في هذا المقال نناقش النتائج التي حصلت عليها الأحزاب الأربعة وما تعنيه لكل منهما وللشرائح الاجتماعية التي يمثلونها، (يمكن للقارئ أن ينتقل إلى الجزء الأخير والذي يُعَد ملخصًا للمقال كله)، بعد أن حصل حزب العدالة والتنمية في انتخابات السابع من يونيو على 40.8٪ من أصوات الناخبين، في تراجع له لأول مرة كلفه الأغلبية البرلمانية وبالتالي تشكيل الحكومة، حيث انخفضت مقاعده إلى 258 مقعدًا، وهبطت أصواته من حوالي 21 مليون إلى 18.8 مليون ناخب، بينما دخل البرلمان لأول مرة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بستة ملايين صوت تمثل 13٪، ليحصل على 80 مقعدًا، وهو نفس عدد المقاعد الذي حصل عليه حزب الحركة القومية التركي المحافظ، بعد أن قفز من 13٪ في الانتخابات السابقة إلى 16٪، ومن 5.5 إلى 7.5 ملايين صوت، وأخيرًا استقرار أصوات مؤيدي حزب الشعب الجمهوري العلماني عند 15 مليون ناخب، بحوالي 25٪ و132 مقعدًا.
المسلمون المحافظون وشبح الماضي
نائبات بالبرلمان التركي
يخشى الكثيرون الآن، سواء من أنصار الحزب في الداخل أو محبيه في الخارج، أن تكون تلك بداية العودة إلى ما قبل 2002، والكُل في الواقع يتذكر جيدًا كيف كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية حتى وقت قريب، بدءًا من اضطهاد المحجبات وخريجي مدارس الإمام خطيب الدينية، وحتى تعليق القادة العسكريين باستمرار على ما لا يعجبهم في أداء الحكومة، وإغلاق المحكمة الدستورية لأي حزب يُخِل بمبادئ الجمهورية، وهي مخاوف مفهومة بالطبع، ولكن مبالغ فيها نظرًا لعدم واقعية العودة للخلف.
أولًا لأن مؤسسات الدولة تحوّلت بعد رئاسة عبد الله غُل بشكل حيّد كثيرًا من طابعها الأيديولوجي العلماني، أضف لذلك أن هناك مجموعات تغلغلت فيها محاولة تشكيل نخبة جديدة، وأبرزها حركة كولن، وهو ما يعني أن المخاوف قد تكون من تحالف جديد من المحافظين المختلفين مع الحزب والموجودين داخل الدولة، كما حدث بالفعل في أزمة ديسمبر 2013 بين أردوغان وكولن، وسيناريو كهذا إن حدث لن يقوّض من المكتسبات الاجتماعية للمحافظين نظرًا لأن تلك المجموعات لا تتبنى العلمانية، بل هي من داخل الطيف الإسلامي التركي ولكن تختلف سياسيًا مع العدالة والتنمية، وعلاوة على كل ذلك، يبدو بوضوح من النتيجة أن تراجع العدالة لم يكن لحساب العلمانية القديمة ممثلة في حزب الشعب، ولكن لصالح حزب الحركة القومية، وهو حزب محافظ أيضًا وإن لم تكن جذوره إسلامية، ولصالح الحزب الكردي، وهي اتجاهات لا تعادي الشرائح المحافظة والإسلامية بأي حال ولا يمكنها ذلك.
أما الحزب ومستقبله فلا يزال أمرًا مستبعدًا أن يخرج من السلطة، ليس فقط لأن الأحزاب الحالية لا تملك القدرة على تسيير دفة البلاد، ولكن لأن التوسع الكبير على مستوى المؤسسات والاقتصاد والدور الخارجي للدولة التركية اعتمد على مدار العقد المنصرم على كوادر الحزب، وسيكون صعبًا أن ينتقل ذلك الدور بسهولة إلى حزب آخر، وعلى الأرجح فإن أي حزب سيُكتَب له أن يخلف حزب العدالة في الساحة يومًا ما (ما لم تحدث انشقاقات بالحزب)، لن يظهر فجأة، وسيكون ظهوره بطيئًا وطويلًا لكي تستوعب كوادره المنظومة التركية التي اتسعت كثيرًا على كافة الأحزاب الموجودة الآن، بل وربما على الجيش نفسه، والذي لم يعد يستطيع تولي الأمور بسهولة كما في السابق نظرًا لتركيبية النخب السياسية والاقتصادية الموجودة حاليًا، والتي تنتمي لشرائح مختلفة، منها العلماني القديم، ومنها الأناضولي المحافظ، ومنها الإسلامي الصِرف، ومنها حركة كولن، وغيرها.
