ترجمة وتحرير نون بوست
مقدمة
تشهد تركيا الحمى الانتخابية دون انقطاع منذ أواخر عام 2013، مع مرورها بثلاثة انتخابات مهمة متتالية، حيث بدأت هذه الدورة الانتخابية بالانتخابات المحلية التي جرت في 30 مارس 2014، واستمرت بالانتخابات الرئاسية في 10 أغسطس لعام 2014، وسوف تنتهي مع الانتخابات العامة المقرر إجراؤها اليوم في 7 يونيو 2015، والملفت للنظر أنه لم يتم تناول نتيجة كل جولة انتخابية بشكل منفصل، بل تم الحكم على أهمية كل جولة انتخابية من خلال النتيجة التي تمخضت عنها، وما يترتب على هذه النتيجة في الانتخابات القادمة التي ستليها، ونتيجة لهذه الانتخابات والواقع الذي يحكمها، كان المناخ السياسي متوترًا قبيل الجولة الأولى من الدورة الانتخابية المتمثلة بالانتخابات المحلية في 30 مارس 2014، وتضاءل التوتر بشكل مطرد في الجولات الانتخاببة التي أعقبتها منذ ذلك الحين، حيث أصبحت الصورة السياسية أكثر وضوحًا فيما يتعلق بتحديد هوية الفائز المرجح في الانتخابات الحالية واللاحقة.
أهمية الانتخابات التركية
الانتخابات العامة هي الجولة الأخيرة من “ثالوث الانتخابات التركي” الذي استهل في مارس 2014، وهذه الدورة الانتخابية كانت إحدى العوامل الرئيسية التي صاغت الاستقطاب السياسي المتزايد في تركيا، وكما تدرك جميع الأحزاب في البلاد، بمجرد اكتمال هذه الدورة الانتخابية، ستستريح تركيا من الانتخابات لمدة أربع سنوات، وبعيدًا عن الضغط الانتخابي، وخلال فترة الراحة الانتخابية، سيواصل الحزب الحاكم تطبيق برنامجه السياسي بالطريقة التي يراها ملائمة، مع استثناء محتمل لإجراء استفتاء لتغيير النظام السياسي في البلاد؛ لذا فإن جميع الأحزاب السياسية التركية حزمت خياراتها بناء على حساباتها السياسية تجاه هذه الانتخابات، واستثمرت وقتًا وجهدًا كبيرين في اختيار المرشحين، والبرامج السياسية، وإستراتيجيات الحملة الانتخابية، لاستغلالها جميعًا ضمن الانتخابات الحالية.
أجندة الانتخابات التركية
تختلف المعاني والعواقب التي تبرزها الانتخابات الحالية من حزب إلى آخر، ولكن مع ذلك، فإن مسألة تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، تلقي بظلالها وتسطير على جميع القضايا الأخرى، وبمعنى آخر، يمكن اعتبار هذه الانتخابات بمثابة استفتاء مبكر على تغيير النظام السياسي؛ ففي الوقت الذي يروج فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم، أو بعبارة أدق الرئيس رجب طيب أردوغان، لحملة تغيير النظام السياسي، تعارض جميع أحزاب المعارضة الأخرى مثل هذا التغيير، وحتى داخل معسكر الحزب الحاكم، لا يمكن لأي مجموعة أو أي شخصية أخرى أن تنافس أردوغان على دعوته للتغيير المنهجي، كون أردوغان هو سياسي جريء ومخاطر؛ فعلى مدى السنوات الـ12 الماضية، ثبت من خلال مسيرته على رأس حزب العدالة والتنمية، أنه فاز بجميع التحديات الخطرة التي اتخذها، ولكن مخاطرة هذه المرة مختلفة نوعيًا عن التجارب السابقة، ليس فقط لأن جميع أحزاب المعارضة ضد تغيير النظام، بل لأن بعض أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم، والقاعدة الاجتماعية الإسلامية المحافظة لأردوغان ليسوا على قناعة تامة بعد بضرورة هذا التغيير، خصوصًا إذا جاء هذا التغيير بتكلفة كبيرة، وهذا أحد الأسباب التي دفعت أردوغان للاستعجال والاندفاع نحو طرح خيار تغيير النظام أمام الجمهور بدلًا من الانتظار حتى الانتخابات المقبلة، حيث قرر أن يأخذ زمام الأمور بيديه، ويواجه حملات الأحزاب السياسية الأخرى، بحملة انتخابية يروج فيها لتغيير النظام السياسي في البلاد.
