لم تكن نتائج الانتخابات التي عقدت يوم أمس مفاجئة، بل كانت إحدى الاحتمالات الواردة والتي جاءت نتيجة طبيعية للمعارك السياسية التي خاضتها الأحزاب السياسية وتقييمًا لوضع حزب العدالة والتنمية وأدائه الحكومي في الفترة الماضية.
تعتبر الانتخابات التركية يوم أمس انتصارًا حقيقيًا للديمقراطية، فبرغم المشاحنات التي شهدتها فترة ما قبل الانتخابات إلا أن الانتخابات مرت بسلام وبدون أي خروقات كبيرة، وقد أعلنت جميع الأحزاب قبولهم لنتائج الانتخابات وأشادوا بالعملية الديمقراطية.
حصل حزب العدالة والتنمية على 40.85% من الأصوات بواقع 258 مقعدًا برلمانيًا وهي نسبة أقل بكثير من تلك التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية السابقة والتي حصل خلالها على 326 مقعدًا داخل البرلمان بنسبة تقترب من 50%، بينما حافظ حزب الشعب الجمهوري على نفس النسبة تقريبًا بواقع 24.96% وبعدد مقاعد بلغ 132 مقعدًا، متراجعًا بثلاثة مقاعد فقط عن تلك التي حصل عليها في انتخابات 2011، وارتفعت نسبة أصوات حزب الحركة القومية من 12.98% إلى 16.28% ليحصل بذلك على 80 مقعدًا في البرلمان وهو عدد مقاعد أكثر بـ 27 مقعدًا عن تلك التي حصل عليها في انتخابات 2011، وجاءت المفاجأة الكبيرة في حصول حزب الشعوب الديمقراطي على نسبة 13.11% بعدد مقاعد 80 مقعدًا، وكان حزب السلام والديمقراطية يدخل الانتخابات عن طريق مرشحين مستقلين وحصل في انتخابات 2011 على 36 مقعدًا في البرلمان وتعتبر النسبة التي حصل عليها خلفه حزب الشعوب الديمقراطي نسبة عالية تؤهله ليلعب دورًا مهمًا في المرحلة القادمة.
أعتقد بأن النتائج التي أفرزتها الانتخابات يوم أمس قد تكون أدق النتائج التي تعبر حقيقة عن اتجاهات الشعب التركي وتمثله تمثيلاً واقعيًا؛ ولذلك لا أعتقد أن هناك تراجعًا كبيرًا في الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية، بل أعتقد بأن النتيجة التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية هي نسبة تقترب من التمثيل الصحيح للحزب، هذا بالإضافة إلى عدة عوامل ذاتية أدت إلى التراجع؛ فقد كان حزب العدالة والتنمية يستفيد في الفترة الماضية من غياب التمثيل الحزبي الكردي لينتصر في المناطق الكردية بسبب طريقة حساب الأصوات التي تضع في جعبته ملايين الأصوات للأحزاب التي لم تتجاوز حاجز 10% من مجموع الأصوات.
وكذلك يعتبر الفوز الكبير التي حققه حزب الشعوب الديمقراطي هو فوزًا مستحقًا وعن جدارة نتيجة المجهود الاستثنائي الذي بذله الحزب سواء على مستوى اختيار المرشحين أو البرنامج الانتخابي والحملة الدعائية المميزة التي نفذها، ولكن يجب الإشارة أيضًا أن النسبة التي حاز عليها حزب الشعوب الديمقراطي قد تعتبر أيضًا استثنائية لكون الحزب استفاد من عوامل غير ذاتية للانتصار، أي عدم إمكانية حصول الحزب على هذه النسبة في الوضع الطبيعي ومن هذه العوامل مساندة شرائح كبيرة من المحسوبين على تيارات سياسية مختلفة لحزب الشعوب الديمقراطي والعامل القومي الذي دفعت الأكراد إلى التصويت في مجملهم لحزب الشعوب الديمقراطي والذي من المتوقع أن يتغير مع الزمن وموقف الكثيرين من حزب العدالة والتنمية فجاء تصويتهم لحزب الشعوب الديمقراطي عقابًا لبعض سياسات حزب العدالة والتنمية.
