لماذا يجب على الغرب التحاور مع إيران؟

Tehran-residents-celebrat-009

ترجمة وتحرير نون بوست

الأزقة المغطاة بالظلال في بازار طهران الكبير دائمًا ما تعج بالحشود، وعلى الرغم من استياء أصحاب المتاجر، فإن معظم هؤلاء الأشخاص الذين يضجون المكان، يهيمون فيه متفرجين فقط دون شراء أي من البضائع، كون العقوبات المفروضة على إيران خفّضت القوة الشرائية للعملة الإيرانية، ومما زاد الطين بلة، سوء إدارة البلاد عمومًا والاقتصاد خصوصًا في عهد أحمدي نجاد، حيث ارتفع التضخم إلى 45% في منتصف عام 2013، أما الآن وفي ظل حكم حسن روحاني، الذي اُنتخب رئيسًا قبل عامين من الآن، انخفض التضخم حتى 15%، ومن المتوقع أن يحقق الاقتصاد نموًا هذا العام يبلغ 1%، وفي حال تم رفع العقوبات، فإن البنك المركزي الإيراني يتوقع دفعة اقتصادية قوية ترفع النمو الاقتصادي بـ 2% إضافية.

ومع ذلك، وفي ظل ظلام ومتاهة أزقة البازار، ماتزال سلعة واحدة تنبض هناك بوفرة، وهي الأمل، حيث يلتهب بصيص الأمل في أي محادثة تجريها مع كائن من كان هناك، “نحن نتمنى ونحلم برفع العقوبات، لقد عشنا ثماني سنوات سيئة في ظل أحمدي نجاد، والعقوبات تم فرضها لإنكاره حدوث الهولوكوست” قال علي، وهو صائغ كبير السن، وتابع “في ظل روحاني تحسن الاقتصاد بالفعل، وقيمة الريال الإيراني آخذة بالارتفاع، كما انخفض حجم التضخم”.

داريوس يعمل بمهنة بيع الملابس النسائية، وقبل حوالي عقد من الآن، لم يكن يُسمح له بعرض حمالات صدر النساء، حتى على جذع تماثيل البلاستيك التي ليس لها رأس ولا أرجل، ولكن عرضها الآن أصبح ممكنًا، وهذه لفتة صغيرة على ممارسة بعض سياسات التحرر التدريجي، ولكن داريس يشكو أيضًا من سوء الوضع الاقتصادي بقوله “في ظل حكم أحمدي نجاد، ولمدة ثماني سنوات، كان الاقتصاد يتراجع نحو الأسوأ عامًا بعد عام، ولكننا نأمل أن يتحسن الاقتصاد الآن إثر المفاوضات النووية”.

في شمال طهران الثري مظاهر الركود الاقتصادي تأخذ شكلًا مختلفًا، كتل شاهقة بالعلو من الشقق السكنية تقف غير مكتملة وشاهدة على ضعف الوضع الاقتصادي، مراكز بنوك بدون نوافذ مهجورة إثر الحجز عليها لتسديد قروضها، ولكن هنا أيضًا يكبر الأمل ويطرد؛ ففي مقاهي الحديقة الأنيقة التي تقع خارج المتحف السينمائي، يتمتع المشاهير بشرب القهوة بالحليب في حرارة شمس الربيع الدافئة، وهؤلاء الإيرانيون ليس لديهم مخاوف اقتصادية كبيرة رغم العقوبات المفروضة على بلادهم، ولكنهم يأملون بأنه حالما يتم التوصل إلى اتفاق نووي، فإن إعادة انخراط البلاد مع باقي العالم، ستضع حدًا لما يسمى بالخوف من إيران أو “الإيرانوفوبيا” التي يعاني منها جميعهم أمام الغرب.

