه، وهذه المعرفة بالذات تشكل عاملًا أساسيًا في تحديد متى وأين يجب عليه مفاجأة العدو.
لقد كان واضحًا منذ بداية الحرب أن تنظيم داعش يمتلك هذان العنصران على حد سواء، وبالمقابل، فإن خصومه، رغم تفوقهم الجوي والعددي على الأرض، يفتقرون إلى كليهما؛ فقبل أن تبدأ الحرب على داعش، لم يتنبأ التنظيم بالتدخل الأمريكي فحسب، وإنما استثار وحفز الولايات المتحدة للتعجيل به، ومن الجدير بالملاحظة أن ضعف العامل الاستخبارتي لدى التنظيم حول التدخل الأمريكي، كان يتمحور بجهله للجدول الزمني الذي ستبدأ به الضربات الجوية، ونطاق هذه الضربات الجغرافي، ولكن تنظيم الدولة لم يكن لديه شك أبدًا أن التدخل الأمريكي قادم لا محالة، وبالتالي، كان هدف داعش هو تضييق الإطار الزمني، والمنطقة الجغرافية للضربات الأمريكية.
على أرض الواقع، عجّلت هجمات داعش على المناطق الكردية في العراق وسورية من وقوع ضربات التحالف، كما قلصت من نطاقها الجغرافي إلى حد ما؛ فبعد استرداد كوباني من قِبل الأكراد، أعلن المتحدث باسم داعش، محمد العدناني، أن المعركة في كوباني استغرقت 70% من الغارات اليومية للتحالف، وبغض النظر عن دقة هذا الرقم التي تعتبر حقيقة ثانوية، فإن الحقيقة هي أن كوباني فعلًا استغرقت على أرض الواقع الجزء الأكبر من الغارات الجوية، رغم صغر حجمها وموقعها الهامشي، حيث كانت الحكمة العسكرية خلف هذا التركيز، أن داعش كان ينتهج سياسة التدمير الذاتي، من خلال استثماره للكثير من قواه وموارده للحفاظ على موقعه داخل هذه المدينة الصغيرة.
ولكن قدرة داعش القتالية استمرت حتى بعد استرداد كوباني، مما يدلل على أن المهمة التي كان ينفذها التنظيم داخل المدينة كانت أكبر من مجرد التدمير الذاتي، ففي الوقت الذي كان القتال فيه محتدمًا في الخريف الماضي حول كوباني، كان داعش يعزز ويوطد مكاسبه في أماكن أخرى، والأهم من ذلك، استطاع من خلال هذه المعركة تأمين وشراء الوقت لبناء مؤسساته ضمن الموصل والرقة، بالحد الأدنى من الاضطرابات، على اعتبار أن الحرب كانت متأججة بعيدًا عن حدود هذه المناطق، حيث تواصل ظهور مقاطع الفيديو التي تُظهر قادة داعش وهم يجرون اجتماعات ضخمة مع زعماء القبائل في سورية والعراق، حيث تعهدت القبائل الأخيرة بالولاء للبغدادي.
استمر تنظيم الدولة ببناء التحالفات وكسب الولاءات، في حين كان تقدمه نحو أربيل يُبقي أعين التحالف الدولي وتركيزه منحصرًا على المناطق الكردية، وفي ذات الوقت نفذ التنظيم هجمات على نقاط التفتيش العراقية بسهولة نسبية، حيث التقطت هذه التحركات الحد الأدنى من القصف الجوي.
إن المراقب لسير الحرب، يستطيع بلا شك أن يدرك أن تنظيم داعش كان يجهز نفسه لحرب طويلة الأمد ليس ضد جيرانه فحسب، وإنما ضد الولايات المتحدة كذلك، وهذه الاستعدادات بدت واضحة في التكتيكات التي اعتمدها التنظيم منذ بداية الحرب، حيث كان تكتيكه يهدف إلى الحد من تأثير القصف الجوي الذي يستهدفه، واستخدام الذخيرة التي يملكها بحكمة بالغة، حيث اعتمد على وحدات متنقلة صغيرة للقيام بالمهمات، وساعد صغر حجم هذه الوحدات على تقليص انتباه طيران التحالف إليها، أو إحجامه عن إهدار الذخائر الجوية المكلفة على وحدات صغيرة الحجم، كالتي كان يستخدمها التنظيم.
