بعد سقوط نظام القذافي والمعارضة الهشة من قِبل الروس والصينيين، وبعد التهديدات الغربية المتكررة للنظام السوري ظهر للواجهة تحالف عالمي جديد يستحق الانتباه ما بين موسكو وبكين؛ أثمر هذا التحالف في الدفاع المستميت عن إيران وبرنامجها النووي، ودفاعها عن سوريا الأسد، فهل يستحق هذا التحالف انتباه العالم حقًا أم أنه مجرد تقارب آراء لدول استبدادية ديكتاتورية تدافع عن أخواتها الصغار في العالم؟
قبل عقد من اليوم بدأت روسيا والصين في تدشين تحالفها الإستراتيجي بعد إبرامهما لاتفاقيات الصداقة في 2001، ولكنه كان تحالفًا هشًا نوعًا ما لعدم رؤية الطرفين أي قيمة من هذا التحالف في المستقبل القريب، ولكن بعد سقوط بغداد والإطاحة بنظام صدام حسين، أصبح الطرفان أكثر تقاربًا لبعضهما البعض، الأمر الذي دفعهما إلى البحث عن شريك إستراتيجي في الشرق الأوسط لمواجهة الزحف الغربي فيه، هذا الشريك تمثل في طهران، فكان لا بد من تعزيز مكانة إيران في المنطقة، في نفس الوقت كان هناك مشاكل جوهرية بين القوتين لا بد من معالجتها كي يكون التحالف الروسي – الصيني أقوى، أهم هذه الملفات يكمن في الخلافات الحدودية في غرب وجنوب روسيا، بالإضافة إلى النزاعات القديمة بين الطرفين.
الطاقة والشراكة الاقتصادية
عملاق الطاقة الروسي استخدم النفط والغاز للضغط على أوروبا للرضوخ لأطماعه الاقتصادية، ولكن بعد أزمة أوكرانيا والعزلة الاقتصادية التي أوجعت روسيا كان لا بد لموسكو أن تتجه نحو بكين للتخفيف من هذه الضغوط، بكين من طرفها أصبحت أكثر حاجة لهذا التحالف وخاصة بعد تصعيدها في منطقة بحر الصين.
بعد مباحثات مضنية وقع الطرفان اتفاقيات حدودية مهمة لإنهاء نزاعاتهم الحدودية في خامس أكبر منطقة حدودية في العالم، ولكن كما يعرف الطرفان كل هذه الاتفاقيات بلا قيمة إن لم تكن هناك صداقة إستراتيجية عميقة بينهما، الأمر الذي دفع موسكو لإظهار حسن النية للصينيين، والموافقة على مطالب الصين للحصول على حصة أكبر في عقود التنقيب في منطقة شرق سيبيريا، لم تكن هذه أول الاتفاقيات التنقيبية التي مُنحت للصينيين، ولكن هي الأكبر إذ تعطي بكين الحق في التنقيب في قلب روسيا، خطوة تتوج العلاقة الجديدة لهاتين الدولتين.
في إجابتها عن سبب تغيير موسكو لمواقفها الرافضة للشركات الصينية في أرضها، تجيب مجلة الول ستريت بالقول إن الحقائق على الأرض أشارت أنه لا مفر من الموافقة على المطالب الصينية؛ لتعزيز الشراكة الإستراتيجية بين الطرفين، ما يعطي الصينيين اليد العليا في منطقة شرق أسيا، ويمكنّها من أخذ الصداقة الروسية على محمل الجد، أضف إلى ذلك اعتماد روسيا الكلي على عائدات النفط والغاز، حيث إن روسيا أدركت خطورة الاعتماد شبه الكلي على هذا القطاع الاقتصادي، ففي نفس الوقت الذي تتهاوى فيه أسعار النفط والغاز، يبحث المستهلك الغربي عن مصادر أقرب وأكثر استقرارًا من موسكو، بينما تتجه الأسواق الأسيوية نحو شمال وجنوب أمريكا، الأمر الذي يرعب موسكو ويدفعا لفتح عقود التنقيب للصينيين.
الصين، والتي بنت اقتصادًا مستدامًا بعيدًا عن النفط والغاز، تريد من طرفها أن تستثمر بقوة في هذه المجالات، والروس يريدون التحرر من هذا القطاع الذي كان عمود اقتصادهم لعقود، والعودة نحو مجال التصنيع التقليدي والثقيل الذي غفلوا عنه لصالح الصين منذ زمن بعيد، فكانت الشراكة الجديدة لا بد منها، لكي لا يقعوا في رحمة السوق العالمية المتقلبة ويستفيد كل من الطرفين من خبرة الآخر.