نتيجة لما تقدم، فإن تغيير الدستور القائم، ووضع دستورًا جديدًا، هو أيضًا على أجندة الانتخابات التركية، علمًا أنه من منحى السياسة المدنية الديمقراطية في تركيا، يعتبر وضع دستور جديد حلمًا يراود مخيلة الديمقراطية التركية منذ قرن من الزمان بدون أن يتحقق، ومن هذا المنطلق، فإن هذه الحملة تكتسب بعدًا نفسيًا، وتعمل بمثابة اختبار حقيقي لتأكيد قوة وأسبقية السياسات المدنية.
وعلاوة على ما تقدم، فإن عملية السلام الكردية هي بند ملتهب آخر على أجندة الانتخابات، ولكن من الملاحظ أن طرفي عملية السلام، حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد، يقللان من بروز عملية السلام في حملاتهما الانتخابية لأسباب مختلفة؛ فمن جهة أولى، يرى حزب العدالة والتنمية الحاكم، أو أردوغان إن صح التعبير، أن عليه استقطاب الناخبين القوميين إلى جانب قاعدة الحزب الإسلامية المحافظة، إذا كان يرغب بنجاح مسعى طرح تغيير النظام على الاستفتاء العام، لذا عليه تجنب انتهاج الإجراءات التي قد تعمل على نفور هذه الشريحة من الناخبين، ومن جهة أخرى، وبغية تصوير نفسه على أنه حزب يساري حقيقي في تركيا، يحاول حزب الشعوب الديمقراطي تجنب التركيز على الأكراد ومواضيع الهوية الكردية، كي لا يُنظر إليه باعتباره مجرد حزب عرقي مؤيد للأكراد، لأنه على قناعة بأنه للتغلب على عتبة الـ10% فإنه يحتاج لاستقطاب أصوات اليساريين والليبراليين الأتراك أيضًا، وهذا يفسر سبب الانتقاد الخجول الذي وجهه حزب الشعوب الديمقراطي للخطاب القومي المطرد الذي يواجه به أردوغان القضية الكردية.
وأخيرًا، لا بد من الإقرار بأن هذه هي الانتخابات الأولى منذ عام 2002، التي يخوضها حزب العدالة والتنمية بدون تربع أردوغان على رأس قائمة الحزب، لذلك، سواء راق هذا الطرح للقيادة والنخب الحزبية الجديدة أم لا، سيتم اعتبار هذه الانتخابات بمثابة اختبار لهذه القيادات الجديدة أيضًا، والمعارضة تعتبر هذا الواقع بمثابة فرصة مواتية لتبديد هالة حزب العدالة والتنمية التي لا تقهر.
ماذا كشفت العملية الانتخابية في تركيا حتى الآن
أولًا: نجاح سياسات الهوية
منذ ولادة تركيا الحديثة، كانت أهم وأشرس المعارك السياسية والاجتماعية التي تم خوضها تتمثل بهوية الدولة، وهذه المعركة كانت مصدرًا وأساسًا للكثير من أمراض وعلل الدولة التركية الحديثة، كون هوية الدولة، التي تم اختيارها من قِبل الآباء المؤسسين للجمهورية، والتي تتألف من القومية التركية، والعلمانية، والتوجه الغربي، رسخت لظهور عقيدة المؤسسة الكمالية، والمؤسسة الكمالية بقيادة الجيش، كانت تنظر إلى حماية هذا الفكر على أنه من اختصاصها وصلاحيتها الأساسية، حيث تم اعتبار أي مظهر من مظاهر الهوية المخالفة للهوية التركية، كتهديد يحوق بالأمة التركية، وبالتالي تم خنق هذه التحركات في المهد قبل أن تتطور وتدخل غمار الحيز العام، أما النخب الإدارية التي يقودها الجيش أيضًا، فقد اعتبرت أن من صلب اختصاصها وواجبها الحفاظ على الهوية التركية؛ مما شكل الأساس الأيديولوجي لتأسيس نظام الوصاية في تركيا.
