هو عبد الله غُل المولود بولاية قيصري عام 1950، لأب ينحدر من عائلة الأئمة الأوائل لجامع غُلوك Gülük المبني في عصر السلاجقة بالقرن الثالث عشر، والذي سميت باسمه عائلة غُل، وقد كان جده خير الله أفندي أحد المحاربين القدامي ممن شاركوا في حرب الاستقلال، بينما انحدرت أمه، عدوية غُل، من عائلة سات أوغلو العريقة في قيصري حيث كان أبوها شاعرًا وأستاذًا، وعمل أبوه أحمد حمدي غُل بأول منشأة صناعية في المدينة لإنتاج الطائرات قبل أن يؤسس تجارته الخاصة في السبعينيات، والتي لا يزال يديرها إلى اليوم.
بعد انتهائه من التعليم الأساسي، اتجه عبد الله إلى قسم الاقتصاد بجامعة إسطنبول، لينتهي من دراسته عام 1974، ثم يحصل على درجة الدكتوراه عام 1983، وهي الفترة التي انتقل فيها إلى بريطانيا كجزء من بحوثه الاقتصادية، قبل أن يعود أستاذًا مساعدًا للاقتصاد العالمي في جامعة إسطنبول عام 1989، وقد أمضى ثماني سنوات بعد نهاية الدكتوراه يعمل لصالح بنك التنمية الإسلامي بمدينة جدة بالسعودية، حتى دخل عالم السياسة بانتخابه عن حزب الرفاه من مدينة قيصري ليدخل البرلمان التركي، ويظل فيه لخمس فترات متتالية أعوام 1991، 1995، 1999، 2002، 2007.
عبد الله غُل شابًا في قيصري مسقط رأسه
بينما بدأت الاختلافات في حزب الفضيلة، خليفة حزب الرفاه بعد حل الأخير، بين المحافظين بقيادة رجائي قوطان والإصلاحيين، برز اسم عبد الله غُل كواحد من أبرز الأصوات الإصلاحية، وخاض انتخابات رئاسة الحزب عام 2000 ليخسر أمام قوطان، ويتجه لتأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001 مع رفيقه رجب طيب أردوغان، ليصبح رئيسًا للوزراء بعد اكتساح الحزب في انتخابات 2002، ولفترة وجيزة قبل رفع الحظر السياسي عن أردوغان وتوليه رئاسة الوزراء، ثم يتم تعيين عبد الله وزيرًا للخارجية ونائبًا لرئيس الوزراء.
في عام 2007 خاض غُل أبرز معاركه السياسية مع الحرس العلماني القديم للدولة التركية بعد أن دفع به حزب العدالة والتنمية كمرشح لرئاسة الجمهورية، وكانت تلك لتكون أول مرة يتولى فيها رئيس ذو خلفية إسلامية منصب رئيس الجمهورية وتصبح سيدة تركيا الأولى محجبة، مما دفع بالجيش إلى إصدار تصريح على موقعه يعبر فيه عن قلقه من اختيار رئيس “غير علماني”، كما نزل مئات الآلاف من الأتراك المحسوبين على التيار العلماني في الشوارع احتجاجًا على ترشيحه، وهي جهود باءت بالفشل، إذ نجح الحزب في الفوز بالانتخابات البرلمانية المبكرة التي أعلنها، وأصر على ترشيح غُل، ليفوز بالمنصب بعد حصوله على أغلب أصوات أعضاء البرلمان.
عبد الله غُل مع رجائي قوطان في حزب الفضيلة قبل افتراقهما
يتجاهل كثيرون فترة رئاسة عبد الله غُل، ويركزون في الأغلب على الإنجازات السياسية والاقتصادية لحزب العدالة والتنمية برئاسة وزراء أردوغان، بيد أن الإنجازات وحدها لم تكن كافية لتمر بتركيا نحو مشروع الجمهورية الجديدة 2023، كما أثبت مشروع توركوت أوزال في الثمانينيات، والذي أحدث تحولًا اقتصاديًا كبيرًا دون أن يكسر سلطان الجيش والنخبة العلمانية في الدولة، ولهذا فإن رئاسة غُل، والسلطات التي تولاها كرئيس للجمهورية التركية، كانت مرحلة محورية لتفكيك قبضة الحرس القديم من الداخل، وهي الشريحة التي احتفظت بمزاياها بمعزل عن السلطة التنفيذية، وكان الرئيس التركي عادة ما يحميها.
