شهدت تونس مساء السبت محاولة للتجمّع بالشارع الرئيس للعاصمة تلبية لدعوة كانت قد أطلقتها مجموعة من النشطاء على وسائل للتواصل الاجتماعي للمطالبة بفتح ملف الطاقة والثروات الطبيعية وبالكشف عن حقيقة وجود إخلالات في عقود استغلال الموارد الطبيعية.
قوات الأمن التونسي منعت هذا التجمّع الاحتجاجي وفرقت من جاؤوا للمشاركة فيه بعنف شديد وبهمجيّة خلنا أنها ذهبت ولن تعود، وقد كان واضحًا لكل من تابع تعامل الأمن التونسي مع المحتجّين أن الهدف لم يكن منع الوقفة بقدر ما كان هرسلة من جاؤوا للاحتجاج وتعنيفهم و”تهريس” البعض منهم حتى لا يفكروا في العودة مجددًا للاحتجاج.
العنف البوليسي استهدف بالأساس منظمي هذا التحرّك وقد عاينت بنفسي اعتقال بعضهم مباشرة قبل حتى أن يبدأوا تحركهم عندما كان بعضهم في مقاهي الشارع الرئيس للعاصمة، كما شاهدت إمعانًا في الاعتداء بالعنف على البعض الآخر لكمًا وركلاً وسحلاً، بالإضافة إلى الاعتداء على كل من يحمل كاميرا أو هاتف جوال أو لوحة لمسيّة وافتكاك العديد منها وإيقاف من كانوا يصورون حالات الاعتداء الأمني على المحتجين، كما شاهدت أعوان أمن بصدد إيقاف فتيات محجبات كنّ متوجدات بالشارع ومطالبتهن بفتح هواتفهن الجوالة للتأكد من عدم احتوائها أي صور أو فيديوهات توثق حالات الاعتداء.
الصحفيون كذلك لحقهم نصيب من التضييقات ومن الاعتداءات وسط حساسية مفرطة من كل يحمل ألة تصوير أو كاميرا قبل أن تتصل مصالح وزارة الداخلية وتعتذر للصحفيين الذين وقع الاعتداء عليهم.
المشهد العام في شارع الحبيب بورقيبة مساء السبت كان مشهدًا غير مألوف، على الأقل مقارنة بالسنوات الماضية الثلاث حيث شهدت البلاد موجات احتجاجية عديدة والتي وإن مُنع البعض منها فإن التعامل معها لم يكن بنفس ما شهدناه عشية السبت من عنف مفرط.
منع مسيرة السبت وتفريقها باستعمال العنف الشّديد يأتي بعد يوم فقط من كلمة رئيس الحكومة التونسية الحبيب الصّيد أما البرلمان والتي قال فيها إن “الأمن أساس العمران” في إشارة لتنامي الحركات الاحتجاجية المتواصل في مناطق الجنوب التونسي، منع هذه المسيرة يأتي كذلك بعد تصريح وزير الصناعة التونسي لإحدى الإذاعات المحلية قال فيه إن عددًا من سفراء الدول الأجنبية عبروا له عن قلقهم من حملة المطالبة بالكشف عن حقيقة الثروات الطبيعية والتدقيق في عقودها، تصريح ربما لم يكن على وزير الصناعة أن يدلي به لأنه يثبت على الأقل خضوع الحكومة الحالية لإملاءات عدد من الدول الأجنبية بما يمس السيادة الوطنية واستقلال القرار التونسي، كما يثبت أن موضوع الشفافية في مجال الطاقة لا يقلق فقط بعض دوائر النفوذ الداخلية ولكن أيضًا دوائر أجنبية ربما تكون مستفيدة من حالة الضبابية وضعف الرقابة في موضوع الطاقة، حيث سبق لمدير الشركة التونسية للأنشطة البترولية وهي المؤسسة الرسمية التي تعني بمتابعة نشاط شركات التنقيب والاستخراج في قطاع النفط، سبق له أن قال إن بعض الشركات الأجنبية لا تعتمد عدادات لمراقبة حجم استخراجها وإنتاجها وأن التعامل معها يتم “بالثقة”، تصريح أثار حفيطة المتابعين عامة والمهتمين بملف الطاقة في تونس بشكل خاص.
