ترجمة وتحرير نون بوست
الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يُشاد به ويُلعن على قدم المساواة تقريبًا في تركيا، قد يقع ضحية لنجاحاته السابقة، فخصومه السياسيون يخشون أن يخسروا انتخابات أخرى لصالحه، مما دفعهم للتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد في الانتخابات البرلمانية المقبلة، والمفارقة الغريبة هنا، هي أن عملية السلام التي باشرها أردوغان مع الأكراد، هي بالضبط ما جعل هذا التحالف ضده ممكنًا.
ليس سرًا أن أردوغان يسعى إلى تعديل الدستور القائم لتأسيس نظام رئاسي، وهذا التعديل لن يكون ممكنًا إلا إذا استطاع حزب العدالة والتنمية الحاكم الفوز بـ 330 مقعدًا أو أكثر في البرلمان، والتي ستسمح له بالدعوة لإجراء استفتاء على هذه القضية، ويعتبر حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، عاملًا مهمًا لتغيير قواعد اللعبة في تحديد توزيع المقاعد في البرلمان التركي في هذه الدورة الانتخابية، فإذا استطاع الحزب تجاوز عتبة الـ 10% من الأصوات التي تسمح له بالتمثيل البرلماني، فسيكون من المستحيل تقريبًا على حزب العدالة والتنمية الفوز بمقاعد كافية للدعوة إلى استفتاء لتعديل الدستور.
من الملاحظ أن حزب الشعوب الديمقراطي عمل خلال الفترة الماضية على تحويل إستراتيجيته بشكل حاد، حيث اتجه خلال الحملة الانتخابية الحالية لاستقطاب الناخبين من خارج قاعدته الكردية التقليدية، وفي المسيرة التي أجراها الحزب في 31 مايو، لم يحمل أنصار الحزب صورًا لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وإنما حملوا صورًا لمؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك.
أتاتورك كان دائمًا شخصية مثيرة للجدل بين الأكراد، وكما شرح كاتب سيرته الذاتية أندرو مانجو “السياسة الحكومية التي انتهجها أتاتروك تهدف لامتصاص واستيعاب جميع المواطنين في البلاد ضمن الثقافة التركية”؛ لذا، ومنذ تأسيس تركيا بشكلها الحديث، خرجت العديد من حركات التمرد الكردية التي تهدف إلى الاحتجاج أو الإطاحة بالسياسة العرقية الإقصائية للجمهورية التركية، والمعاملة غير الإنسانية للمواطنين الأكراد الأتراك، وأسفر التمرد الكردي عن مقتل ما ينوف عن 30.000 شخص بعد نزاع مسلح امتد لـ 30 عامًا، ما بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي.
لكن هذا الزمن قد انقضى، فبعد محاولات متعاقبة عقيمة لحل القضية الكردية، أعلنت الحكومة التي يقودها أردوغان عن تسوية سلمية شاملة للقضية الكردية، وتنطوي هذه التسوية على إجراء محادثات مباشرة مع أوجلان، الذي وصفه بعض السياسيين الأتراك منذ فترة طويلة بـ “قاتل الأطفال”، ومنح السكان الأكراد في البلاد العديد من الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية التي لطالما حُرموا منها على مدى العقود الماضية.
مبادرة الحزب الحاكم، أثارت حفيظة المعارضة التركية، التي ردت بشكل قاسٍ على هذه المقاربات الحكومية، حيث إن كلًا من حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، المؤسسان على منهج وعقيدة القومية التركية، كانا مترددان في تلبية المطالب الكردية، ويصران على تسمية حزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية وغير مشروعة، “أليست الخيانة هي أقل وصف لما يجري هنا؟” تساءل وزير البرلمان دولت بهجلي معلقًا حول محادثات السلام، التي وصفها في عام 2014 بأنها “تآمر ضد الدولة والأمة، ونسف لتضامننا ووحدتنا الوطنية”.