ركود الحزب العلماني
العلمانيون التقليديون الممثلون في حزب الشعب الجمهوري يواجهون ركودًا كما هو واضح من النتائج، بل وانخفاضًا تدريجيًا في أرصدتهم، فهُم لم يعودوا قادرين على جذب الأتراك، والحزب في الحقيقة لم يستعد عافيته أبدًا منذ وفاة أتاتورك، والذي ارتكزت لشخصه فكرة الحزب بالكامل، فبعد وفاته أوكلت الأمور لعصمت إينونو فقط لأنه كان مساعده الرئيسي، ثم ظهر بولنت أجاويد وأعطى الحزب طابعًا يساريًا في السبعينيات حتى وقع انقلاب 1980، والذي اختفى من بعده اسم الحزب من على الساحة باتجاه أجاويد لحزبه اليساري الخاص، ثم ظهر مجددًا كمعارض ضعيف بعد صعود حزب العدالة ليجذب الطبقات الوسطى التي بدأت تخشى من “تقويض أسس الجمهورية” فقط لا غير، وهي الشريحة المرتكزة في المحافظات الساحلية على المتوسط، وطوال تلك العقود لم ينجح الحزب في إدارة المشهد السياسي.
بصعود حزب الشعوب الديمقراطي كممثل لليسار، يكون حزب الشعب قد تلقى ضربة قوية ستقلل كثيرًا من قدرته على طرح نفسه كحزب معارض قوي أو ممثل ليسار الوسط كما كان يفعل دومًا، بغض النظر عن أن ذلك الطرح أصلًا متناقض مع القومية والعلمانية المتطرفة التي يتبناها الحزب، كما أن نهاية الهوس بقيم الجمهورية أيضًا يجعله بدون أي قيمة على الساحة ولا حلفاء داخل الدولة كما في السابق، وهو ما يعني أن المستقبل لن يحمل أي تقدم للحزب، والذي ستخرج من بينه أيديه شريحة الـ25٪ التي يحصل عليها كل مرة تدريجيًا إما يمينًا لصالح الحركة القومية، أو يسارًا لصالح حزب الشعوب، وهو ما يفسّر لنا انتقاد الحزب لفكرة الانتخابات المبكرة التي ستؤدي على الأرجح للمزيد من تراجعه.
لماذا تقدّم القوميون المحافظون؟
دولت بغشلي زعيم حزب الحركة القومية مع أنصاره
حاليًا، وبين الأتراك الذين لا يميلون للخيار الإسلامي الصريح، والذي يتمثل بالنسبة لهم في حزب العدالة والتنمية، توجد شريحة تميل لليسار وتتعاطف مع القضية الكردية، وقد وجدت ضالتها في حزب الشعوب الديمقراطي بشكل يجعله بالفعل حزبًا تركيًا على مستوى الجمهورية، وندًا قويًا لحزب العدالة والتنمية، وإن كانت ملامحه ومعاقله الكردية ستظل بالطبع حاجزًا أمام قبوله كلاعب “عادي” من كافة الأتراك، على الأقل في المرحلة الراهنة، مما يمنعه من الحصول على نتائج كبيرة.
على الناحية الأخرى، توجد شريحة قومية متحفظة تميل ناحية حزب الحركة القومية، الذي تحول على مدار العقدين الماضيَّين من القومية العرقية العنيفة والعلمانية، كما أراد مؤسسه ألب أرسلان توركش، إلى قومية أكثر اعتدالًا تميل إلى الإسلام التركي المحافظ اجتماعيًا، تحت قيادة دولت بغشلي رئيس الحزب منذ التسعينيات، والحزب بالفعل قد تعرض لانشقاقات سابقًا تمخض عنها ظهور حزب الوحدة الكبرى المحافظ ذي التوجهات الإسلامية الأكثر وضوحًا وإن لم يكن رائجًا في الوقت الحالي، وهو ما يعني أن الحزب قد يلتقى مع حركة كولن من ناحية، بل ويخصم من رصيد العدالة والتنمية.
