قادمين من آسيا الوسطى بعد هجرات امتدت لقرون، عبروا فيها الهضبة الإيرانية والرافدين وصولًا إلى الأناضول، لم يكن يدري الأتراك وهُم يفتحون القسطنطينية ويستحوذون عليها أنهم امتلكوا أرضها في حين تسللت روحها البيزنطية إليهم، فقد وصلوا إلى بُقعة من الأرض كانت حتى ذلك الوقت جزءًا من أوروبا ثقافة وروحًا، وكان دخولهم لها كأول مسلمين تطأ أقدامهم الشمال المتاخم لأوروبا إذانًا بتحوّلهم هُم بقدر ما كان بداية تحولها هي، وإن كان العرب قد دخلوا إسبانيا وخلقوا منها حضارة الأندلس دون الذوبان بشكل كبير في ثقافة أوروبا، فإن إسبانيا طالما كانت استثناءً بموقعها المتصل بأفريقيا والمحجوب عن أوروبا بسلسلة جبال البرانس في شمالها، حتى أن البعض في أوروبا كان يقول أن أفريقيا تبدأ من البرانس لا من طنجة.
كان واضحًا مع الوقت أن بيزنطة تركت بصمتها على الأتراك أكثر، فهُم، على عكس الإسبان، تصلهم أراضيهم بسهول الدانوب، في حين تفصلهم الأناضول الوعرة عن الشام، والبحر عن شمال أفريقيا، مما حتّم قبلة ثقافية غربية عززت من تأثير الثقافة البيزنطية التي هيمنت في جنوبي شرقي أوروبا، على حساب التأثيرات العربية بالرُغم من الروابط الدينية، بل إن الاتجاه أصلًا إلى المنطقة العربية لم يتم إلا في مرحلة متأخرة من عُمر الدولة العثمانية، حيث ظل الأتراك في عالمهم الخاص بالأناضول وإسطنبول والبلقان لعقود قبل أن يقرروا دخول مصر والشام، لا لشيء سوى لخلق موطئ قدم في البحر الأحمر والمحيط الهندي بعد أن سبقهم الأوروبيون إلى رأس الرجاء الصالح وأحدثوا زلزالًا في خطوط التجارة العالمية، والتي كان اهتمام الأتراك بها، ولا يزال، واجبًا تمليه الجغرافيا.
جبال الشرق وسهول الغرب
نتيجة الجغرافيا الوعرة الموجودة في الشرق مقارنة بالسواحل الطويلة والممرات التجارية الرئيسية الموجودة في الغرب، لطالما كان مركز الثقل يميل إلى مرمرة على حساب الأناضول، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، بل ولطالما كان العائد الاقتصادي لتلك المنطقة الصغيرة دافعًا للتوسع، وهو ما جعل القسطنطينية دومًا في القلب من كيان يتجاوز حدود مرمرة بكثير، كما تشي بذلك المساحات الشاسعة التي انضوت تحت سلطانها أيام العثمانيين والبيزنطيين وغيرهم.
علاوة على ذلك، وعلى عكس إمبراطوريات امتلكت القدرة على التوسع بسكانها لتحكم مباشرة في الكيانات التابعة لها، مثل الروس أو الألمان، فإن حساسية موقع البوسفور ومرمرة، مع الحجم السكاني المتوسط للأتراك، يعني أن التوسع الديمغرافي التركي، ومن قبله اليوناني، مستحيل، بل ويشكل خطرًا على القلب السياسي في مرمرة، وهو ما حتم على السلطان السياسي في القسطنطينية أن يمتلك دومًا إطارًا سياسيًا تعدديًا يُشرك به الثقافات المحيطة، وأن يبتعد عن القومية، مما يجعل تجاوز القومية مهمة رئيسية للمشروع الإقليمي التركي، على العكس من المشروع الروسي مثلًا، والذي يستند لوجود الروس في محيطه، وعلى غرار الإنجليزي، الذي اهتم بالثقافة الأنغلوساكسونية في مستعمراته الشاسعة بأمريكا وأستراليا على حساب أي خطاب قومي نظرًا لاستحالة توسع الديمغرافيا الإنجليزية في هذه المساحات.
