بينما خرجت النتائج الأولية إلى النور ليلة أمس في انتخابات البرلمان التركي، وضع الكثير من أنصار المحافظين وحزب العدالة والتنمية أيايدهم على قلوبهم خشية أن يكون الحزب قد تلقى ضربة بتراجع نسبته من الأصوات من 49.8٪ عام 2011 إلى 40.8٪ هذه المرة، وتذكر البعض كوابيس الهزيمة الانتخابية التي تلقاها حزب الوطن الأم عام 1991 بعد أن رحل زعيمه القوي توركوت أوزال إلى الرئاسة تاركًا الحزب بقيادة خلفه الضعيف مسعود يلماز، والذي ظل يأتمر بأمره بطبيعة الحال.
على الرُغم من تلك المخاوف، لا يبدو أن سيناريو 1991 هو سيناريو 2015 بأي حال، فالحزب لم يخسر مطلقًا ويتراجع للمراكز المتأخرة كما حدث مع سلفه المحافظ آنذاك، بل تراجعت نسبة مؤيديه فقط، وتراجعت أعدادهم بحوالي ثلاثة ملايين، وهم على الأرجح في المناطق الكردية بالجنوب الشرقي كما تشي التحولات في النتائج، والسبب الرئيسي هو مواقف الحزب الحاكم من أزمة عين العرب كوباني والملف السوري بشكل عام، والتي أفقدته أنصاره لصالح حزب الشعوب الديمقراطي الصاعد بقوة بقيادة صلاح الدين دميرطاش.
في المساء، ألقى رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو خطابًا في مدينة قونية، مسقط رأسه، موجهًا حديثه لأنصاره، وقال بأن حزب العدالة والتنمية قد خرج منتصرًا في هذه الانتخابات، وأن انتخابات 2015 هي حفل للديمقراطية، وإن كان الجميع يقر بالثانية، فإن ماهية انتصار الحزب من عدمه لا تزال قيد النقاش، حيث يقول أنصار الحزب من ناحية أنه حصل على نفس نسبة الأصوات تقريبًا، ولم يخسر سوى بعض أصوات الأكراد في الجنوب الشرقي، في حين يقول نقاد الحزب أن الخسارة واضحة، وأن خسارة أصوات الأكراد الذين اجتذبهم الحزب بقوة في الانتخابات الماضية تُعَد ضربة لا يُستهان بها، وكلفته تشكيل الحكومة.
الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب منذ 2002: العدالة والتنمية (أصفر)، الشعب الجمهوري (أحمر)، الحركة القومية (أزرق)، الشعوب الديمقراطي (بنفسجي)
حزب العدالة يهبط في نسبة الأصوات مقابل صعود حزب الشعوب الكردي، واستقرار نسبتي العلمانيين والقوميين
بدوره، صرح رئيس حزب الشعوب صلاح الدين دميرطاش بأن الانتصار الذي حققه الحزب هو انتصار لكل الأعراق في تركيا، وكل من يريد حياة كريمة، كما أنه انتصار لليسار الذي ينتمي له، وأشار دميرطاش إلى أنه يستبعد الدخول في ائتلاف مع حزب العدالة والتنمية، وأن النتيجة تُنهي أي نقاش حول “ديكتاتورية” النظام الرئاسي التنفيذي الذي أراده الحزب، وأنها تفتح بابًا لدور جديد للأكراد، “الآن أصبح حزب الشعوب حزبًا لتركيا كلها،” هكذا قال دميرطاش، وهي إشارة بالطبع إلى رغبته في توسيع دور الأكراد على الساحة، بدلًا من الاعتماد على حزب العدالة في تمرير حقوق الأكراد، وهي اللعبة التي لعبوها على مدار العقد المنصرم وانتهى أوانها كما يبدو، على غرار اكتساح حزب اسكتلندا الوطني في انتخابات بريطانيا هذا العام لأول مرة بعد أن كان البلد الصغير يصوت دومًا لحزب العمال الإنجليزي.