أما السينما القريبة من المتحف السينمائي، فهي متخمة بالجمهور، الذي جاء ليتابع فيلم “حكايات”، الفيلم الدرامي الأحدث للمخرجة الإيرانية اللامعة رخشان بني اعتماد، المعروفة بتصويرها لنضالات الإيرانيين من الطبقة المتوسطة والفقيرة، وفيلمها الأخير الذي يتحدث عن قصص من العنف الأسري، وإدمان المخدرات، والبطالة، والطلاق، يمس بشكل حاذق الحياة السياسية العامة في البلاد؛ فبدون إشارة إلى الاحتجاجات التي جابت الشوارع في عام 2009، والتي تم اخمادها بعنف إثر إعادة انتخاب أحمدي نجاد، تصور إحدى قصص فيلم حكايا قصة أم تحاول بلا جدوى الحصول على المال لتدفع كفالة الإفراج عن ابنها، الذي اُعتقل في الشارع ليس لسبب سوى لأنه طالب بحقوقه، وتُظهر حكاية أخرى قصة مسؤول في وزارة الرفاه والتأمين الاجتماعي وهو يدردش مع عشيقته على الهاتف، في الوقت الذي يتجاهل فيه رهطًا من العملاء الواقفين أمامه بيأس.

رواد السينما الإيرانية الأجانب أصبحوا على معرفة وثيقة بالدقة والتطور الملحوظ الذي تمر به صناعة الأفلام الإيرانية خلال العقدين الماضيين، ولكن مع ذلك، صورة إيران لاتزال أمام الغرب رمادية وثنائية الأبعاد، وثقة البلاد ووعيها الاجتماعي نادرًا ما يتم وضعه أو الإشارة إليه في سياقه الصحيح، كما أن الغرب لا يدرك أن الإيرانيين يطرحون وجهات نظرهم حول سياسة بلادهم للأجانب، بما فيهم الصحفيين، بطابع رقابة ذاتية ينخفض بشدة عما هو عليه في العديد من دول المنطقة الأخرى.

جنبًا إلى جنب مع الأمل، بدأ عامل جديد آخر بالتشكل والظهور منذ إقامتي هنا آخر مرة قبل سبع سنوات، وهذا العامل هو الارتياح العام تجاه استقرار البلاد، فحتى بين أولئك الإيرانيين الذين يحملون وجهات نظر سلبية حول الثورة الإسلامية، يوجد فخر بأن إيران احتفظت بسيادتها واستقلالها، كما يجتمع الجميع على اعتبار دول الخليج الفارسي عملاء وخدم أمريكيين، والآن، وبالإضافة إلى هذه النظرة، فإنهم يرون شيئًا آخر، التطرف والأصولية البربرية التي تفشت عبر العراق، الحرب الأهلية في سورية وليبيا واليمن، والقمع في مصر، الذي ينتهك حقوق الإنسان بشكل أكبر مما يواجهه الإيرانيون في بلادهم.

مع قيام الدولة الإسلامية (داعش) بغرس مخالبها في طول العراق وسورية وعرضهما، فليس من المستغرب أن يُعبّر العديد من الإيرانيين عن شعورهم بالامتنان للسلام السياسي والاجتماعي الذي ينعمون به، كما أن المؤسسات الفكرية وواضعي السياسات الإيرانية يدعمون استقرار إيران، ويروجون له باعتباره المبدأ الأساسي في علاقات إيران الخارجية.

وتتوضح أولوية مبدأ الاستقرار الإيراني من خلال وجهات النظر التي يعتنقها صناع السياسات الإيرانيين حول المقاربات الإيرانية في المنطقة؛ فبعد لقائه الأخير مع زعماء دول الخليج العربي في كامب ديفيد، ندد باراك أوباما مرة أخرى بالأنشطة المزعزعة للاستقرار التي تضلع بها إيران في المنطقة، ولكن من جهتهم، يرى المسؤولون الإيرانيون أن هذه النظرة تتطلع إلى الواقع بشكل معكوس؛ ففي العراق، يصر المسؤولون على أن إيران هي قوة لدعم الاستقرار، ولمساعدة حكومة حيدر العبادي عسكريًا، في الوقت الذي تحثها فيه على أن تكون أكثر انتباهًا لمخاوف السنة، تمامًا كما تفعل واشنطن، حيث تتركز جدالات النخبة الإيرانية حول مدى المساعدة التي يجب على إيران أن تمد بها العبادي، وكيفية التعامل مع الشكوك المتصاعدة لدى سنة العراق حول السياسة الإيرانية في بلدهم، ولكن جميع الأطراف في طهران لا يرون صعود الدولة الإسلامية كما يراه الغرب كمجرد قضية سياسة خارجية، بل إنهم يعتبرون تنظيم الدولة الإسلامية تهديدًا للأمن القومي الإيراني؛ وبالتالي، وعلى عكس ما يصر عليه النقاد الغربيون، يزعم الإيرانيون أن مشاركتهم في العراق ليست بدافع زيادة النفوذ الإقليمي، بل لمواجهة الموت المحدق بهم من الجار العراقي، وأولوية إيران، كما يرى كيهان بارزغار، مدير المعهد الإيراني للدراسات الإستراتيجية في الشرق الأوسط، هي تقوية الحكومة في بغداد عن طريق الحصول على المزيد من الدعم من العشائر السنية والأكراد، ولكن بارزغار يحذر بذات الوقت بقوله “على إيران أن تكون مدركة للآثار المحلية للسياسية العراقية الناجمة عن الدور الإيراني”.