خلال معظم التاريخ التركي الجمهوري، امتنعت الحياة السياسية عن التعامل مع مطالب جماعات الهوية المختلفة، وأبقت ممثلي هذه الهويات خارج قوائم المرشحين الانتخابية، ولكن منذ بواكير تسعينات القرن الماضي فصاعدًا، بدأت هذه الصورة تتغير تدريجيًا، وهذا التغير يبدو أكثر وضوحًا في الانتخابات القائمة مما كان عليه في جميع الانتخابات العامة السابقة؛ ففي هذه الانتخابات، أصبح ضم مرشحين من خلفيات هوية مختلفة مسألة “بريستيج حزبي” لدى الأحزاب السياسية الرئيسية، حيث عمد ثلاثة من أصل أربعة أحزاب سياسية إلى ترشيح مرشحين من الأقليات في قوائمهم الانتخابية، ولم تقتصر هذه الأقليات على الأكراد والعلويين والإسلاميين، بل ضمت أيضًا ممثلين عن الأرمن واليونانيين، وعمد حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد إلى ضم مرشحين من الإيزيديين والآشوريين أيضًا.
وبصرف النظر عن حزب الحركة القومية، فإن جميع الأحزاب الرئيسية أثنت على التنوع العرقي والثقافي والديني في تركيا في بياناتها الانتخابية، وكما هو متوقع، ذهب حزب الشعوب الديمقراطي إلى أقصى حد في هذا الصدد، ولكن حزب العدالة والتنمية الحاكم كان واضحًا جدًا في برنامجه الانتخابي فيما يخص هذا الموضوع أيضًا، حيث تعهد بأن “الدستور الجديد سيعترف بالتنوع الثقافي والاجتماعي في تركيا، وفي تعريفه للمواطنة، لن يقدم أي إشارة إلى أي هوية عرقية أو دينية”.
هذا يشكل قطيعة واضحة مع الماضي التركي، حين سعت الأحزاب الرئيسية لتجنب ضم المرشحين من ذوي الخلفيات المختلفة، بغية عدم إثارة غضب المؤسسة الكمالية، أما الآن فقد أصبح الترويج للهويات العرقية أو الدينية أو الثقافية المختلفة من صلب برامج الأحزاب أو بياناتها الانتخابية؛ مما يقودنا للقول إن الانتقال من حالة تجنب الهويات المختلفة إلى حالة تقديرها وتشجيعها في المجال السياسي، تمثل انتصارًا واضحًا لسياسات الهوية في تركيا.
ثانيًا: بروز الجانب الاقتصادي في أجندة أحزاب المعارضة
للمرة الأولى، لم تعد “معاداة الأردوغانية”، أو المواقف الشخصية المعارضة لحزب العدالة والتنمية، هي الميزة التي تسيطر على البيانات الانتخابية لكافة أحزاب ومنصات المعارضة، فبدلًا من ذلك، وعلى الرغم من شعبوية الطرح، أكد حزب الشعب الجمهوري، حزب الحركة القومية، وحتى حزب الشعوب الديمقراطي، على القضايا الاقتصادية على نطاق واسع في تعهداتهم وبياناتهم الانتخابية، وهذا أمر متوقع في ظل نظام الديمقراطية الرأسمالية العادي، ولكن مع ذلك، وبالنظر إلى تاريخ تركيا السياسي منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، يمثل هذا النهج ابتكارًا حداثيًا للمعارضة، تم تحفيزه بالعديد من العوامل التي تفسره.
