تميزت الثورة الليبية بطابعها المسلح الدموي الذي أتى كنتيجة لتعامل نظام القذافي بوحشية مع مطالب المحتجين في أيام الحراك الأولى، ورغم النجاح في إزاحة رأس النظام الدكتاتوري والمضي في عملية سياسية استبشر بها الجميع خيرا، سرعان ما تولد صراع جديد في الداخل الليبي ليصبح الإقتتال الداخلي أزمة الأزمات.
مشهد معقد خضع ويخضع إلى محاولات عديدة للتفكيك والتشخيص، ولئن كانت أغلب القراءات المقدمة في هذا السياق سياسية المنطلق، يبدو أن عمق المشكل يعود إلى ما هو أعمق من تفاصيل الآني، فالمشكل الليبي هو في الحقيقة ترجمان لغياب ثقافات أساسية أدى غيابها في المجتمع إلى غياب أدوات بناء الحل الشامل.
نورد في هذا التقرير ما اعتبره الدكتور منصف وناس محركا ثقافيا للأزمة، وهو جملة من الثقافات الإجتماعية التي أدى عدم رسوخها إلى ما آلت إليه الأوضاع.
ثقافة المصير الواحد/المشترك
لم تفلح أغلب الأنظمة العربية، غداة الإستقلال، في تجذير ثقافة المصير المشترك في مجتمعاتها وفي تكريسها كفلسفة تحتضن مختلف التعبيرات السياسية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال غياب ذلك الشعور والوعي بالحاضر والمستقبل المشتركين، ومن خلال انعدام الوعي بأن الخلافات والمشاكل الداخلية يمكن حلها صلب الوطن الواحد وتحت سقف ضرورات العيش المشترك.
وعلى عكس ما شهدته دول غربية مثل فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر من دفع نحو صياغة وعي جمعي بقيمة المصير المشترك كأحد الثوابت التي تكرس مبدأ التعايش على الرغم من الإختلاف، كانت ليبيا كباقي الدول العربية بعيدة عن إنتاج هكذا وعي ما سمح بظهور فؤوس الهدم الخارجية التي تدمر أكثر مما تبني.
إن ثقافة المصير الواحد/المشترك داخل كل قطر هي مفتاح العدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروات كما أنها تولد ثقافة مهمة في سياق بناء الأوطان، وهي ثقافة تثمين عبقرية الشعوب.
ثقافة تثمين عبقرية الشعوب
وعند الإكتفاء بالملاحظة السياسية للتقدم الذي شهدته الدول الغربية ونجاحها في إدارة الخلاف داخلها، نجد أن الثقافة الأولى، ثقافة المصير المشترك، ولدت ثقافة ثانية هامة وهي ثقافة تثمين عبقرية الشعوب.
لا يخلو قطر من مشاكل وأزمات، إلا أن توفر الوعي بوحدة الحاضر والمستقبل يدفع نحو ترك الفرصة للشعوب لبناء الخيال السياسي ولاقتراح حلول لأزماتها وصعوباتها وأن تساهم في بناء حلول وبدائل وأن تعمل على تجنب أي سيناريو للتدخل الخارجي.
وفي هذا السياق، يقدر البعض بأن التدخل الخارجي كظاهرة هو مهم، إلا أنه مرتبط بثلاث ظواهر سلبية وهي أن المتدخل الخارجي يفرض تصوراته على الطرف الذي يتدخل من أجله، كما أنه لا تدخل إلا لصالح المُتدخل،بالإضافة إلى أن مجمل التدخل في العالم ضمن السياق الحديث أفضى إلى خراب الأوطان والنفوس حيث يولد كتلا هائلة وممتدة جغرافيا من الأحقاد.
إن الشعوب قادرة، متى ثمنت عبقريتها، على أن تجترح الحلول – كما يقول العلامة ابن خلدون- اعتمادعلى نخبها ومثقفيها، وعديدة هي الشعوب التي نجحت في بناء نهضتها وازدهارها دون استدعاء عامل التدخل الخارجي.
ثقافة معالجة الأزمات السياسية والحوار
وبالنظر إلى عقود التجهيل السياسي التي مرت بها الشعوب العربية ، وليبيا لم تكن استثناء، فانه من الطبيعي أن نجد عجزا في إدارة الإختلاف بين مختلف المشارب الفكرية والتيارات السياسية.
إن المشكل الليبي، في بعض جوانبه، يعود إلى غياب تجذير الممارسة السياسية في المجتمع، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام الإقتتال المسلح كسبيل لحل النزاعات الداخلية وتحجيم قدرة النخب على قيادة هذا الحراك الفوضوي.
ليبيا تحتاج لأن تعتمد الحوار السياسي بديلا عن الصراع المسلح الذي تستفيد منه مجموعات ضيقة في الداخل والخارج، والحوار يُؤسس تدريجيا ويبنى على تنشئة الأجيال على الإيمان بفضائله وإيجابياته.