تشكيل الحكومة
لا يستطيع حزب العدالة والتنمية تشكيل الحكومة منفردًا لعدم امتلاكه عدد المقاعد الكافية في البرلمان لذلك، ولكنه وحسب القوانين فإن رئيس الجمهورية سيقوم بتكليف حزب العدالة والتنمية لحيازته على أكبر نسبة مقاعد في البرلمان، وسيسعى حزب العدالة والتنمية إلى عقد تحالف مع الأحزاب لتشكيل الحكومة، إلا أن المشكلة الحقيقة التي قد تواجهه هي رفض الأحزاب الأخرى التحالف معه مما قد يعقد الحالة، حيث صرح صلاح الدين ديمرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي بعد إعلان النتائج بأن الحزب لن يسعى إلى التحالف مع حزب العدالة والتنمية، وفي نفس الوقت فإن رئيس حزب الحركة القومية في تعليق على النتائج قال بأن خريطة التحالف المرجحة هي بين العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي أو بين جميع الأحزاب باستثناء حزب الحركة القومية.
لا يمكن اعتبار ردود الأحزاب على قضية المشاركة في تحالف ائتلافي لتشكيل الحكومة هو أمر نهائي، فبعد أن يقدم حزب العدالة والتنمية إن كان يسعى للتحالف مع أحد الأحزاب عروضه بشأن التحالف الحكومي، ستقوم الأحزاب بتقييم العروض وهي فرصة كبيرة للمناورات السياسية والابتزازات خصوصًا لوجود أكثر من حزب يمتلك القدرة على ابتزاز حزب العدالة والتنمية.
إذا لم يستطع حزب العدالة والتنمية إقناع الأحزاب الأخرى بجدوى مشاركته في حكومة ائتلافية أو رفض الأحزاب الأخرى عروض حزب العدالة والتنمية فإن السيناريوهات ستتجه إما إلى تشكيل حكومة من خارج حزب العدالة والتنمية وهذا يبدو أيضًا احتمالاً صعبًا للغاية أو الاتجاه إلى انتخابات مبكرة بعد 45 يومًا من فشل الأحزاب في تشكيل حكومة يقوم رئيس الجمهورية بالدعوة إلى عقد انتخابات مبكرة.
من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة مناقشات كبيرة بين الأحزاب واجتماعات مكوكية بين الأحزاب لتشكيل الحكومة، حيث سيسعى كل طرف لإظهار نوعًا من المرونة في التعاطي مع الأحداث لعدم تعقيد المشهد السياسي وإحداث فراغ سياسي وهذا يعني أنه من الممكن أن تكون هناك استعراضات وطنية من بعض الأحزاب لمحاولة تجنب حالة العقم السياسي للتحالف مع حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة.
ماذا يعني انتخابات مبكرة؟
إذا فشلت الأحزاب في تشكيل حكومة ائتلافية؛ فإن رئيس الجمهورية سيدعو إلى عقد انتخابات مبكرة لتجاوز حالة غياب السلطة التنفيذية في البلاد والتي ستؤثر بلا شك على الحالة الاقتصادية وربما الأمنية أيضًا، الانتخابات المبكرة قد تكون فرصة لحزب العدالة والتنمية لعقد تغييرات حقيقة سواء على مستوى القيادة والبرنامج أو الخطاب السياسي وإذا ما استطاع حزب العدالة تحقيق هذه التغييرات أو جزئًا منها فقد تكون الانتخابات المبكرة فرصة جيدة لحزب العدالة والتنمية لنيل الثقة الشعبية من جديد.
وتبقى الفترة القادمة فترة حساسة جدًا قد ترسم مستقبل تركيا لسنوات عديدة وسوف يتخلل هذه الفترة مقايضات بين الأحزاب واستعراضات قوة وتصاعد في الخطاب الوطني حتى الوصول إلى تشكيل حكومة ائتلافية أو التسليم بانتخابات مبكرة لحل الفراغ السياسي.