لا بد لكل مجتمع من نخبة تعتلي سدته، فتمثل الجماهير وتقودهم في نفس الوقت، وغالبًا ما يفرز المجتمع نفسه تلك النخبة، وأعني هنا النخبة الاجتماعية، وكانت في المجتمع السوري تتكون في معظمها من مشايخ الدين أو بعض مشايخ العشائر، وتشكلت تلك “النخبة” لأسباب عديدة وساعدت على تشكلها عوامل تاريخية كثيرة، وما يهمني هنا هو لفت النظر إلى انعكاس ذلك وآثاره في المجتمع وطريقة تعاطيه للقضايا الشعبية العامة والمصيرية.
طبيعة المجتمع تتناسب بالضرورة مع شكل السلطة الحاكمة، ومن العبث هنا أن نظن أن الاستبداد قد فُرض علينا وأننا أُجبرنا عليه، لقد كان طبيعيًا جدًا في ظل غياب دور المجتمع في أن يظهر دور الفرد الواحد، ولا يكون الفرد إلا مستبدًا، لقد كان يجب ملئ ذلك الفراغ في وقت من الأوقات، ولم يكن تضخم دور فرد واحد واستفراده بذلك الفراغ، إلا نتيجة طبيعية لجهل المجتمع بدوره، وبالتالي تخلفه عن تحديد ذلك الدور، من يحكم وكيف يحكم ومتى وكيف يعزل، إلى آخر تلك التفاصيل المبهمة بالنسبة للشعب والمختلف عليها بين النخبة.
لقد كان الفرز الاجتماعي الطبيعي يبرز ممثلين عن المجتمع في كل مكان وضمن كل فئة، وذلك تبعًا لعادات وتقاليد اجتماعية ودينية، حتى أمكن اختصار المجتمع في حفنة من الأشخاص، جيدين كانوا أم سيئين، ولكن تمثيلهم الاجتماعي للشعب كان شكليًا، بينما كان ذلك الظهور يعزز الثقافة الفردية في وعي الشعب ويلغي دور المجتمع، لقد كان أفراد “النخبة الدينية” هؤلاء هم من يسوقون جماهير الشعب في آرائهم وميولهم، وكانت الجماهير تسير وراءهم دون أن تكلف نفسها عناء البحث والسؤال والتقصي، وكان كلامهم باسم الدين يعطيهم المصداقية التي تفتح لهم قلوب الناس، لكن الزمن جرى سريعًا، وها هو يخبرنا الآن أن نظرة المُخَلِّص اللاواعية التي كانت الجماهير ترمق بها هؤلاء الناس أضحت وبالاً عليهم وعلى هؤلاء النخبة، لقد صنعت من الجماهير عبيدًا، بينما نصبت بعض هؤلاء النخبة طغاةً أو أعوانًا لهم إلا من رحم الله!
لقد كانت تلك النخبة تتجسد في مشايخ الطرق الصوفية أو التيار المشيخي أو حتى قيادات في حركات إسلامية، وما ذلك إلا تطبيقات اجتماعية عملية لتلك الثقافة التي تلغي دور الشعب وتعزز دور النخبة، لقد عززت ثقافة التابع والمتبوع، وكانت تلك هي الأساس الذي بُني عليه الاستبداد السياسي كنتيجة طبيعية.
يمكننا استنتاج شيء في غاية الأهمية هنا، وهو أن مجتمعًا هذه هي ثقافته لا يمكنه أن يمارس الديمقراطية بشكلها الصحيح أبدًا، وذلك لأن الديمقراطية هي تجلٍ من تجليات الثقافة الفردية في المجتمع، والتي نفتقدها في مجتمعاتنا بشكل كبير وواضح، وليس في ذلك بأس كبير كما أرى، إلا إذا افترضنا أن الديمقراطية هي أنسب طريقة للحكم، ولا يبدو ذلك على أرض الواقع وإنما هي كما يقول أحدهم: “الطريقة الأقل ضررًا”.
لقد عملت الثورة على صدم المجتمع صدمة قوية هزت كيانه ولامست كل فرد منا في ذاته، ولكن ذلك لم يساهم – إلى الآن على أقل تقدير – في خلق ثقافة تعزز دور الشعب، وتجعل من المجتمع عنصرًا فعالاً في الوقائع على الأرض، وأعني بذلك قدرة المجتمع ووعيه بأهمية رفضه وقبوله لكل من يمارس عليه أي نوع من أنواع السلطة، مع اعتبار ذلك واجبًا عليه يتحتم عليه القيام به، وليس حقًا يستلزم عليه المطالبة به.
لقد ألغى الشعب السوري من حياته كل تلك الأصنام في ذات الوقت الذي أعلن الثورة، ولكن وعلى ما يبدو أن أصنامًا أخرى تُنصب أمامه في الوقت الحالي، ويمهد لها الطريق تلك الثقافة المترسخة في وعيه، وإلا فيمكن بكل بساطة أن يلعب السياسيون في الائتلاف دور مشايخ العشائر، بينما يخرج مشايخ الدين من مساجدهم ليشكلوا مجالس وهيئات، وهو ما حدث ويحدث الآن، وليس ذلك فقط وإنما بذات الأفكار والرؤى التي عجزت عن إحداث شيء في الماضي والتي وبشكل قطعي لن تستطيع أن تغير أي شيء في المستقبل.
يبدو أن الشعب السوري في هذه المرحلة يعيش حالة انفصام ليست بالهينة، فبينما تترسخ فيه الثقافة الفردية بحكم الوقائع والظروف وتأثير العولمة، تعود النخبة القديمة – مع بعض الفروقات الشكلية – للتشكل في محاولة منها لممارسة دورها غير المجدي في تمثيل المجتمع السوري، ولا أدل على ذلك من الائتلاف كحالة سياسية والهيئات الدينية كحالة اجتماعية، وليست المشكلة في أنها تدعي تمثيل الشعب فقط، وإنما في كونها ليست إفرازًا يمثل الشعب حقيقة، بل يعتمد حضورها على إرث اجتماعي سابق اضمحل حجمه كثيرًا، إضافة إلى البُعد الديني التقليدي الذي لا يبدو تأثيره حاضرًا كما كان، أو بعض التقاليد الاجتماعية، وكل ذلك يؤذن بهشاشة ذلك البناء وذلك التمثيل الوهمي، والذي لا يلبث أن يقوضه الشعب، فقط يكفي أن يفرز تمثيله الحقيقي على الأرض.