ولكن الآن وفي انعطاف ومفارقة حادة عن المواقف السابقة، ذات هؤلاء المعارضين لعملية السلام، يرنون إلى حزب الشعوب الديمقراطي باعتباره الأمل الأخير للوقوف بوجه هدف أردوغان في تأسيس نظام رئاسي؛ فعلى سبيل المثال، صحيفة حوريت اليومية التي تحمل شعار “تركيا للأتراك”، والتي دافعت بعناد ومنذ أمد عن الحملة القمعية والدموية التي يشنها الجيش التركي ضد الأكراد، أصبحت الآن، من خلال العديد من كتاب الأعمدة فيها، تثني علنًا على حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، حيث وصف أحمد هاكان، الكاتب الأكثر شعبية وشهرة في الصحيفة، موقف زعيم حزب الشعوب صلاح الدين ديمرتاش ضد أردوغان بأنه “خلاق، استفزازي، ومثير للإعجاب”.
والجدير بالذكر أن محاولة استخدام حزب الشعوب الديمقراطي لكبح جماح أردوغان لم يقتصر فقط على وسائل الإعلام المحلية، بل امتد ليشمل وسائل الإعلام العالمية كذلك، حيث دعت صحيفة الإيكونوميست الشهيرة الشعب التركي إلى التصويت لصالح الحزب الكردي في مقالها الافتتاحي الذي نشر مؤخرًا، قائلة “هذه هي أفضل وسيلة لوقف انجراف البلاد نحو الاستبداد”، وهذا الميل يمثل انعطافًا غريبًا لمجلة دعمت ذات مرة اتجاه المحافظين مثل رونالد ريغان، مارغريت تاتشر، وجورج دبليو بوش، ومن المستغرب الآن أن ترمي بثقلها خلف حزب اشتراكي في تركيا.
تشير استطلاعات الرأي حاليًا إلى أن حزب العدالة والتنمية سوف يفقد الأصوات لصالح حزب الشعوب الديمقراطي، والحزب النقيض لهذا الأخير المعادي للأكراد المتمثل بحزب الحركة القومية؛ فناخبو حزب العدالة والتنمية القوميون المحبطون من انفتتاح أردوغان نحو الأكراد، سيميلون إلى التحول بأصواتهم نحو حزب الحركة القومية اليميني، الذي من المتوقع أن تزيد حصته من الأصوات إلى 16% بدلًا من 14% التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية لعام 2011، أما حزب الشعوب فيتطلع إلى كسب الأصوات من كتلتين أساسيتين، وهما الأكراد الذين اعتادوا التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الماضية، والعلمانيون الأتراك من الطبقة المتوسطة الذين يصرون على إضعاف سيطرة حزب العدالة والتنمية.
استطاع حزب الشعوب الديمقراطي وحليفه حزب العمال الكردستاني تحقيق نجاحات مبهرة في حملة إقناع الأكراد أن الحكومة التركية دعمت الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة، في قتالهم للجماعات الكردية في شمالي سورية، وبلغت هذه الحملة ذروتها خلال حصار الدولة الإسلامية لكوباني، عندما دعا حزب الشعوب أنصاره لتنظيم احتجاجات في الشوارع التركية، حيث تحولت هذه الدعوة إلى اشتباكات عنيفة بين الجماعات المؤيدة والمناهضة لحزب العمال الكردستاني، وأسفرت عن مقتل نحو 50 شخصًا، وبذلك دفعت هذه الحركة الأكراد الموالين لحزب العدالة والتنمية للانشقاق عنه والانضواء لمخيم حزب الشعوب الديمقراطي.