ومع هذا تظهر الصين أقوى بكثير من روسيا فهي ليست بحاجة لموسكو إلا كمصدر قريب منها للطاقة، الأمر الذي يمكنها الاستغناء عنه بعد سيطرتها على منطقة بحر الصين وبدء التنقيب فيه، مما سيحول الصين إلى أكبر اقتصاد عالمي ذو مجالات عديدة ومتنوعة، وهذا ما أدركه الروس، فهم ليسوا بتلك القوة لمواجهة الغرب اقتصاديًا لوحدهم، ولا يمتلكون خيارات عديدة تمكنهم من تدارك تقلبات السوق بمرونة كما تفعل الصين.
الصين، والمعروفة بتخطيطها بعيد النظر، تسعى لإعادة طريق الحرير التاريخي بإقامة طرق وموانئ عملاقة تربط شرق أسيا بغربها، لتسهيل حركة منتجاتها إلى أوروبا وأفريقيا، وهذا ما تريد روسيا أن تكون طرفًا فيه، فالعالم الجديد سيكون في رحمة الاقتصاد الصيني، حيث سيكون الين العملة العالمية القادمة بدلًا من الدولار أو اليورو، وهذا ما يرعب الغرب وعلى رأسه أمريكا، التي ترى الصين الخطر الحقيقي الأكبر لها.
ترى بكين، بوتين الشريك الشجاع الذي يمكنه الوقوف معها في وجه أمريكا وأوروبا إن لزم الأمر للحفاظ على مصالحها، من طرفها تبدو أمريكا منذهلة من تقارب الخصمين الأسيويين العملاقين، وخاصة مع تدهور الاقتصاد الروسي، فما الذي يدفع بكينن لإنقاذ موسكو بهذا الشكل، فحتى لو استقرت هذا العلاقة الجديدة بين البلدين، تظل الصين في خصومة جوهرية مع العديد من جيرانها من الهند جنوبًا إلى جنوب كوريا شمالًا، ومعظم هذا الدول لها علاقات جيدة للغاية مع أمريكا، فهل ترسيخ العلاقات مع روسيا يعني رغبة الصين في حسم خلافاتها الأخرى مع جيرانها بالقوة؟
سوريا والشرق الأوسط
الأمر الذي يقوي العلاقات الصينية – الروسية هو الملف السوري، استخدمت الصين وروسيا حق الڤيتو ثلاث مرات لعرقلة أي قرار أممي في الحرب الأهلية في سوريا، وحتى بعد تهديدات واشنطن العسكرية المتكررها لدمشق بعد استخدامها الأسلحة الكيميائية المحرمة دوليًا، استخدمت موسكو وبكين ثقلهما خلف الكواليس للدفاع عن دمشق، بل أرسلت الدولتان سفنهما الحربية إلى شرق البحر المتوسط كإشارة تحذيرية للغرب بعدم التدخل فيما يجري هناك.
تعتبر سوريا بالنسبة لموسكو وبكين انتصارًا لهما، فإن كانت بغداد للأمريكيين فدمشق للروس، والصين ولن تفاوض أحدًا للدفاع عن مصالحها هناك، ولإضعاف الطرف الغربي في المعادلة، تقف الدولتان مع طهران كممثل لها في العراق وسوريا ولبنان.
لكبح هذا الزحف الروسي – الصيني في الشرق الأوسط، تنظر واشنطن لطهران كطرف يمكن التحالف معه، رغم أن هذا سيغضب شركائها القدماء في المنطقة، ولكن إستراتيجيًا هذا الأمر لا بد منه، فطهران تمتلك مفاتيح العراق وسوريا ولا يمكن استقرار هذين البلدين بدونهما وخاصة مع انعدام التأثر الخليجي هناك.
ولكن يبدو أن هذا التحالف الإيراني الأمريكي غير مجدٍ في تعامل واشنطن مع موسكو وبكين، فالتأثير الورسي في إيران أقوى بكثير من ما يتصوره الكثيرون، ومع إبرام الاتفاقية الغربية مع طهران بخصوص ملفها النووي تصبح طهران أكثر تحررًا لتقوية تحالفها مع موسكو وبكين.