لم يكن غريبًا إذن أن ينكفئ الأتراك على أنفسهم بعد انتصار حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية، إذ سادت عقلية قومية شوفينية جديدة أصبحت بمقتضاها الجمهورية الوليدة شديدة الانعزال، كما أن الحرب الباردة خلقت ظروفًا جيوسياسية يصعُب معها التمدد التقليدي في البلقان وجنوب شرق أوروبا كما كان الحال في السابق، لتكون تلك هي المرة الأولى في تاريخها التي تصبح فيها منطقة مرمرة وإسطنبول جزءًا من منظومة منعزلة بهذا الشكل، مما دفع بالمركز التقليدي في الغرب لاستثمار العائد الاقتصادي والنفوذ السياسي له، والذي طالما أطلقه للخارج، في المنطقة الوحيدة التي أصبحت جزءًا من الجمهورية وهي الأناضول.
للمفارقة، يعني ذلك أن أيديولوجية الجمهورية التي قامت على الهوس باللحاق بالغرب، دشنت في الحقيقة ارتكازًا جيوسياسيًا شرقيًا أكثر من المنظومة العثمانية/البيزنطية نتيجة عدم إدراكها لتوابع الانعزالية الشديدة تلك، بل وفتحت الباب بنفسها، كما حدث فيما بعد بالفعل، أمام تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي لأهل الأناضول في المستقبل، على حساب أهل مرمرة وإسطنبول، والذين اعتمدوا طوال تاريخهم على نفوذهم وتجارتهم مع اليونان والبلقان أكثر من الأناضول لبث قوتهم داخليًا وخارجيًا، مما يشي بملمح جغرافي للصراع بين المحافظين والعلمانيين الذي عاشته تركيا على مدار العقود الماضية، بين النخب القريبة من الغرب في مرمرة والمتوسط، ولكن ضئيلة العدد، والمجتمعات الأناضولية الكبيرة والمحافظة.
مرة أخرى، وللمفارقة، كان الانكفاء في الأناضول إيذانًا ببروز مجتمعات تلك المنطقة على الساحة بكل ما تحمله من ارتباط بالمشرق العربي وإيران أكثر من الارتباط بالغرب القريب في البلقان وجنوب شرق أوروبا الذي ميّز المنظومة العثمانية، والارتباط بالغرب فكريًا وثقافيًا الذي اتسمت به النُخَب المؤسسة للجمهورية، مما يعني أن التحول الاجتماعي والاقتصادي الجاري منذ صعود حزب العدالة والتنمية، ليس فقط نتيجة حتمية لانعزالية الجمهورية، رُغم أنه على المستوى السياسي تحدي لأيدولوجيتها، بل وقد يخلق تواجدًا قويًا في منطقة المشرق بشكل أقوى مما تمتع به الوجود العثماني، والذي كان مهتمًا بالمنطقة العربية لأسباب تجارية كما ذكرنا، ثم لاحقًا لاكتساب شرعية الخلافة، ولكن ليس نتيجة لارتكاز جيوسياسي إقليمي مباشر.
أولويات التوسّع
خريطة التوسع العثماني مرحلة مرحلة تشي بترتيب الأولويات الاستراتيجية التركية (اضغط على الصورة للتكبير)
بوضع كل تلك الملامح في الاعتبار، وبحتمية التوسع كضرورة تمليها جغرافيا القسطنطينية، تظهر لنا أولويات للاستراتيجية التركية، ومن قبلها العثمانية والبيزنطية، لتأمين التوسع والكيان الذي يتمخض عنه، أبرزها تأمين الأناضول من أن يتمرد سكانه على المركز، لا سيما وأن القوتين الإيرانية جنوبًا والروسية شمالًا تقفان من خلفه، وهي مهمة كانت شبه مستحيلة للبيزنطيين نتيجة الهوة الثقافية بينهم كشعوب أتت من الغرب وعالم الأناضول، وكذلك عدم قدرة اليونانيين، أهل البحر والتجارة، على سكن تلك المناطق الجبلية والتي احتاجت إلى ثقافة بدوية أكثر، وهو ما جعل هيمنة شعب قادم من الشرق ليقطن الأناضول أمرًا متوقعًا يغلب بسهولة السيطرة غربية المنشأ على مرمرة، كما حدث بالفعل مع الأتراك، والذين قطنوا الأناضول في البداية قبل أن يتجهوا لمرمرة محصنين بموقعهم الشرقي الآمن.
تباعًا، تبرز أولولية التوسع نحو الغرب، في منطقة البلقان ووصولًا إلى حوض الدانوب، وهو ما يجعل الغريم الأول بالطبع القوة الروسية والتي يسهل عليها النزول عبر سهول شرق أوروبا إلى تلك المنطقة، ثم القوة الإيطالية إن وُجدَت، وأخيرًا بقية القوى الأوروبية، والتي تصبح غريمًا مباشرًا إذ ما نجح الأتراك في تجاوز نقطة فيينا، والتي تبعد 350 كيلومتر فقط عن مرمرة وتؤدي إلى قلب القارة الأوروبية الغني وسهول جنوب ألمانيا، وهي النقطة التي لم يستطع العثمانيون تجاوزها من الأصل كما نعرف.