على جميع الأطراف في ليبيا أن تقتنع بأن الجنوح إلى الحوار ليس علامة ضعف ولا وهن ولا تنازل، بل إن الحوار هو علامة قوة ووعي بمصلحة البلاد والعباد.
ثقافة الدولة
ثمة اختلافات في قراءة الدولة، وثمة من يرى أنها أنها عبءعلى المجتمع ويمضي في القضاء على هذا المفهوم، خاصة إذا ماكان يرنو نحو تلخيص الدولة في شخصه؛ القذافي كان حريصا على تدمير هذا المفهوم.
وحين نتأمل الواقع اليوم، نخلص إلى أن المجتمعات التي لا تملك دولة قوية أو قوية جزئيا، لم تفلح في ترشيد أزماتها لأن غياب الدولة يفتح الجغرافيا السياسية على تعبيرات جديدة كالميليشيات المسلحة والكتائب.
الدولة بما هي ضرورة اجتماعية، كما قال ابن خلدون، هي ثقافة ووعي سياسي. وحينما نتابع الوضع الليبي بعيدالإستقلال في ديسمبر/كانون الأول 1951، نلاحظ عدم الإشتغال على جعل الدولة واقعا ثقافيا وسياسيا معيش، صحيح أن الواقع ما قبل القذافي كان أفضل، إلا أنه في المحصلة يمكننا الجزم بأن مفهوم الدولة يسجل غيابه بقوة في الثقافة المجتمعية الليبية وهو ما يفسر الانهيار المسجل ويمكننا الحديث بأننا إزاء بيئة طاردة/مضادة للدولة ومؤسساتها، شجعت على بروز كتل بشرية بديلة.
ولا أدل من ذلك – قيمة ثقافة الدولة في تجاوزالأزمات- هو الفرق الواضح المسجل بين الوضع في تونس مثلا والوضع في ليبيا، فالدولة عنصر معدل ووازن ومهم في الأزمات الكبرى.
ولانبالغ إن قلنا بأن الرهان الليبي اليوم يكمن في توطين مفهوم الدولة في المخيال الجمعي، وهو ما يحتاج استثمار لأجل تكريس هذه الثقافة Culture of state.
ثقافة تقديس مقدرات وذاكرة الشعوب
من جهة أخرى، تعاني ليبيا من غياب ثقافة تقديس ثروات الشعوب وثقافة الحرص على عدم اتلافها انسجاما مع ما سبق من ثقافات، فحينما تغيب الدولة ويغيب دورها المعدل،وحينما يغيب الوعي بوحدة الحاضر والمستقبل، تبرز هذه الظاهرة : ظاهرة التلاعب بأرزاق الشعوب.
أن يمضي طرف لقصف آبار بترول يشرف عليها الطرف المقابل، حينما يباع البترول الليبي بأزهد الأثمان رغم أنه أجود الأنواع في العالم، كل هذا يؤكد غياب ثقافة تقديس موارد الشعوب.
في ذات السياق، حينما نلحظ هذا التلاعب بأرشيف المجتمع الليبي، رغم أننا إزاء بلد أرشيفاته ضعيفة وغير منظمة، وبغض النظر إن كان هذا التلاعب تجارة أو غباء، لا يمكن إلا أن نستنتج أننا أمام ثقافة تهدر ذاكرة الشعب الليبي عبر اتلاف أو التفويت في هذه الأرشيفات.
ثقافة تعلم الدروس واستنتاج العبر ومراكمة الخبرات
ومن خلال الإستماع إلى خطب السياسيين في ليبيا، لا نلمس رغبة في الإستفادة من النتائج الكارثية التي تشهدها ليبيا اليوم كمحصلة لمسار سياسي غير عقلاني.
الشعوب الحية مطالبة دائما بأن تراكم الخبرات، وأن تبني على تجاربها خلاصات توجهها في اختيار أقوم المسالك بما يصب في مصلحتها العامة؛ إن أي مستقبل للشعوب ينطلق تشييده في الحاضر وهو ابن الماضي، وان لم نستخلص الدروس والعبر ولم نراكم التجارب ولم نطور أداءنا السياسي على ضوء تجاربنا السابقة، تصبح الرغبة في إعادة البناء والنهوض أمرا مستحيلا.
العدالة التصالحية
تحتاج ليبيا اليوم إلى تهدئة الخواطر والمضي نحو عدالة تصالحية عوض العدالة الإنتقامية حتى تفكك أمواج الضغائن التي تحرك الإقتتال الداخلي.
والعدالة التصالحية هي ثقافة ضرورية لتحقيق العدالة الإنتقالية بين الجهات والقبائل، فأولوية الأولويات اليوم هي إيقاف تدفق الدم من خلال خلق ثقافة مضادة لثقافة الدم.