بالنسبة للطبقة الوسطى التركية، فإن عملية السلام الأخيرة مع حزب الشعوب الديمقراطي، جعلت الأخير خيارًا صالحًا للتعبير عن المعارضة السياسية بمواجهة الحزب الحاكم؛ فوقف إطلاق النار الذي ترافق مع افتتاح محادثات السلام، سمح لحزب الشعوب – الذي كان محظورًا سابقًا بسبب ارتباطه بحزب العمال الكردستاني – أن ينأى بنفسه عن الثورة المسلحة، ويعيد صياغة الحركة كحزب يساري مؤيد للديمقراطية، ديمرتاش، على سبيل المثال، اتخذ نهجًا متعاطفًا للغاية تجاه احتجاجات جيزي بارك لعام 2013، والتي تراها الطبقة المتوسطة التركية على أنها مقاومة ضد سياسات حزب العدالة والتنمية، وعلى الرغم من أن حزب الشعوب الديمقراطي لم يتبنَ موقفًا حاسمًا حين اندلاع احتجاجات جيزي، بيد أن ديمرتاش أكد الآن على أن الاحتجاجات كانت قضية نبيلة، كما أصدر الحزب بيانًا في 31 مايو، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية للاحتجاجات، اتهم فيه الحكومة بقمع الأشخاص الذين يتطلعون لاستخدام حقوقهم الديمقراطية، وحيّى فيه حركة جيزي باعتبارها “المقاومة التي تسلط الضوء على الوسيلة المثلى لإقامة المستقبل الديمقراطي”.
رغم أن الموقف المعادي لأردوغان أفاد حزب الشعوب الديمقراطي، بيد أنه لا أحد يبدو على يقين مما إذا كان الحزب سيستطيع اجتياز عتبة الـ 10% اللازمة للفوز بمقاعد في البرلمان، حيث تقدر استطلاعات الرأي أن الحزب سيحصل ما بين 9% إلى 11% من الأصوات، مع هامش خطأ يقدر بحوالي 2% زيادة أو نقصانًا، وبالنظر إلى ما قاله لي ديمرتاش في وقت سابق من هذا العام، من أن حزبه ينسب مكاسبه في الانتخابات السابقة للأكراد الذين اعتادوا سابقًا التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، مما يعني أن الطبقة التركية المتوسطة بقيت موالية لحزبها التقليدي، حزب الشعب الجمهوري، وبالتالي نجاح حزب الشعوب في الانتخابات القادمة، يعتمد على قدرته على تحقيق مكاسب جديدة في إطار هذا التكتل الانتخابي الأخير.
على الرغم من كافة ما تقدم، يمكن لحزب الشعوب الديمقراطي أيضًا أن يصبح ضحية لنجاحاته الذاتية، فإذا فاز حزب العدالة والتنمية بأقل من 275 مقعدًا، فسوف يضطر لتشكيل حكومة ائتلافية، والشريك الأكثر احتمالًا لهذه التشكيلة هو حزب الحركة القومية اليميني، وفي حال حدث هذا السيناريو، فإنه لا يعني بالضرورة وضع نهاية لعملية السلام الكردية، ولكن مع وجود حكومة ائتلافية من هذا النوع، فإن تنفيذ المطالب الكردية ستكون مهمة صعبة للغاية، بسبب البرنامج القومي الذي سيحمله وينفذه حزب الحركة القومية.
حتى الآن يقود حزب العدالة والتنمية حملة انتخابية ذكية، حيث يعمل على دق ناقوس الخطر أمام جمهوره حول انخفاض أصوات الحزب بشكل كبير، ملمحًا بذلك إلى إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية، وهذا الواقع يحظى بذكريات مؤلمة للغاية بالنسبة للشعب التركي، الذي يتذكر بأسى الحكومات الائتلافية التي هيمنت على تركيا في فترة التسعينيات، وارتبط مفهومها في ذاكرته الجماعية بالأزمات الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، والجمود، الذي ساد الدولة في تلك الفترة.
أخيرًا، السيناريو الذي سينجم عن جميع ما تقدم في يوم الانتخابات لايزال غير واضح، ولكن الملاحظة التي كتبها وليام شكسبير في مسرحيته، العاصفة، تبدو بلا شك مألوفة للسياسيين الأتراك “البؤس يجبر الرجل على أن يتشاطر سريره مع أشخاص غريبين”.
المصدر: فورين بوليسي