تجرى الانتخابات البرلمانية التركية اليوم الأحد 07 يونيو 2015، فبلغت الحملة الانتخابية التي بدأت مند أكثر من ثلاثة أسابيع أوجها هذا الأسبوع في تركيا، حيث تستعمل الاحزاب السياسة المنافسة كل وسائل التسويق السياسي والبروباغندا والإشهار السياسي من أجل الفوز بهذه الانتخابات الاستثنائية والانعطافية في تاريخ تركيا الحديث، ومن اهمها صياغة دستور مدني جديد والتحول من نظام سياسي برلماني شبه رئاسي إلى نظام سياسي رئاسي.
فما هي الأسباب والعوامل التي ستجعل حزب العدالة والتنمية التركي يفوز بالانتخابات الحالية دون مفاجأة؟
هناك أسباب وعوامل عديدة ومختلفة تجعل حزب العدالة والتنمية أو الحزب الأبيض أو حزب المصباح – كما يسمى في تركيا – يفوز بالانتخابات الحالية، فلا شك أن تركيا في عهد العدالة والتنمية الذي تسلم زمام الحكم في عام 2002 عرفت ربيعًا تركيًا مختلفًا ومتقدمًا، وخطط الحزب لبرنامجه منذ البداية على المستوى المتوسط إلى حدود عام 2023، لكي تصبح تركيا ضمن الدول العشرة الاقتصادية في العالم، وحاليًا أصبح الحزب يخطط على مستوى أبعد، واعتمد في ذلك على مجموعة من الأولويات؛ فقد جعل التعليم أول مجال اشتغاله ثم الصحة وجاءت الاستثمارات في المواصلات وخاصة في البنية التحتية ثالث أولوياته، ومجال الطاقة حل رابعًا، لكن الدولة التركية جعلت هذا القطاع الأخير للخواص لاستثمار فيه لكي لا يشكل عبء على الدولة.
فإذا رجعنا إلى التعليم؛ حكومة حزب العدالة والتنمية جعلت الإنفاق على التعليم هو الأولوية من حيث الميزانية منذ سنة 2003، بعد أن كان الجيش يحتل هذه الرتبة، وأدّى ذلك إلى ارتفاع عدد الجامعات التركية من 70جامعة تقريبًا سنة 2001 إلى أكثر من 180 جامعة سنة 2015، وسيزداد ارتفاعها حتى يصل عددها إلى 210 سنة 2023، حيث توجد اليوم جامعات في المدن الصغرى وتحوي تخصصات متنوعة، كما عمل حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 2003 إلى دفع مبلغ مالي لكل عائلة محدودة الدخل ترسل ابنها وابنتها إلى المدرسة.
أما مجال الصحة الذي احتل المرتبة الثانية في اهتمام حزب العدالة والتنمية؛ فقد أُنشئت العديد من المستشفيات مند تولي الحزب السلطة، وأصبح جميع المواطنين الأتراك لهم الحق في الذهاب إلى كل مستشفيات الدولة والعلاج بالمجان، كما شمل الإصلاح عدة عناصر أهمها توحيد جميع مستشفيات القطاع العام تحت دائرة واحدة، وفي نفس الوقت السماح للقطاع الخاص بالدخول في مجال الخدمات الصحية وتشجيع الدولة له وتخفيض أسعار الإدوية؛ مما جعل الشعب التركي مرتاح وراض في مجال صحة، استطلاع الرأي في هذا المجال أكد أن 74% من الشعب التركي راضٍ على الخدمات الصحية، فتركيا أصلحت التعليم والصحة دون أن يشكل عبء كبيرًا على ميزانية الدولة.
أما في الميدان الفلاحي؛ فقد أصبحت تركيا مصدرة للمنتجات الزراعية وتحتل المرتبة السابعة عالميًا في تصدير هذه المنتجات وهي الآن تحقق الاكتفاء الذاتي وتصدر هذه المحاصيل للخارج؛ مما جعل تركيا تطعم 75 مليون تركي و40 مليون سائح وبلغ حجم تصدير هذه المنتجات الزراعية للخارج 18 مليار دولار.
سياسة الحزب ونجاحاته الداخلية عالجت بلدًا كان مريضًا اقتصاديًا، فقد كانت نسبة التضخم قبل وصول الحزب للسلطة في تركيا 55% وانخفضت إلى أن وصلت إقل من 10% سنة 2015، كما كانت نسبة النمو سلبية -9.5 لكنها وصلت إلى حوالي +10% وأصبحت تركيا من أعلى نسب النمو في العالم، وارتفع كثيرًا معدل الدخل السنوي للفرد من 3500 دولار في السنة عام 2002 ليصل إلى حوالي 11000 عام 2014، وذلك بدعم المستثمريين وفتح الباب أمامهم في تركيا عن طريق تحسين جو الاستثمار وتقليل إجراءات البيروقراطية، وأصبحت تركيا بعدد سكانها البالغ 75 مليون تحتل المرتبة الـ 17 في الاقتصاد العالمي.
وتعمل تركيا لإنجاز المطار الثالث في إسطنبول والذي تبلغ تكلفته 40 مليار دولار تقريبًا وإنجاز الجسر الثالث على بوسفور إسطنبول “قنطرة يافوز سليم” وتم تخصيص تكلفة بثلاث وعشرون مليار دولار تقريبًا للمحطة النووية التركية التي سوف تقام في مدينة سنوب التركية، وبالتالي أصبحت المجموعات الاقتصادية في العالم تريد أن تأتي لتركيا لاستثمار، وتخطط تركيا حتى سنة 2023 بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية من طرف أتاتورك لتحقيق اقتصاد قوي جدًا يصل إلى 2 تليون دولار من حيث الدخل العام غير الصافي لتركيا وسوف تصدر 50 مليار دولار سنويًا حسب توقعات الحزب.