وللتعويض عن صغر حجم الوحدات في ساحة المعركة، كان داعش يعمل على التأكد دائمًا بأن هذه الوحدات الصغيرة قادرة على تنفيذ مهام خطيرة وقاتلة؛ فهذه الوحدات كانت تهاجم فقط الأهداف التي تم مسحها تمامًا من الأرض من قِبل المتعاونين مع التنظيم، أو من الجو بواسطة الطائرات بدون طيار الرخيصة التي يملكها التنظيم، وأحيانًا بكلا الأسلوبين، وهذا يعطي المقاتلين رؤية واضحة لمسرح المعركة، ويقلل من المفاجآت غير المرغوب فيها؛ لذا وبالنسبة للجنود العراقيين والمقاتلين الأكراد، كانت هجمات داعش تتميز بالسرعة والقوة والمفاجأة، ولضمان عنصر المفاجأة، وضمان قلة وضوح الاستطلاع الجوي، غالبًا ما كان يستفيد التنظيم من سوء الأحوال الجوية.
داعش أيضًا يختار أهدافه بدقة متناهية، حتى تعمل هذه الأهداف – عندما يسيطر عليها – كمركز دعم ملائم لهجماته الكبرى على المراكز الحضرية الرئيسية، وهي الهجمات التي تتطلب توظيف الكثير من الوقت والموارد والرجال، وكشف أصول التنظيم العسكرية أمام الغارات الجوية، ومن الملاحظ أيضًا أن داعش غالبًا ما يهاجم المواقع النائية، والتي على الرغم من كونها مكشوفة وضعيفة، بيد أنها تميل لأن تحتوي على مخزونات كبيرة من الأسلحة، التي يتم الاحتفاظ بها لكي تكون – من الناحية النظرية – عونًا للمدافعين عن الموقع للثبات على الأرض، حتى وصول التعزيزات من المراكز الحضرية، واستيلاء التنظيم على هذه المواقع لا يخوله اغتنام المزيد من الأسلحة فحسب، ولكن أيضًا يساعده على قطع طرق الإمداد، وتأمين المعابر الحدودية، بغية الاستحصال على سيولة نقدية، قادمة من خلال فرض الغرامات والرسوم على حركة الناس والبضائع في المناطق التي يسيطر عليها.
وعلاوة على ذلك، توفر هذه الهجمات مصدرًا ثابتًا للمواد الدعائية (بروباغندا الدولة)، والتي تتيح للتنظيم أن يدعم صورته كعدو فتاك قادر أن يكون في كل مكان وفي أي زمان، كما أن تأثيرات هذه الهجمات على معنويات أعداء التنظيم كبيرة جدًا، آخذين بعين الاعتبار في حكمنا هذا، عمليات الفرار الضخمة من ساحة المعركة من قِبل الجنود العراقيين والسوريين؛ فعندما يرى المدافعون عن المراكز الحضرية الكبرى، أو يسمعون بالأثر المدمر لحرب داعش، تتكسر عزائمهم بسرعة بالغة؛ فالانتحاريون الذين يقودون سيارات مفخخة بأطنان من المتفجرات، والانغماسيون الذي يتسابقون لمواجهة الموت المحتم، والقصف المستمر من الشاحنات المسرعة، وقذائف الهاون والمدفعية الثقيلة في بعض الأحيان، جميع هذه العناصر تتآلف في انسجام شيطاني، قادر على كسر شكيمة أي مدافع.