العامل الأول الذي حفز التغيير في الأسلوب والمحتوى السياسي للمعارضة، يتمثل بتعلم المعارضة للدروس السياسية المستفادة من الماضي؛ فعلى مدى السنوات الـ12 الماضية، فاز حزب العدالة والتنمية الحاكم في جميع الانتخابات التي خاضها، بجدول أعمال حداثي واستباقي وإيجابي يركز على الاقتصاد، في حين أن المعارضة في تركيا، مع برنامجها السياسي الذي اقتصر في المقام الأول على معاداة الأردوغانية وحزب العدالة والتنمية، خسرت جميع الانتخابات التي شاركت بها، ومن خلال هذه الصورة، استطاعت المعارضة استخلاص النتائج التي وضحت لها أن الناخبين يفضلون التركيز على خطة اقتصادية استباقية، أكثر من رغبتهم بأيديولوجية مدفوعة برد فعل سلبي، لذلك، فإن المعارضة تسعى للفوز على حزب العدالة والتنمية عن طريق محاكاة أسلوبه السياسي.
ثانيًا، تدرك المعارضة أن تركيا تغيرت بشكل كبير، وفي كثير من النواحي، على مدى السنوات الـ12 الماضية، وتعلمت أن استحضار المعارك الأيديولوجية من الحقبة الماضية لا يروق للناخبين.
ثالثًا، المعارضة أصبحت مقتنعة أنه لا يمكنها أن تكون بديلًا مقنعًا للوصول للسلطة، كما لا يمكنها الحفاظ على قاعدتها الشعبية، إذا اقتصرت بياناتها على تكرار تهجماتها الممجوجة السابقة حول حزب العدالة والتنمية وأردوغان في جميع الانتخابات، وبدلًا من ذلك يجب عليها وضع رؤية وبرنامجًا موثوقًا للبلاد.
رابعًا، شجعت الدراسات الاستقصائية العامة أحزاب المعارضة على الاستثمار والمغامرة بشكل أكبر في المجال الاقتصادي، بغية استقطاب جماهير الناخبين الذين يطّرد استياؤهم نسبيًا على الأداء الاقتصادي للبلاد، حيث وجدت دراسة حديثة أن 48% من الناخبين عبروا عن رأيهم السلبي في الأداء الاقتصادي للبلاد، وهذا الرقم ارتفع بشكل كبير عن إحصائيات عام 2013 التي كانت تظهر امتعاض 24% من الشعب، وإحصائيات عام 2014 التي وصلت فيها النسبة إلى 30%، ويبدو أن هذه الأرقام المتضخمة أقنعت المعارضة أن الظروف مواتية لإطلاق حملات انتخابية تركز على الناحية الاقتصادية.
انتخابات تفتقر للطروحات الحديثة
على الرغم من أهمية هذه الانتخابات، بالمقارنة مع الانتخابات السابقة في تركيا، بيد أن هذه الانتخابات ولّدت مقدارًا ضئيلًا من الإثارة، وفشلت في تقديم طروحات مقنعة؛ فجميع الانتخابات التركية منذ عام 2002 كانت تتضمن طروحات تلاقي صدى مهمًا لدى الشعب، وكان حزب العدالة والتنمية هو الأكثر نشاطًا في بناء وتأسيس هذه الطروحات الانتخابية، وبالمقابل، كانت أحزاب المعارضة تمارس رد فعل تجاه طروحات الحزب الحاكم، وتصورها على أنها تهديد للأمة التركية، ونتيجة لذلك، ارتبط البعض شخصيًا بهذه الطروحات وأيدوها، أما البعض الآخر اعتبر هذه الطروحات تهديدًا يحوق به ورفضها بشدة، وبشكل عام، كان لهذه الطروحات والبرامج الانتخابية الحداثية تأثير إيجابي على سلوك الشعب، حيث كانت تدفعهم وتحفزهم للتوجه إلى صناديق الاقتراع، وحقيقة أن متوسط نسبة المشاركة ازداد في كل انتخابات عامة منذ عام 2002 تشهد بدقة على القوة المتزايدة لهذه الطروحات؛ فمتوسط نسبة الإقبال في 2002 و2007 و2011 بلغ على التوالي 79% و84% و87%.