التعامل المتشنّج مع مسيرة سلميّة من المفترض أنها مرخّصة يثبت أكثر فأكثر التوتر والتوجّس الذي تعيشه حكومة نداء تونس (الحزب الحاكم) وهذا التوتّر له أسبابه المباشرة، إذ يجد الحزب الحاكم نفسه محاصرًا من عدة زوايا أولها تقدم سن رئيس الجمهورية الذي هو رئيس الحزب السابق وما تتناقله الأوساط السياسية في تونس همسًا حول تدهور صحته مما يطرح إمكانية قرب استحقاق رئاسي مبكر لا يبدو حزب النداء متهيئًا كما ينبغي لخوضه خاصة في ظل ما عاشه الحزب من انقسامات حادة في الأشهر الأخيرة وهو نفسه السبب الّذي يجعل الحزب غير قادر على مواجهة استحقاق آخر أكيد هو الانتخابات البلدية المزمع إجراءها في يناير 2016، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عامل الوقت ورصيد الإنجازات الحكومية سنجد أننا تجاوزنا سبعة أشهر منذ إجراء الانتخابات التشريعية وثلاثة أشهر منذ تولي الحكومة مهامها والحصيلة في الغالب الأعم من الحالات أبعد بكثير عن الوعود التي أطلقها حزب النداء في الانتخابات بالإضافة إلى تخبط واضح على مستوى الدبلوماسية التونسية وضعف في التجانس بين مكونات الحكومة ووزرائها جعلت رئيس الحكومة الحبيب الصيد يقول في تصريح غريب إن عددًا من الوزراء والمسؤولين لم يفهموا بعد برنامج الحكومة.
حكومة حزب النداء التي تضم أيضًا حركة النهضة وحزب آفاق والاتحاد الوطني الحر تشكو بدورها تصدّعًا، حيث رفض حزب آفاق مثلاً حضور الندوة المشتركة بين الرباعي الحاكم بعد أن تم الاتفاق على برنامج الندوة وحجز المكان المخصص لها مع العلم أن آفاق تونس سبق ولوّح سرًا وجهرًا برغبته في مغادرة الحكومة والالتحاق بالمعارضة؛ مما تسبب بإلغاء هذه الندوة المشتركة.
المناخ الاجتماعي ظل بدوره متوترًا ولم تنجح الحكومة في وضع حدًا للتدفق المقلق من الاضرابات في قطاعات حساسة كالتعليم والصحة والاتصالات والبريد والنقل، وهو ما وتّر العلاقة بين النقابيين وبين رجال الأعمال؛ مما صعّد وتيرة التراشقات الإعلامية بين الطرفين، هذا فضلاً عن مطالب التنمية والتشغيل الّتي ظلت تقريبًا تراوح مكانها، كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر منظمة نقابية في البلاد يبدو غير قادر الآن – على الأقل – على ضبط قواعده خاصة مع اقتراب موعد مؤتمر المنظمة الشغيلة بما يعنيه ذلك من استحقاق انتخابي داخلي يسعى فيه كل طرف لكسب رضا القواعد العمّالية.
على الجانب الآخر من الصورة تبدو المعارضة في حالة ترقب لتعاطي الحكومة مع مختلف التحديات المطروحة عليها وفي حالة انتظار لخروج أحد أطرافها الأربعة عن النص حتى تعزز حضورها البرلماني، ربما بغية تشكيل تحالفات جديدة.
الوضعية التي يجد فيها الحزب الحاكم وحكومته نفسيهما ربما تفسّر بشكل واضح ضيق صدره بأي شكل احتجاجي وهو ما يفسّر ربما القمع الهمجي الذي عرفته مسيرة السبت.