كما سددت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية كل ديونها لصندوق النقد الدولي عام 2013، وتحولت من بلد يقترض من صندوق النقد الدولي إلى بلد يُقْرِضُ هذا الصندوق، وعمل الحزب الأبيض على تصفير وغلق ملف الديون الذي استمر لفترة 19 عامًا، علمًا أن الديون المستحقة للصندوق كانت تزيد عن 23 مليار دولار عندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، هذا الأمر جعل نائب رئيس الوزراء التركي علي بابا جان يبتسم لوسائل الإعلام التركية والأجنبية وهو يضغط على زر الآلي لتحويل دفعة الديون، معلنًا دخول تركيا عهد جديد، ويرجع المراقبون ذلك إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تعرفه تركيا منذ 2002.
من جهة أخرى عاشت تركيا لفترة 66 سنة تجربة ديمقراطية تنقطع بالانقلابات العسكرية، إلا أن مجئ حزب العدالة والتنمية للسلطة قلص تدخل الجيش وعمل على إبعاده من الساحة السياسية وتقليم أظافره بمحاكمة جنرالات الجيش، ولم يستطع العسكر حتى الآن أن يحدث أي انقلاب أو تدخل عسكري في تركيا كما كان في السابق.
تعمل تركيا اليوم على إرساء الديمقراطية وكما تعرف تحول ديمقراطي كبير منذ 2002، لدرجة أن أصبح المتتبع للشأن التركي يرى إخراج قانون جديد كل يوم إلى أرض الواقع، وآخر هذه التشريعات التي تم تغييرها انتخاب رئيس الدولة رجب طيب أردوغان لأول مرة في عام 2014، حيث تجاوز الحزب بسياسته الكبيرة أحداث ومظاهرات “غزي بارك” التي كانت من بين أهدافها الوقوف ضد ترشيح أردوغان، كما تجاوز الحزب مشكلته مع جماعة فتح الله غولن التي ينعتها الحزب بالكيان الموازي للدولة وانتصر عليها وعلى الحزبين المعارضين الرئيسيين في تركيا (الحزب الجمهور والحزب القومي) الذين سوندوا بـ 14 حزبًا معارضًا آخر أعلنوا دعمهم للمرشح إحسان أغلو في الانتخابات الرئاسية لعام 2014، وقد فاز الحزب بـ 52%من نسبة الأصوات العامة، واستطاع رفع نسبة أصواته في هذه الانتخابات التاسعة التي خاضها الحزب، ومنحت هذا الأخير نقلة نوعية باعتباره ضحية، فالناخب التركي فضل نموذج الاستمرارية والاستقرار وهذه النقطة الأخيرة مهمة وحساسة في تركيا، وحاول حزب المصباح بكل جدية خفض المشاكل المتعددة التي تعيشها تركيا مثل مشكلة الأقليات المتواجدة في تركيا، فهذا البلد يحتوي على 36 عنصرًا إثنيًا، وعلى رأس هذه المشاكل مشكلة الأكراد التي يقود الحزب معهم عملية السلام.
هذه أهم الأسباب والعوامل التي يستحضرها الناخب التركي في عقله وفكره ووجدانه وهو يصوت لحزب العدالة والتنمية التركي لكي تبقى تركيا مرفوعة الرأس، فالكل في تركيا شعبًا وأحزابًا أولى أولوياته هي تركيا ولا شيء إلا تركيا.
لكن يبقى أهم تحدي لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الحالية والذي يصارع من أجله هو الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان، نصف عدد النواب زائد واحد، التي تكفي الحزب من أجل تشكيل الحكومة (276 من أصل 550) أما حصوله على 330 نائبًا برلمانيًا فتخوله – وهذا هو طموح الحزب – اللجوء إلى الاستفثاء العام بعد التصويت عليه في البرلمان من أجل تحويل النظام السياسي القائم إلى نظام رئاسي، أما حصول الحزب على 367 نائبًا فإن ذلك يمنحه تغير الدستور في البرلمان دون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي.
وجود حزب الشعوب الديمقراطي أو بالأحرى حزب ديمقراطية الشعوب ذي الجذور الكردية في المعادلة السياسية التركية اليوم بشكل أقوى مما كانت عليه الأمور في وقت سابق أربك حسابات حزب العدالة والتنمية التركي، فحزب ديمقراطية الشعوب الذي تأسس سنة 2012 ويرأسه بشكل نوعي رئيسين مشتركين كل من صلاح الدين ديمرطاش ويوكسيك داغ فيكن يصارع من أجل كسر الحاجز الانتخابي المتمثل في 10%، ومن خلال تتبع حملته الانتخابية وتحليل مواقعه الاجتماعية النشيطة، يمكن أن نقول إنه من الممكن أن يحقق المفاجأة بتخطي تلك النسبة؛ مما قد يضع حزب المصباح في موقع حرج، علمًا أن حزب الشعوب الديمقراطي حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة على 9% من أصوات الناخبين.
يبقى أهم إنجاز لحزب العدالة والتنمية التركي في فترة حكمه هو تحفيز الأحزاب السياسية التركية الأخرى لكي تتصارع وتقدم الوعود وتضع الخطط والبرامج من أجل تنمية وتطوير تركيا، وهذا ما يتمناه في الأخير الناخب التركي.