هذه النسبة ذاتها انعكست أيضًا على الانتخابات المحلية، فمنذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002، ازداد متوسط نسبة المشاركة بشكل مطرد في هذه الانتخابات، من 76% في عام 2004، إلى 85% في عام 2009، إلى 89% في عام 2014، ولكن مع ذلك، فإن هذا الاتجاه التصاعدي شهد تحولًا عكسيًا صارخًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 10 أغسطس 2014، التي انخفضت نسبة المشاركة الانتخابية فيها إلى 74%، ومن المرجح أن يستمر هذا الانخفاض النسبي في المشاركة في الانتخابات الحالية، وعلى الرغم من وجود عوامل كثيرة لعبت وتلعب دورًا في تنامي عدم الاهتمام العام النسبي في جولة الانتخابات الراهنة، بيد أن عدم وجود طروحات وبرامج انتخابية قوية ومقنعة من قِبل جميع الأحزاب السياسية، وخاصة من قِبل حزب العدالة والتنمية الحاكم، تلعب دورًا رئيسيًا في بزوغ هذا المشهد الجديد.
من خلال مراجعة الطروحات التي تم استعمالها في الانتخابات العامة السابقة في تركيا، يتوضح لنا بشكل جلي أن الانتخابات العامة الراهنة تفتقر إلى الطروحات التي تنشدها الشريحة الواسعة من الشعب التركي؛ فانتخابات 3 نوفمبر لعام 2002 كان لها تأثير كبير على المشهد السياسي التركي، حيث أظهر طرح هذه الانتخابات أن الشعب رفض الوضع القائم وأسلوب السياسات القديمة، وصوّت لممثلي النمط السياسي الجديد، وبعبارة أخرى، هذه الانتخابات أصبحت رمزًا في معجم انتصارات السياسات الجديدة المتجاوبة مع مطالب الشعب على السياسات القديمة المهملة لهذه المطالب، وعلى إثر هذه الانتخابات دخلت تركيا في الانتخابات العامة في 22 يوليو 2007 بمنافسة بين السياسيين المدنيين وسياسات الجيش حول اختيار رئيس تركيا القادم؛ ففي عام 2007، انتهت ولاية الرئيس التركي العلماني، أحمد نجدت سيزر، بعد سبع سنوات قضاها في مكتب الرئاسة، وتم الرجوع للبرلمان التركي للتصويت لاختيار رئيس جديد للبلاد، وعندما أصبح واضحًا أن وزير الخارجية السابق عبد الله غول، من حزب العدالة والتنمية، سيخلف سيزر فى منصب الرئاسة، تدخل الجيش التركي بإصدار مذكرة تهديد ضد رئاسة أي شخصية تدعي العلمانية بشكل مزيف، وكان هذا التدخل السافر دليلًا دامغًا على نفوذ غير مبرر للجيش على الحياة السياسة المدنية الديمقراطية، وردًا على ذلك، لم يذعن حزب العدالة والتنمية لهذا التهديد، ودعا إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة، خرج فيها منتصرًا، واختير عبد الله غول على إثرها رئيسًا للبلاد، ومن الواضح أن الطرح في هذه الانتخابات أكد أولوية السياسة المدنية والديمقراطية على سياسة وصاية الجيش غير الخاضعة للمساءلة.
بعد خروجه أكثر قوة وثقة بالنفس من هذه الانتخابات، انخرط حزب العدالة والتنمية بشكل نشط في النضال ضد نظام الوصاية البيروقراطية المدنية والعسكرية، الذي أعاق تقدم الديمقراطية والسياسة المدنية في تركيا منذ الانقلاب العسكري في عام 1960، واستمرت المرحلة النشطة من هذا الصراع حتى الاستفتاء على الدستور في عام 2010، والتي وضع فيها حزب العدالة والتنمية التعديلات الدستورية وقاد حملة ترويجها أمام الشعب، الذي وافق عليها بنسبة 58% من الأصوات، وكان يُنظر إلى نتيجة هذا الاستفتاء باعتبارها انتصارًا حاسمًا للسياسات المدنية على نظام الوصاية بقيادة الجيش، ومع هذه الهزيمة للبيروقراطية المدنية والعسكرية، تعززت ثقة حزب العدالة والتنمية بنفسه، ودخل الانتخابات العامة لعام 2011 بوعود تتضمن بناء تركيا الجديدة، عن طريق طروحات تهدف في المقام الأول إلى تفكيك بنية نظام الوصاية المدنية والعسكرية غير الديمقراطي، وعلى الرغم من غموض هذا الطرح وضبابيته، بيد أنه أصبح الطرح الرئيسي للحزب في الانتخابات العامة لعام 2011.