لعل ذلك يفسّر لنا صعود أرصدة الحركة القومية في هذه الانتخابات، والذي ارتفع نصيبه من الأصوات أحيانًا بنفس النسبة التي انخفضت بها أصوات العدالة في الكثير من الولايات (يمكن متابعة النتائج لكل ولاية هنا)، وهو ما يشير بالفعل إلى أن هبوط أصوات العدالة ليس فقط بسبب صعود الصوت الكردي، ولكن لتحول بعض الشرائح المحافظة ناحية الحركة القومية، مما يجعله مرشحًا للعب دور قوي في المرحلة المقبلة، فالبعض ممن اتجه للحركة القومية يشعر بالغضب من “تساهل” أردوغان مع الأكراد، ويشعر أن هناك تعارضًا في المصالح بين الأكراد والأتراك في هذه اللحظة بعد ما جرى في كوباني.
علاوة على ذلك، وكما أشارت أحد المصادر المقربة من حركة كولن، اعتمدت سياسة الحركة في التصويت هذه المرة، وبعد الافتراق عن العدالة والتنمية، على أن يعطي الأكراد أصواتهم لحزب الشعوب الديمقراطي، في حين يعطي الأتراك أصواتهم للحركة القومية، وبالنظر لكون الحركة بالأساس حركة تركية، فإن ميلها ناحية الحركة القومية يُعَد سببًا آخر في الارتفاع المفاجئ في أصوات الحزب.
الملف الكردي بين أربيل ودياربكر
لطالما كان حزب العدالة راغبًا في المضي قدمًا في عملية السلام عن طريق طرح أربيل كمركز أساسي للقوة الكردية، وكان الدليل على ذلك الاهتمام بتوطيد العلاقات مع مسعود البرزاني على حساب المجموعات الموالية لحزب العمال داخل تركيا، أولًا لأن إنهاء القضية الكردية عبر أربيل يعني أن يظل الحزب محتفظًا بقواعده في الداخل التركي، أي ألا تستطيع القوة الكردية الأولى في المنطقة أن تجد لها موطئ قدم مباشر في تركيا، على عكس حزب العمال وحزب الشعوب، وثانيًا لأن هذا يجعل من شمال العراق شريكًا قريبًا لتركيا لا لإيران على المدى البعيد.
كانت تلك الشراكة على الناحية الأخرى هامة جدًا للبرزاني وحزبه (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، والذي يجد في حزب العمال غريمًا رئيسيًا له ولطموحاته هو الآخر في أن تكون آربيل هي مركز الثقل الكردي، لا ديار بكر، وهو ما يفسر بالطبع التقاء الرجلين في السنوات الأخيرة، والكثير من المصالح المشتركة التي جمعت الحكومة التركية مع حكومة شمال كردستان، لا سيما وأن حزب العمال قد بدأ يتوسع في معاقله بسوريا، مهددًا البشمركة بأن يكون ندًا كرديًا له، وهو ما دفع البشمركة إلى محاولة تسويق دورها على نطاق واسع في مواجهة داعش، للتمتع بمزايا الدعم الدولي بالطبع، ولكن أيضًا لترسيخ تمثيلها للقوة الكردية في المنطقة.
تلقت تلك الاستراتيجية التركية ضربة قاصمة بالطبع مع بدء المسار الذي اتخذته الثورة السورية، وبالتحديد صعود داعش، مما عقّد الحسابات التركية كثيرًا، حيث لم، ولن، تجد تركيا الآن مصلحة مباشرة في ضرب داعش والتي تشكل تهديدًا لحزب العمال، وبالتالي حدث ما حدث في كوباني، واستغل حزب الشعوب، قريب الصلة بحزب العمال، سقوط العدالة والتنمية في نظر غالبية الأكراد بعد تلك الأزمة لشن حملته المضادة على أردوغان وحزبه، والتي نجحت في هذه الانتخابات في إدخاله البرلمان كما رأينا، ورفعت من أرصدة رئيس الحزب صلاح الدين دميرطاش على حساب البرزاني، والذي كانت تهلل له جموع الأكراد في تركيا منذ فترة ليست بعيدة.