أما في سورية، فيرى صناع القرار الإيرانيون أيضًا أن سياستهم ليست كما يدعي النقاد الأجانب، هادفة للتدخل في المنطقة وزيادة النفوذ، بل للدفاع عن الدولة المتعددة الثقافات ضد أي هجوم من الإسلاميين التكفيريين، وهذا بالنسبة لهم لا يعني الدعم غير المشروط لبشار الأسد، بل إن إيران تحث على إجراء مفاوضات للخروج بحكومة ائتلافية، تضم المعارضة السنية المعتدلة، تقوم بوضع مسودة دستور جديد، وتمهد لإجراء الانتخابات في البلاد، وهذه النظرة تتطابق تقريبًا مع الخطة التي طرحها كوفي عنان قبل ثلاث سنوات، مع فارق وحيد، متمثل بالطرح الإيراني الراغب ببقاء الأسد في السلطة التنفيذية، حيث يتم تحديد دوره من خلال المفاوضات التي ستجريها الأطياف السياسية في البلاد، وكما قال لي حسين أمير عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية “نحن لا نؤيد فكرة بقاء الأسد رئيسًا مدى الحياة، بل إننا نرى أن أي حل سياسي يجب أن يقرره الشعب السوري، وقرارهم هذا واجب الاحترام”.

وبالنسبة لليمن، فإن وسائل الإعلام الإيرانية توفر تغطية شاملة للضربات الجوية السعودية، مع إحصائيات وتركيز على الضحايا المدنيين الذين يقضون بسببها، ويرى المسؤولون الإيرانيون أن التدخل السعودي هو خطأ إستراتيجي بمصطلح العلاقات العامة، كما أن إيران، كما يقول المسؤولون، لم تقم بغزو أي من جيرانها لعدة قرون، ومع ذلك يتم تصويرها من قِبل دول الخليج العربي بأنها دولة توسعية، علمًا أن الدولة التي تعمل حقيقة على زعزعة الاستقرار في المنطقة هي المملكة العربية السعودية، كما يشير بعض المسؤولين أن ممارسات السعودية في اليمن تمثل “نكبة جديدة”، وهي أسوأ من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولكن مع ذلك، يواصل الإيرانيون دعوتهم إلى الانفراج مع الرياض، “إننا نرحب بالحوار مع المملكة العربية السعودية، ونحاول مساعدتها للخروج من الأزمة في اليمن، وترحب بالتعاون الإقليمي” قال عبد اللهيان.

تعليق عبد اللهيان يذكرنا بأن إدارة العلاقات مع الغرب ليس هو التحدي الوحيد الذي يواجه إيران، كون نجاح المحادثات النووية، قد يستحضر تسوية تاريخية مع الولايات المتحدة بعد حوالي 40 عامًا من التوتر المستمر، ولكن إذا ظل عرب الخليج يدينون سياسة أوباما الجديدة ويصفونها بأنها إعادة تمحور من قِبل الولايات المتحدة لصالح إيران الشيعية، فإن انخفاض عدائية الغرب نحو إيران الذي يُنتظر في الداخل الإيراني بفارغ الصبر، سيتم استبداله وتقويضه من خلال تواتر تصعيد مشاعر الإيرانوفوبيا بين السنة الأقرب إلى إيران إقليميًا.

المصدر: الجارديان