لكي نفهم إلى أين وصلنا فإننا بحاجة إلى استعراض تاريخي لكيف نشأت فكرة التعليم النظامي في المدارس وكيف تطورت وكيف دخلت إلى البلاد العربية.
في البداية التعليم بشكله الحالي بدأ من مصر وبعد تعديلات محمد علي التي أدخلها على الدولة المصرية، حيث بدأت الدولة في إدخال النظام الغربي بدلًا من النظام التعليمي اللامركزي الذي كان متعارفًا عليه في الدولة المصرية.
وحتى يمكننا الفهم بشكل أعمق فإننا بحاجة للعودة قليلاً للوراء لنعرف كيف نشأ التعليم في الدولة الغربية الحديثة.
نشأ التعليم النظامي بشكله الحالي خلال فترة الثورة الصناعية في القرنين الـ 18 والـ 19 حيث تم تصميم نظام تعليمي منبثقًا من الثقافة الفكرية والثورة التنويرية التي نشأت آنذاك بالإضافة إلى الاحتياج الاقتصادي للثورة الصناعية الكبرى.
فقبل ذلك كان التعليم مقصورًا على الطبقة العليا والأثرياء عن طريق معلمين خصوصين ويتم من خلالهم تدريس علوم معينة بشكل يتماشى مع الطفل أو المتعلم، ويحيط بالمتعلمين طبقة أخرى غير متعلمة تقوم على خدمتهم والقيام بالأعمال اليدوية – حيث كان كل شيء يدويًا – وتوفير الاحتياجات الأخرى.
مع قيام الثورة الصناعية والإنتاج العالي ونشأة الاحتياج للوظائف، ظهرت الحاجة لوجود أفراد متعلمين – بشكل معين – لسد الحاجة للوظائف والموظفين، ومع ازدياد الإنتاج وجدت السلع التي يجب أن يتم تصريفها وهذا التصريف لن يتم إلا عبر أفراد يعملون بشكل مستمر للحصول – ليس على الأكل والشرب وأساسيات الحياة – بل للحصول على الرفاهيات والمحافظة على كل جديد، التي تنتج بشكل مستمر أي أن الأمر أشبه بدائرة مغلقة.
وأُسس النظام التعليمي بحيث يعطي جميع الطلبة نفس المادة في نفس السن من أجل استمرار عملية توليد الموظفين والقائمين على العملية الاقتصادية، ومع مرور الوقت وتغير الزمن بدأت تظهر آثار خطيرة على المجتمعات وحرية الأفراد بسبب هذا النظام.
تطورت العملية التعليمية في الغرب ولكن بالمقابل لم يتم هذا التطوير بنفس المستوى – بل لم يتم التطوير مطلقًا – في الدول العربية، حيث استمر النظام كما هو كعملية مغلقة في إنتاج نصف متعلمين مع تنحية التعليم الديني والتعليم الثقافي العربي والتعليم الأخلاقي والاعتماد أغلب الوقت على مناهج ثقافية ومناهج أجنبية تمامًا ويمكننا رؤية ذلك في اهتزاز الهوية الثقافية لدى الأطفال.
في نفس الوقت الذى تضاعفت فيه معدلات ذكاء الأطفال والقدرة على الاستيعاب – بسبب وسائل التواصل الحديثة التي يسرت الوصول لأي معلومة – وأصبح الأطفال أكثر التصاقًا بالشاشات الإلكترونية وأكثر تشتيتًا بسبب ما يحيط بهم من مشتتات مثل (الإعلانات – الأجهزة المحمولة – التليفزيون – الإنترنت . إلخ)؛ مما أدى لظهور بعض المعيقات للعملية التعليمية مثل بعض الاضطرابات التعليمية مثل ADHD أو التوحد أو غيرها من الاضطرابات التعليمية التي تصيب الأطفال، أي أن النظام التعليمي بهذا الشكل أصبح لا يلبي الاحتياج التعليمي ولا الاحتياج التربوي – مع ازدياد ازدحام الفصول – ولا الاحتياج الأصلي – وهو توفير موظفين – إذ إن الوضع تغير تمامًا ولم تعد الشهادة ضمان للعمل خصوصًا مع الانفجار السكاني.