بعد هذا المحور الأفقي المستند للأناضول في الشرق والبلقان في الغرب، ونتيجة مركزية مرمرة للتجارة العالمية التي تمر من الجنوب إلى الشمال والعكس بين البحرين المتوسط والأسود، تظهر هنا أولوية تأسيس قوة بحرية لا يُستهان بها، أولًا للتواجد في البحر الأسود، والسيطرة عليه بالكامل قدر الإمكان، والمنطقة الأكثر أهمية هنا هي شبه جزيرة القرم نتيجة موقعها الاستراتيجي في بث القوة البحرية بالبحر كله، وسهولة الوقوف بوجه أية قوة قادمة من الشمال عبر سهول أوراسيا الشاسعة والمفتوحة من هذه النقطة، سواء أكانوا روس في عصرنا، أو مغول كما في العصور السالفة، وهو ما يجعلها في نفس الوقت قطعة مهمة لروسيا كما تشي الأحداث الأخيرة.
ثانيًا، توجد أولوية الحضور في شرق البحر المتوسط، وهنا لا توجد نقطة مركزية بعينها كما الحال في البحر الأسود الصغير، ولكن مجموعة من الجزر المهمة، لا سيما قبرص وكريت، مما يفسر اهتمام الأتراك بالتواجد في جمهورية شمال قبرص التركية قدر الإمكان، وصعوبة التوصل لحل للوضع المأزوم بين الأتراك واليونانيين فيها نتيجة حاجة أنقرة إلى استمرار استخدام منشآتها لصالح بث قوتها، أضف لذلك سواحل الشام وفلسطين، والتي تصبح أولولية لأن الجزر بالطبع ليست كافية نتيجة صغر حجمها ودورها، ولأن التواجد في الشام تحديدًا يعزز من العُمق الاستراتيجي الآمن في الأناضول، ويعزز الموقف التركي في القوقاز، كما يفيد في مواجهة النفوذ الإيراني التقليدي في الرافدين.
لاحقًا، يصبح الوصول للقاهرة ومكة وتونس، والخروج من بعد ذلك إلى قلب المتوسط من ناحية، والمحيط الهندي من ناحية أخرى، أولوية أخيرة وغير رئيسية، وهي تعزز الانتقال من وضع القوة الإقليمية إلى القوة العالمية حال أتاحت الظروف، كما كان الحال مع العثمانيين، كما أنها، وبوضع الجغرافيا جانبًا، تُهِم الأتراك نتيجة الروابط الدينية والثقافية بالشعوب العربية ورمزية أراضي الحجاز ومركزية القاهرة في الثقافة العربية للحصول على شرعية الخلافة.
***
بعد نهاية الحرب الباردة وانفتاح المجال العثماني السابق، بالإضافة لصعود الأناضول وأهله في الساحة السياسية عبر بروز المحافظين، عادت حتمية صعود الدور التركي في مناطق تمدده السابقة، وبشكل يتجاوز مجرد رغبة صناع القرار في تولي دورهم “العثماني” كما يعتقد البعض، وهو دور تعود جذوره ربما إلى عهد رئيس الوزراء توركوت أوزال، بيد أن الدور التركي تواجهه هذه المرة تعقيدات كثيرة في البلقان نتيجة التشرذم فيها بين الأعراق المختلفة، والأدوار المعقدة هناك للروس والأوروبيين والأمريكيين، والخيار الحالي لأنقرة يبدو أنه الاستفادة من الوجود في التحالف الغربي مع الأوروبيين لتحقيق أقصى المكاسب الممكنة.
على الناحية الأخرى، ونتيجة الارتكاز الأناضولي غير المسبوق حتى أيام العثمانيين، والدافع الهوياتي للعب دور في المشرق العربي، تبرز تركيا كما هي الآن كلاعب أساسي في ملف سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، جنبًا إلى جنب مع إيران، وهي مساحة يسهُل كثيرًا بث القوة فيها مقارنة بالبلقان الآن نتيجة تفككها وانسحاب القوة الأمريكية منها مؤخرًا، تاركة الساحة أمام الأتراك والإيرانيين على ما يبدو لتشكيل بنيتها الجديدة بعد أن تنهار بالكامل المنظومة التي وضعها الاستعمار.