تنحصر احتمالات تشكيل الائتلاف أولًا بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي، وهو الاحتمال الأوقع، وثانيًا بين الأحزاب الثلاثة العلماني والقومي والكردي، وهو أمر شبه مستحيل نظرًا للهوة الواسعة بين الحزب القومي والحزب الكردي وكذلك بين الأكراد والكثير من أسس الحزب العلماني، وثالثًا بين حزب العدالة والتنمية وأحد الحزبين القومي أو العلماني، وهو أمر مستبعد أيضًا بعد إعلان الحزب عن نواياه لتركيا الجديدة، والتي ابتعدت تمامًا عن العلمانية والقومية لهذين الحزبين، بل ويمكن القول أن اتجاه العدالة والتنمية لأي من هذين بدلًا من حزب الشعوب سيكون بمثابة تراجع للخلف، وتفضيل لوقف مرحلة تركيا جديدة مؤقتًا على حساب قبول دور الأكراد كلاعب مستقل في تشكيل تركيا الجديدة.
إن لم تكن النتيجة ضربة للحزب نتيجة لاستمرار تربعه على القمة، فإنها على أقل تقدير ضربة لمشروع 2023 الذي كان يمضي فيه، وستعرقل كثيرًا، إن لم تنهي تمامًا، آمال صياغة الدستور الذي أراده، إذ سيكون مضطرًا إلى وضع آراء الحزب الكردي في الاعتبار إذا ما نجح في الائتلاف معه، وإن كان ذلك لن يضر بالتعددية العرقية وتجاوز القومية الذي أراد الحزب تدشينه في الدستور، فإن اتجاهات الحزب الكردي اليسارية قد تؤدي إلى تغيير بعض الملامح الاقتصادية والسياسية للمنظومة الجديدة، وأبرزها بالطبع خطط النظام الرئاسي التي ضُرِبَت تمامًا بهذه النتيجة، فالحزب الكردي يرفض النظام الرئاسي نظرًا لأنه قد يعزز تهميش الأكراد، فالأكراد في نظام برلماني يمكنهم الحصول على نسب مرتفعة والدخول في ائتلاف، في حين سيساعد النظام الرئاسي على هيمنة الأتراك.
ما بعد الجمهورية: القفزة الثانية
صلاح الدين دميرطاش، رئيس حزب الشعوب الديمقراطي
بينما كان صعود حزب العدالة والتنمية وتغيير شكل الساحة السياسية إلى غير رجعة القفزة الأولى نحو تركيا ما بعد الجمهورية، والتي نجح فيها المحافظون في إنهاء القمع والتهميش الذي تعرضوا له رغم قوتهم الاجتماعية، فإن دخول الأكراد إلى البرلمان بهذا الشكل، وبعد إصلاحات كثيرة فتحت الباب أمامهم وأمام التعبير بشكل مفتوح عن ثقافتهم في السنوات الأخيرة، هو إشارة لقفزة ثانية لما بعد الجمهورية، وهي قفزة ستتجاوز الأيديولوجية القومية على الأرجح كما كانت القفزة الأولى تجاوزًا للأيديولوجية العلمانية.
بالطبع، تكمن المفارقة هنا في أن صعود الأكراد بهذا الشكل، وتسارع وتيرة التحولات في الساحة الداخلية بشكل أتاح للبعض ربما تجاوز سقف حزب العدالة والتنمية مؤخرًا، هو سياسات الحزب نفسه، والذي حقق أول قفزة لتجاوز الجمهورية القديمة على مدار العقد الماضي، ولكنه الآن عليه أن يواكب التحولات في الملف الكردي، والذي يؤثر على هيمنته البرلمانية كما هو واضح من النتائج، بل وقد ينتهي به الأمر إذا ما أساء إدارة المرحلة المقبلة إلى خسارة الرصيد الذي نجح في خلقه للمحافظين.
لم يخسر حزب العدالة والتنمية بشكل مُطلَق، ولن يخسر في الحقيقة في المستقبل القريب نتيجة استقرار قواعده الانتخابية التركية غير الكردية، ولكن خطواته يجب أن تكون على نفس وتيرة التحولات الإقليمية التي تشكل الملف الكردي، والذي لم يعد شأنًا تركيًا فقط كما كان في السابق يخضع لسياسات الحزب في الداخل ومقدار الانفتاح الذي يريده من عدمه، بل صار ملف الشام وشمال العراق بأكمله أكثر تأثيرًا فيه، وهي للمفارقة مرة أخرى أحد ثمار سياسات العدالة والتنمية التي عززت من الدور الإقليمي لتركيا في العقد الأخير، وهو توسع كان يتوقع بالطبع أن يؤثر في تركيا نفسها من الداخل.