التأمت اليوم الجمعة بمجلس نواب الشعب التونسي جلسة المائة يوم الأولى لعمل الحكومة، قدم فيها الحبيب الصيد ملخصا لعمل حكومته خلال الفترة الماضية وتشخيصه لواقع البلاد، بالإضافة إلى ملامح برنامج عملها خلال الفترة المقبلة.
واستهل الصيد خطابه بالإشارة إلى أن فترة الأيّام المائة الأولى لا تعدو أن تكون فترةَ إمهال وأنه من المفروض أن يتركَ فيها المجال للحكومة كي تنظم دواليبها، وتحكـم سير عملها ببلورة أولويّاتها، وتحديد أهدافها دون ضغوطات أو تعطيلات، وفق تعبيره. وأضاف :” لقد بدأ تقييمَ عمل الحكومة، ووجّهت لها سهام الانتقاد، وحتى الحكم على النوايا منذ الأسبوع الأول من تشكيلها و تقبلنا كل ذلك بصدر رحب، واعتبرناه من تجليات الديمقراطية، وحرية الرأي والفكر والتّعبير التي نحرص على صيانتها وترسيخها.”
وأشار الصيد إلى أن الحكومة واجهت منذ اليوم الأوّل لمباشرتها مهامها وضعيات حرجة، ومستجدّات ظرفيّة، وأحداثا طارئة، اضطرها للانكباب عليها والعمل على معالجتها تباعا. معتبرا أن البلاد تواجه مخاطر عدة في مقدمتها ظاهرة الإرهاب الذي يهدف إلى زعزعة الأمن وبث الفوضى وضرب الاقتصاد الوطني وتعطيل حركيـّة التنمية والتقدّم.
وإلى جانب خطر الإرهاب، قال الصيد أن الحكومة واجهت وضعا اقتصاديا وماليا مترديا، تفاقم من سنة إلى أخرى، ظهرت تجلياتُه في ضعف نسبة النمو وتعمق أزمة المالية العمومية، وتدهور التوازنات، وخطورة الوضعية المالية لأغلب المؤسّسات والمنشآت العمومية، وتراجع ملحوظ للترقيم السيادي لتونس.
كما أرجع الصيد الأزمة الإقتصادية إلى استفحال ظاهرة التجارة الموازية التي أثرت سلبا على موارد الدولة وتنافسية المؤسسات الاقتصادية المهيكلة، مشيرا إلى أن الاقتصاد الموازي (الإقتصاد القائم على التهريب) يتسبب في خسارة للدولة تتجاوز المليار دينار سنويا.
وقال رئيس الوزراء أن التحريات أثبتت أنّ عددا من المهربين استغلوا احتجاجاتٍ سلمية، لتوتير الأوضاع، والزيادة في الاحتقان، والتحريض على العصيان قصد خلق حالة من الفوضى والفراغ وتشتيت جهود الوحدات الأمنية للتغطية على ما يقومون به من عمليات تهريب.
وفي علاقة بالمسألة الإجتماعية، قال رئيس الحكومة التونسية بأنه تم الحرص على تحسين الأوضاع المادية لسائر الأجراء، وهو ما تجلّى من خلال الزيادات الأفقية الموحدة، في أجور كافة أصناف العاملين في الوظيفة العمومية، والقطاع العام بعنوان 2014 بكلفة قدرها 550 مليون دينار بالإضافة إلى مراعاة الأصناف ذات الدّخل المحدود والمتوسّط حيث أنّ نسبة الزيادة تراوحت بين 4 بالمائة و 8 بالمائة لهذه الأصناف، في حين كانت في حدود 1 بالمائة بالنسبة إلى الأصناف ذات الدّخل المرتفع كما تمّ إقرار الترفيع في الأجور الدّنيا لمختلف المهن وذلك بعد التشاور مع المنظمات المهنية المعنية.
وأشار الصيد أن المالية العمومية إذا تواصلت على وضعيتها الحالية لن تسمح بزيادات في الأجور لهذه السنة (زيادات الأجور موضوع مفاوضات بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل).
وفي إطار المحافظة على التّوازنات المالية لصناديق الضمان الاجتماعي، وباعتبار الوضعية الحرجة التي تعرفها أنظمة التقاعد، أعلن الصيد بأنه سيقع بالتّشاور مع الأطراف الاجتماعية، دراسة الاجراءات الضرورية العاجلة الواجب اتخاذها، من ضمنها الترفيع الاختياري في سنّ التقاعد في مرحلة أولى، على أن يقع التعمّق في إصلاح منظومة الضّمان الاجتماعي (منظومة المعاشات في تونس والتغطية الصحية العمومية) في مرحلة لاحقة.