إذن، استطاعت جميع هذه الطروحات الفذة والمتينة التي تم استعمالها في الجولات الانتخابية السابقة، توليد الإثارة بين مؤيدي حزب العدالة والتنمية، والاستياء بين خصومهم، مما دفع الشعب للاتجاه نحو صناديق الاقتراع، لدعم طروحات أحزابهم التي ربطوا أنفسهم بها.
النتائج المحتملة للانتخابات التركية
نتائج الانتخابات الحالية تستند إلى حد كبير على أداء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي فيها، حيث إن فشله أو نجاحه في اجتياز عتبة الـ10% سيؤدي إلى تغيير السيناريوهات بشكل كبير؛ ففي حالة فشله، سيكون حزب العدالة والتنمية المستفيد الأكبر، حيث سيحصل على الغالبية العظمى من المقاعد في البرلمان، وفي هذا السيناريو، سيحصل حزب العدالة والتنمية على مقاعد كافية لتمرير خطة تغيير النظام السياسي في تركيا للاستفتاء الشعبي، وهو ما يتطلب موافقة ما لا يقل عن 330 عضوًا من أصل 550 عضوًا في البرلمان، ولكن حتى إذا حصل هذا السيناريو، من غير المرجح أن يكتسب حزب العدالة والتنمية المقاعد الكافية لإجراء التعديلات الدستورية داخل البرلمان دون استفتاء، الأمر الذي يتطلب موافقة 367 نائبًا.
أما في حالة نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في تخطي عتبة الـ10%، فمن المرجح أن يبقى حزب العدالة والتنمية قادرًا على الحصول على ما يكفي من المقاعد لمواصلة حكم الحزب الواحد، ولكن مع ذلك، فإنه من غير المحتمل أن يحصل على الدعم الانتخابي الكافي لتعديل الدستور داخل البرلمان أو لتمرير هذا المقترح إلى الاستفتاء الشعبي، كما أن أداء حزب الشعوب في الانتخابات، سيؤثر بشكل كبير على مسار عملية السلام الكردية.
إذن، بنود العمل الثلاثة الأساسية المتمثلة بوضع دستورًا جديدًا، وتعديل النظام السياسي التركي، والمضي بعملية السلام الكردية، جميعها تعتمد على نجاح أو فشل حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات القائمة.
خاتمة
النتيجة الانتخابية للانتخابات العامة الحالية في تركيا تحمل في طياتها تأثيرًا هائلًا على بنية الدولة التركية، وتقدم حزب العدالة والتنمية الداخلي، وصياغة دستورًا جديدًا للبلاد، وتغيير النظام السياسي التركي، والمضي بعملية السلام الكردية، ومن هذا المنطلق، نادرًا ما نجد أي انتخابات في أي نظام ديمقراطي تشابه الانتخابات العامة التركية من حيث تداعياتها ونتائجها المحتملة.
ولكن على الرغم من أهمية الانتخابات الحالية، بيد أن كل من الحكومة والمعارضة فشلوا في وضع عناصر الأهمية ضمن صورة أكبر، وصياغتها ضمن طروحات قوية وحقيقة ونابعة من الواقع، بحيث يرتبط بها الشعب ويتردد صداها في حياته العامة؛ فالتأكيد على تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، الذي حظي بتغطية إعلامية مكثفة، يقف كبرنامج وحيد بين العديد من القضايا التي يجب طرحها ضمن أجندة الانتخابات، وهو بهذا المفهوم لا يتلاقى مع الطرح الذي تنشده الشريحة الواسعة من المجتمع، وقد تصبح مناقشة النظام الرئاسي قضية مقنعة لمناشدات المجتمع، عندما يتم تقديمه ضمن طرح مقنع وواسع يتضمن برامج أخرى تتلاقى مع متطلبات الشعب.
المصدر: دراسات الجزيرة