ما أصعب أن تكتب في بلد يعتبر التفكير جريمة وطلب الحرية خطيئة
أسئلة كثيرة تتوارد على الخاطر عندما يتأمل المرء ما يجري في العالم العربي، وتتراءى له أبعاد هذه الحرب الضروس التي وقودها الإنسان العربي وأرضه ودينه وحاضره ومستقبله، ولو كان هذا الذي يحدث من صنع أعداء خارجيين، لما كان هناك من داع للاستغراب، ذلك أن العدو لا يمكن أن نتوقع منه إلا ما يسوء، لكن أن يتم هذا الإفساد بأيدي أبناء هذا البلد ممن يقيمون بين ظهرانينا، ويتكلمون بألسنتنا ويكونوا في إضرارهم بالوطن وأهله أشد من أعدى الأعداء، فهذا ما يدعو إلى الحيرة وتنفطر له القلوب أسى وحسرة.
هل الفساد صنعة لها فنونها وأساليبها وأدواتها ورموزها وخبرائها وحراسها؟ وهل له سوق تزدهر فتنتشر أو تبور فتنكمش وتنكسر؟ وما هي العوامل التي تتحكم في تمدده وانتشاره أو تراجعه وانحساره؟ قد يكون من المفيد أن يتطوع من يؤلف لنا كتابًا عن “صناعة الفساد” يقدم لنا فيه إجابة على الأسئلة السابقة ويشرح فيه بالتفصيل كيف يمسك الفساد، حين يتمكن أو يمكن له، بخناق الوطن ويحيل الحياة فيه إلى جحيم، يلوث الأدب والفنون والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من الميادين، ويتضرر منه الإنسان والطير والحيوان وحتى الجماد.
رب قائل يقول إن الفساد ظاهرة عالمية ولا يمكن أن يسلم منها مجتمع من المجتمعات، وحتى الدول المتقدمة لها من ذلك نصيب، يطفو فيها بين الفينة والأخرى في صور فضائح مالية أو أخلاقية أو سياسية تتناقلها وسائل الإعلام، وتعرض أمام المحاكم، وقد يكون المتورطون فيها من الشخصيات البارزة، وربما حتى من كبار المسؤولين في تلك الدول.
لكن الأمر عندنا في وطننا العربي والإسلامي يختلف، إن الذي يراقب أوضاع العرب، ويتمعن في السياسات المعتمدة، وفي أساليب التدابير المطبقة، وفي الممارسات التي تكاد تصبح مألوفة في الإدارة والقضاء والتعليم والصحة وغيرها من القطاعات، ليتملكه العجب من حجم الفساد الموجود فيها، والذي ما انفك ينتشر، ولا يبدو أنه في الظروف الراهنة، سيقف عند حد معين أو يقتصر على صورة محددة.
فلو جلست إلى مقاول أو طبيب أو محام أو إداري أو قاض أو رجل تعليم أو غيرهم من أصحاب الأيادي النظيفة ليحدثوك عن المجالات التي ينتسبون إليها وما تعرفه من فساد، لسمعت العجب العجاب؛ قصص لاتكاد تنتهي فيها من ألوان الفساد ما يمارس بشكل فج، وفيها ما هو أغرب من الخيال.
لا يتسع المجال لاستعراض أخبار الفساد والمفسدين، بل وأنى لنا ذلك والحال أنه لا يوجد مجال واحد لم يتسلل إليه الفساد، أو بقي في مأمن من عبث العابثين، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن بلدنا أصبح لديه خبراء كثر في الفساد والإفساد، يعرفون كيف يتسللون إلى مواقع حساسة لتمرير سياسات تكرس هذا الوباء، وتمكن لشروط تجذره واستمراره وامتداده في دواليب الحكم والإدارة، وفي القضاء والتعليم والصحة والاقتصاد وفي مختلف المرافق.
يقول المفكر الفرنسي لابويسي في القرن الـ 16 “إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم، كلما وجدت حطبًا زادت اشتعالاً ثم تخبو وحدها دون أن نصب ماء عليها، يكفي ألا نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما تهلك تهلك نفسها وتمسي بلا قوة وليست نارًا، كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا، كلما دمروا وهدموا، كلما موناهم وخدمناهم زادوا جرأةً واستقووا وزادوا إقبالاً علي الفناء والدمار، فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا، بلا حرب ولا ضرب، عرايا مكسورين لا شبه لهم بشيء إلا أن يكون فرعًا عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوي”.
هذه كلمات السابقة للقاضي إيتيان دو لا بويسي، الذي طرح على نفسه سؤالاً، بقدر بساطته بقدر صعوبة الإجابة عنه، كيف يستطيع شخص التحكم في رقاب الملايين ممن يسميهم “رعاياه”، فجاء الجواب على شكل مقالة سرية تداولتها النخب التي ترمي إلى التغيير، وكان ذلك سنة 1548 حيث كانت أوروبا تعيش تحت نير الاستبداد وخاصة فرنسا.
واعتبرت مقالته بمثابة رسالة ضد حكم الفرد تحت عنوان: مقالة في العبودية المختارة/ الطوعية، وكانت كلما اشتد الاستبداد وقويت شوكته كلما برزت مقالة لابويسي واكتسبت راهنيتها إلى يومنا هذا، والكتاب على صغر حجمه مفيد في بابه، وجدير بالقراءة ليس فقط لما يحتويه من نظرات ثاقبة وملاحظات دقيقة، ولكن أيضًا لكونه كتب قبل أربعة قرون من الزمان، مما يؤكد أننا بصدد ظاهرة لها منطقها الذي لا يتغير في جوهره وإن اختلف الزمان والمكان
لنتأمل النص التالي الذي يتحدث فيه عن كيفية انتشار الفساد؛ يقول:”أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه ويشدون البلد كله إلى مقود العبودية، يتقربون أو يقربهم إليه، ليكونوا شركاء جرائمه، وقواد شهوته ولذته، هؤلاء الخمسة أو الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، وينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يفسدون معهم ستة آلاف تابع، يوكلون إليهم مناصب الدولة والتصرف في الأموال، ويتركونهم يرتكبون من السيئات ما لايجعل لهم بقاء إلا في ظلهم، ولا بعدا عن طائلة القانون إلا عن طريقهم ليطيحوا بهم متى شاؤوا، ليصبح ليس فقط الستة أو الستة آلاف بل الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل، لو شده لجذبهم كلهم إليه، فصار خلق المناصب الجديدة، وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل ذلك لا من أجل العدالة، بل من أجل أن تزيد سواعد الطاغية، فإذا الذين ربحوا من الطغيان يعادون في النهاية من يؤثرون الحرية، فما إن يستبد ملك حتى يلتف عليه حثالة المملكة وسقطها، ليصبحوا أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير”.
أترك للقارئ أن يتأمل هذا النص جيدًا الذي اختطته أنامل لابويسي ليستخلص ما يمكن استخلاصه من ملاحظات، لتكتمل الصورة التي يعرضها هذا الكاتب عن أصول الفساد وآليات نشره وانتشاره، وعن البيئة الحاضنة لتجذره واستفحاله.
ويكفي أن أسجل هنا إحدى الخلاصات الهامة التي انتهى إليها جل من تناول ظاهرة الفساد، وإن تعددت زوايا النظر من مؤرخين ومفكرين وفقهاء وفلاسفة، ومفادها أن الفساد والاستبداد صنوان لا يفترقان، وحيثما حل أحدهما، قال له الآخر خذني معك أو حل بجانبه.