وفوق كل ما سبق فإن هذا النظام التعليمي جعل الدولة – بكافة أشكالها – تسيطر وبشكل مبالغ فيه على أرواح المتعلمين – يمكننا أن نتخيلها كشبح هائل يبتلع أرواح الأطفال يخبرهم عما يجب أن يفعلوه وما لا يجب أن يفعلوه عما يجب أن يتعلموه وما لا يجب أن يتعلموه، ومع وجود غريزة القبول الاجتماعي social acceptance – حيث يطمح الإنسان وبشكل غريزي للحصول على قدر معين من القبول والرضا من قِبل المجتمع المحيط به أصبح الترويج لهذا النظام التعليمي والسلع المحيطه به بل وكنظام دولة أكثر سهولة وأكثر فعالية.
ولكن كيف كان النظام التعليمي في الدول العربية والإسلامية قبل ذلك؟!
اعتمد نظام الدولة في المنطقة العربية والإسلامية على نظام الوقف، حيث كانت الاحتياجات الأساسية للمواطنين مثل (الصحة – التعليم وغيرها) بعيدًا عن مركزية الدولة؛ لذلك كثيرًا ما كنا نجد أن انهيار النظام السياسي في دولة ما لا يعني بالضرورة انهيار الحضارة وما يتبعه من انهيار للتعليم والصحة خصوصًا.
فعلى سبيل المثال في الدولة العثمانية حيث بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها في القرنين الـ 16 والـ 17، كان النظام التعليمي وقتها معتمدًا على عدة أنواع من المدارس أولها هي المدارس الدينية التي أُنشئت في البداية في المساجد أو ملحقاتها ثم انتقلت بعد ذلك لمبانٍ مستقلة وكان الهدف من هذه المدارس تخريج عاملين في المؤسسات القضائية والدينية كالقضاة والمدرسين والمفتين، وكان المستوى التعليمي في هذه المدارس عاليًا جدًا لما يتمتع به مدرسوها من كفاءة عالية في العلوم الدينية، ناهيك عن العلوم الدينية فقد كان يتم تدريس العديد من المواد في ذلك الوقت كالفلسفة والمنطق، الرياضيات، الفلك، الهندسة والتاريخ. *
ثاني أنواع المدارس هي مدارس السراى التي أُنشئت لتعليم أولاد العائلة العثمانية، وإعداد موظفين للعمل في السراي.
أما المدارس العسكرية لإعداد ضباط عسكريين وموظفين لدوائر الدولة، ومدارس الموظفين التي أُنشئت لإعداد موظفين من غير الأتراك وعلى وجه الخصوص من الأسرى والمماليك للعمل في دوائر الدولة، وأخيرًا المدارس الأهلية ومنها مدراس الصبيان.
بالإضافة إلى ما عُرف بمدرسة إسطنبول الكبرى وهي المدرسة التي أنشأها السلطان محمد الفاتح كأول جامعة وكانت تدرس أربعة علوم أساسية (الدينية والأدبية والرياضية والطبيعية).
غير أن التعليم الحديث لم يدخل الدولة العثمانية إلا عام 1839م حيث تغيرت هيئة التعليم للهيئة الغربية التي تحدثنا عنها سابقًا.
وكما نرى فإن التعليم في الدولة العثمانية راعى خصوصيات الدارسين وكانت طريقة التدريس تعتمد على الطالب نفسه وقدرته على الاستذكار والبحث والمطالعة فكان الناتج مختلفًا عن المدارس العامة الحالية.
كان التعليم بشكل عام خارج سيطرة الدولة بل كثيرًا ما انطلقت الثورات والمعارضات من قلب المدارس الدينية وبقيادة المعلمين والشيوخ وأنتج هذا النمط من التعليم نوع من أنواع الموازنة بين سلطة الدولة وسلطة الشعب وتوفير قدر أكبر نسبيًا من الحرية الفردية.
في المقال القادم سنستعرض كيف تتغير الآن النظم التعليمية في الدول الغربية بالخروج بأنماط مختلفة للتعليم وما هي نتيجة هذه الأنماط الجديدة.
————————————–
* تاريخ التعليم في الدولة العثمانية، د.مؤيد حمزة