رسالة الصندوق
إجمالًا، لا يُعَد تراجع العدالة والتنمية عودة للخلف في تركيا، فمسار ما بعد الأتاتوركية مستمر في مسح الخريطة السياسية القديمة، أولًا بتضاؤل أرصدة الحزب العلماني وتلاشي الأيديولوجية الأتاتوركية تقريبًا من الحوار السياسي الدائر، وثانيًا ببروز منافسين ما كانوا ليلعبوا الأدوار التي يلعبوها الآن منذ سنوات، فالعدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي، واللذين سيشكلان الساحة السياسية في الفترة المقبلة، يمثلان تركيا ما بعد الأتاتوركية بكافة أشكالها، فأحدهم إسلامي الجذور كما نعرف، ويضرب صعوده الأساس العلماني للجمهورية، والآخر كردي ويُنهي صعوده ورواجه بين الليبراليين من الأتراك القومية العرقية كأساس آخر للجمهورية، كما أن شكل حزب الحركة القومية يغيّر من طبيعة القومية التركية، بإكسابها ملمحًا محافظًا قد يتيح لها منافسة العدالة والتنمية، لتصبح القومية التركية ذاتها ما بعد أتاتوركية.
إن لم يكن تراجع العدالة والتنمية عودة للماضي فما هو إذن؟ هو تحوّل في المسيرة نحو المستقبل الذي أراد الحزب أن يرسمه منفردًا، والنتيجة تقول بوضوح أنه لن يتمكن من ذلك، فالجمهورية الجديدة ليست رهن خطط الحزب الذي يجد نفسه الآن في موقف هو الأصعب منذ تأسيسه، بين شقي رحى المحافظين الأتراك الغاضبين والمتجهين نحو الحركة القومية، والأكراد المتجهين نحو حزب الشعوب، والذين خصموا من رصيده حوالي ثلاثة ملايين صوت رفعت من أرصدة حزبيهما في البرلمان، والمفارقة هنا هي أن هذا يجعل حزب العدالة في القلب من النظام السياسي نتيجة المسافة الشاسعة بين الحزب الكردي اليساري والحزب القومي التركي اليميني، ولكنه في نفس الوقت وضعٌ فقد معه الحزب التمتع بمزايا الأغلبية البرلمانية، مما يعني أن الطريق نحو الجمهورية الجديدة لن يكون معبدًا بالورود ورهن إشارة الرئيس كما ظن البعض سابقًا، ولكن نتاج عملية طويلة ومعقدة قد تمتد لما بعد 2023، وسيكون للأكراد والمحافظين القوميين دور مهم فيها.
مع كل ذلك، سيظل حزب العدالة والتنمية هو الحزب المركزي سياسيًا، ولكنه على الأرجح سيحتاج هو نفسه إلى مرحلة تأسيسية ثانية قبل أن يُعيد تأسيس الجمهورية كما يريد، فالحزب، على عكس ما يظن البعض، لم يكن أبدًا مكافئًا لعملية التغيير والتحول من مرحلة لأخرى، بل مجرد ذروة ذلك التحول الحتمي إلى منظومة ما بعد أتاتوركية مع مطلع القرن الجديد، والتي بدأت نواتها منذ نهاية الحرب الباردة كما ذكرنا في استعراضنا لتاريخ تركيا السياسي، وكل ما هنالك أن البعض في الحزب ربما قد اعتقد أن التغيير مرهون بقوة الحزب ليس إلا، في حين أن التغيير ليس مرهونًا بوجود الحزب من عدمه، ولكنه بالطبع سيصبح أكثر تعقيدًا ويجلب سنوات أكثر اضطرابًا بدون الحزب، مما يجعل نتيجة تلك الانتخابات هامة لتذكيره بأن الجمهورية الجديدة تعتمد عليه ولكن ليست ملكًا له، وأن التغيير الذي مثّل هو ذروته يومًا ما، يمكن أن يتجاوزه ما لم يتسوعب رسائل الصندوق.
بالنظر للتصريحات الصادرة عن قيادات الحزب ووزراء الحكومة، والتي قالت أنها فهمت “رسالة الشعب”، وستعيد مراجعة أخطائها، ولما قاله أردوغان من أن حكومة الحزب الواحد أصبحت غير ممكنة، وأن إرادة الشعب فوق كل اعتبار، تبدو الإشارات القادمة من العدالة والتنمية إيجابية بشأن تلقيه الرسالة جيدًا.