وحول المنوال التنموي للبلاد، قال الصيد أن كل التونسيين متفقين على محدودية المنوال القديم، وبأن الإقلاع الإقتصادي لا يمكن أن يتحقق دون تسجيل معدلات نمو تفوق 5 بالمائة وهو ليس ممكنا إن لم تمض البلاد في إصلاحات اقتصادية كبرى على المدى المتوسّط. وقال الصيد أن هذه المراجعة للمنوال التنموي ستتم وفق رؤية ومنهجية وأهداف واضحة، في إطار المخطط الخماسي القادم (2016-2020) الذي شرعت حكومته في الإعداد له، من خلال الإنكباب على صياغة وثيقته التوجيهية، التي ستُعرض على استشارة موسّعة.
يرتكز المنوال التنموي المنشود، بحسب رئيس الحكومة التونسي، على التكامل والترابط بين القطاع العمومي، والقطاع الخاص، والاقتصاد الاجتماعي التضامني. كما يرتكز على القطاعات والأنشطة ذات القيمة المضافة، والمحتوى التكنولوجي والرّقمي، وعلى تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني، بما يمكّن من الترفيع في نسق النموّ وتوسيع آفاق التشغيل خاصة لفائدة أصحاب الشهادات العليا، منوال، بقدر ما يحفّز على مراكمة الثروة، تلتزم فيه الدولة بضمان الحياة الكريمة لكافة المواطنين والإحاطة اللاّزمة بضعاف الحال وتأمين التنمية المستدامة للأجيال القادمة.
وسيتضمّن المخطط القادم ، وفق كلمة الصيد، برامج ومشاريع مهيكلة على الصعيدين الوطني والجهوي، وإصلاحات عميقة تشمل عديد المجالات: الأفقية، والرأسية.
ومن بين المشاريع التي أشار إليها الصيد في كلمته أمام البرلمان التونسي، توسيع شبكة الطرقات السيارة حيث تتطلع الحكومة إلى أن يمرّ طول الطرقات السيارة من 356 كلم، إلى 1000 كلم في حدود سنة 2020، كما سيتم بالتوازي توسيع وتطوير شبكة الألياف البصرية. وستشمل البرامج كذلك، تطوير البنية الأساسية الصناعية والتكنولوجية، خاصة في الجهات الداخلية من خلال تكثيف المناطق الصناعية والأقطاب التكنولوجية، والمراكز الفنية، إلى جانب دعم المناطق اللوجستية والموانئ.
وسيتم في السياق ذاته، تجسيم برنامج “تونس الرقمية 2018” الذي سيمتدُّ إلى سنة 2020، بهدف ربط جميع الأسر التونسية بشبكة الأنترنت ذات التدفّق العالي، وتعميم المدرسة الرقمية، وتطوير صناعة المحتويات الرقمية الوطنية ذات القيمة المضافة. وتتضمّن الخطة التنموية القادمة كذلك: إنجازَ محطاتٍ لتحلية مياه البحر، وتوسيع شبكة الخطّ الحديدي في اتجاه المناطق الداخلية وتهيئة واستغلال ميناءٍ بالمياه العميقة، ومنطقةِ أنشطة لوجستية بالنفيضة، وتطوير مشروع تبرورة (في محافظة صفاقس)، وتعزيز الشبكة الوطنية للكهرباء والغاز.
وأشار الصيد إلى جملة من الإصلاحات التي ينتظر منها أن تحسن في مردودية الإنتاج الإقتصادي للبلاد، ومن بينها وضع إطار قانوني ومؤسّساتي جديد للشّراكة بين القطاعين العام والخاص و إصلاح النظام الجبائي والإدارة المعنية به وإصلاح المالية العمومية من حيث البرمجة والتصرّف، والمراقبة والتقييم، عبر برنامج التصرّف في الميزانية حسب الأهداف، إضافة إلى إصلاحات لتبسيط الإجراءات الإدارية، وخاصة المتّصلة بالمعاملات الاقتصادية والاستثمار، وذلك ضمن برنامج “المقصلة الإجرائية” الذي يُغطّي أكثر من 1000 إجراء، كما أشار الصيد إلى شروع الحكومة في إعداد مجلة جديدة للإستثمار.
تونس تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تشمر عن ساعد الجد من أجل النجاح في تحقيق إزدهار اقتصادي يتلاءم مع نجاحها في تحقيق منجزات هامة على المستوى السياسي، إجراءات وبرامج تبدو واعدة، لكنها ستحتاج تضامنا وطنيا بين مختلف الفاعلين الإجتماعيين والسياسيين في البلاد من أجل ترجمتها على أرض الواقع، كما أنها تحتاج هبة واسعة من أجل التحريض على العمل والإنتاج ففقط الأمم التي تعمل تتقدم، وكما قال الصيد في ختام كلمته، لا معنى لهذه الإجراءات إن لم تقترن بالإنصراف إلى العمل والإنتاج.