عبد الله غُل في قصر تشانقايا
طوال فترة رئاسته والتي امتدت لسبع سنوات من 2007 إلى 2014، تحولت الأوضاع السياسية نتيجة تحييد مؤسسات الدولة، والتي كانت في السابق خاضعة لشريحة اجتماعية بعينها، وهو تحوّل أتاح لحزب العدالة والتنمية الانطلاق نحو تدشين مشروعه الخاص في الأعوام القليلة الماضية، بعد أن كانت جهوده منصبة على مواجهة أعدائه داخل جهاز الدولة والقوات المسلحة، وقد تم ذلك ببساطة عبر سلطات غُل كرئيس يُشرف على، ويعيّن بعض أعضاء، هيئات تعليمية وقضائية مختلفة كانت تشكل طبيعة المؤسسات المدنية غير التنفيذية، مثل الجامعات والمحاكم، وهو ما يفسّر ملحمة انتخابه الصعبة إلى ذلك المنصب.
بدأت أولى عمليات التعيين الجديدة مباشرة بعد تولي غُل، حيث استقال ستة من أبرز موظفي قصر الرئاسة احتجاجًا على انتخابه، ليقوم ببساطة بتعيين ستة آخرين كان منهم سفراء سابقين خدموا معه حين كان وزيرًا للخارجية، وقد تلى ذلك تعيين بعض أعضاء المحكمة الدستورية، والتي كانت على وشك إغلاق الحزب، وقامت بالاعتراض على ترشيح غُل نفسه، ليعيّن غُل خلال رئاسته أربعة أعضاء للمحكمة، وهي المؤسسة التي لم يُعَد لها دور أيديولوجي كحارس لقيم الجمهورية كما كانت منذ أعوام قليلة نتيجة انتخاب ذوي الآراء الليبرالية وأنصار الديمقراطية والحريات فيها على حساب العلمانيين.
علاوة على ذلك، قام غُل بتعيين ثُلث أعضاء محكمة الاستئناف العسكرية العليا، والمحكمة الإدارية العسكرية في 2008، ثم النائب العام ونائبه عام 2011، وهو المنصب الذي حصل عليه زكريا أوز المسؤول عن التحقيق في شبكة أرجنكون التي خططت لإسقاط حكومة العدالة والتنمية في سنواتها الأولى في السلطة، وكافة أعضاء المجلس الأعلى للقضاه والنواب المركزي للقضاء التركي HSYK، وهو ما جعله بالطبع محايدًا بالكامل بعد أن كان وزير العدل هو الشخص الوحيد الممثل للجهات المنتخبة فيه في مقابل هيمنة الحرس القديم.
على صعيد الهيئات التعليمية، خاض غُل معركة أخرى لتعيين رئيس لمجلس التعليم العالي، بعد أن كان العلماني المتطرف أردوغان تَزيتش رئيسًا له، والذي عُرف عنه معارضته لارتداء الحجاب في الجامعات وازدرائه للمحجبات، وقد عيّن غُل أستاذ علم الاجتماع الليبرالي والمعروف بمواقفه الداعمة للحريات، يوسف ضياء أوزجان، والذي كتب بحوثًا عدة تتناول علاقة الدين بالاقتصاد والمجتمع واعتُبرَت مواقفه فيها من الدين منفتحة، ثم في عام 2011، قام غُل بتعيين مجموعة من أساتذة الجامعات كأعضاء في معهد أتاتورك العالي للثقافة واللغة والتاريخ، واحد من معاقل الثقافة العلمانية في تركيا، وقد تضمنت القائمة أسماءً اعتبرها البعض محافظة نسبيًا، مثل الأستاذ والكاتب ممتازر توركونه، المحسوب على حركة كولن.