مؤخرًا، لاحظت وزارة الدفاع الأمريكية أن تنظيم الدولة ينفذ هجمات صغيرة بمعظمها ولا تتعدى مرحلة المناوشات، وفسرت وزارة الدفاع هذه الحقيقة على أنها علامة على ضعف التنظيم، والحقيقة إن ملاحظة وزارة الدفاع حول اعتماد داعش على الهجمات الصغيرة صحيحة، ولكن تقييمها وتفسيرها لأسباب هذه الهجمات وهدفها تعتريه أخطاء فادحة؛ فداعش لا يعتمد على الهجمات الصغير كونه غير قادر على شن هجمات على نطاق واسع، بل إن التنظيم يعلم أن المعارك الكبيرة ليست ذات أهمية تذكر حاليًا، فضلًا عن كونها مغامرات محفوفة بالمخاطر، نظرًا للهيمنة الأمريكية الكاملة على الجو، كما أن الهجمات الصغيرة، والتي اعتبرتها وزارة الدفاع ذات قيمة دعائية فقط، لها آثار نفسية وعسكرية متراكمة قاتلة، كون دور هذه الهجمات على المراكز الحدودية المعزولة ونقاط التفتيش على الطرق الرئيسية لا يقتصر على خلق شعور بانعدام الأمن في جميع أنحاء البلاد فحسب، وإنما تبقي هذه الهجمات هذه المراكز في حالة مستمرة ودائمة من الاستنفار، وهذا ما يفرض على الحكومات تشتيت مواردها – المادية والبشرية – على نطاق واسع، مما يحد من قدرتها على تركيز هذه الموارد في منطقة واحدة لكسب معركة كبيرة ضد التنظيم.
كما تُجبر هذه الهجمات المراكز على البقاء في موقف دفاعي فقط، فحتى الآن داعش مطمئن لعدم إمكانية تدبير هجوم مفاجئ من البيشمركة أو من الجيش العراقي، كما أن الطبيعة الكسولة والعلنية للجهود والهجمات العسكرية التي قد يصار إلى اتخاذها من قِبل أي من الأطراف المعادية للتنظيم، تعطيه متسعًا من الوقت ليقرر التكتيكات الضرورية للدفاع عن المنطقة المعينة للهجوم الوشيك، بما في ذلك الاعتماد على تكتيكات غير متناسقة مع قوة الهجمات، مثل نشر وحدات صغيرة تهدف لتحقيق مهمات سهلة، كعرقلة أو إطالة أمد الهجمة بدلًا من هزيمتها ككل، وهذه التكتيكات تساهم في إستراتيجية الاستنزاف الكبرى التي ينتهجها التنظيم، فضلًا عن مساهمتها بالحرب النفسية التي تحفزها هجمات التنظيم السريعة والقاتلة.
السقوط الأخير للرمادي وتدمر في أيدي تنظيم الدولة، هو ثمرة تكتيك الهجمات الصغيرة، فعندما يتم قطع طرق الإمداد، ويشتبك الجنود في المراكز الحضرية في حرب طويلة وغير متكافئة، بعد بقائهم لفترة طويلة في موقف دفاعي، واضطرارهم لخوض معارك جانبية ليست من اختيارهم، ولا تشبه بأي شكل من الأشكال ما تم تدريبهم للتعامل معه، فإن هجمة كبيرة أخيرة من قِبل داعش، ستكون كافية لسحق ما تبقى من عزيمة هؤلاء الجنود، وإذا استمر داعش بالتمتع بحرية اختيار ساحة المعركة، وتوظيف التكتيكات التي يفضلها ويتقنها ضمنها، دون أن يكون مضطرًا إلى إقحام قوة كبيرة من جنوده أو عتاده ضمن معركة معينة، فداعش لن يبقى على قيد الحياة فحسب، ولكن في نهاية المطاف، سيكون سقوط مناطق ومراكز حضرية أخرى، مثل بغداد ودمشق، في قبضته سيناريو قابل للتطبيق، إن لم يكن حتميًا.
المصدر: ميدل إيست آي