أخيرًا، وفي مواقف مثيرة للجدل بعد تظاهرات جَزي والمعركة التي انفتحت بين حركة كولن والحكومة التركية، صدق غُل على قانون اعتبره البعض تدعيمًا لمواقف أردوغان، يعطي وزارة العدل سلطات أكبر على المجلس الأعلى للقضاه والنواب، في محاولة لكبح نفوذ أعضاء حركة كولن ممن قيل أنهم تغلغلوا فيها كما قال مؤيدوه، أو رغبة منه في تدعيم السلطة التنفيذية على حساب القضائية كما قال منتقدوه، بيد أن ذلك لم يمنعه من التعبير عن آرائه المخالفة لأردوغان فيما يخص التعامل مع التظاهرات وتناول ملف الحريات، بل والإعلان صراحة عن رفضه للنظام الرئاسي الذي يمضي فيه الحزب.
ما بعد تشانقايا
في أغسطس المنصرم، وبينما ترك عبد الله غُل قصر تشانقايا كرئيس للجمهورية، بدا وأن تركيا كلها تتجه لما بعد تشانقايا، القصر الرئاسي الذي سكنه رؤساء الجمهورية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهي مرحلة يُقال أن الفجوة فيها اتسعت بين رفيقي الدرب السابقين، أردوغان وغُل، بيد أن غُل الدبلوماسي والهادئ قد امتنع عن أية تصريحات مثيرة للجدل أو للشقاق داخل الحزب، وقال أنه سيعود لممارسة السياسة من داخل الحزب الذي ساهم في تأسيسه، في حين أطلقت زوجته خير النساء العنان لغضبها تجاه معسكر الأردوغانيين في حزب العدالة قائلة أنها ستشعل “انتفاضة” ردًا على الإساءات التي تعرض لها زوجها.
منذ خروجه من قصر الرئاسة، وبعد أن أصبح أحمد داوود أوغلو رئيسًا للوزراء، اختفى عبد الله غُل من المشهد السياسي رغم وعوده بأنه لن يترك السياسة الآن، وأراء الكثير من أنصاره ممن يقولون أنه لا يزال قادرًا على العطاء، والواضح أن معسكر أردوغان على أقل تقدير، يريد تهميشه في هذه اللحظة، إما لتعزيز قبضة أردوغان على السلطة كما يقول نقاد الحزب، أو في محاولة للحفاظ على اسم الرجل الثاني في الحزب حال فشلت خطط الحزب بعد الانتخابات المقبلة، ليكون غُل حينها هو الورقة الجديدة التي يمكن أن تكسب الرأي العام، بدلًا من غرقها مع سفينة المعسكر المسيطر حاليًا على الحزب، وهو الرأي الذي يقوله أنصار الحزب والرجل ممكن لا يعتقدون أن هناك شقاقًا قد وقع بالفعل بينه وبين أردوغان.
في جميع الأحوال، وما إذا كانت مسيرة غُل قد انتهت بالفعل أو أنه ينتظر التحولات الجديدة في الساحة، بالتنسيق مع أردوغان أم لا، فإن رصيده الديمقراطي، والجهود التي قام بها لجلب داعمي الحريات وحقوق الإنسان إلى مؤسسات الدولة، رُغم أنه كان يمكن أن يجلب معسكره الخاص أو أنصار الحزب فقط دون غيرهم، هي حجر الأساس لمرحلة العبور التي نجح فيها حزب العدالة في الانتقال من مواجهة الحرس القديم إلى تأسيس نظام جديد بالكلية دون وصاية من القضاء أو الجيش، وفي نفس الوقت ضمان مصداقية ونزاهة مؤسسات الدولة بدلًا من تحويلها من أيدي نخبة إلى أخرى، وكل ذلك يجعل عبد الله غُل بلا منازع عرّاب الديمقراطية التركية الموجودة الآن.