بإسدال الستار على الانتخابات البرلمانية في تركيا والتي جذبت أنظار المتابعين خلال الأيام الماضية، ومع إعلان النتائج طرح تراجع العدالة والتنمية وتحقيقه 40.8% من الأصوات الانتخابية خلافًا لما أشارت إليه استطلاعات الرأى العام من تحقيق الحزب نسبة تتراوح بين 46-48% العديد من التساؤلات حول أسباب التراجع رغم ما قدمه الحزب للمواطن التركي من إنجازات اقتصادية واستقرار سياسي منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 2002 وحول مستقبل الحياة السياسية التركية، فيما يلي نحاول رصد أسباب هذا التراجع :
1. خسارة أصوات الأكراد
يعتبر السبب الأهم في تراجع العدالة والتنمية هو تحول الغالبية العظمى من الصوت الكردي إلى حزب الشعوب الديموقراطي الذي حقق نجاحًا تاريخيًا بتجاوز الحاجز الانتخابي ودخول البرلمان كأول حزب كردي يخوض تلك المغامرة التي أظهرت نتيجتها أنها مغامرة محسوبة وتتسم بالشجاعة؛ مما أوصل 80 نائبًا من الحزب للبرلمان وهو رقم يقترب من ثلاثة أضعاف عدد الأعضاء المستقلين الذين شكلوا كتلة الحزب في الانتخابات السابقة.
نجاح الحزب الكردي عبر عن حالة عالية من الانخراط السياسي للأكراد؛ ما يمهد لإنهاء تاريخ دموي من الصراع بينهم وبين الدولة ونجاح كبير لمشروع المصالحة الذي هو في الحقيقة أحد أهم مشاريع حكومة العدالة والتنمية في باب السلم الأهلي، رغم حصول العدالة والتنمية على النسبة الأكبر من أصوات الاكراد في الماضي إلا أنه وكتعبير عن تقدم مشروع المصالحة ذهبت هذه الأصوات لحزب الشعوب الذي أجاد اختيار مرشحيه والقيام بحملات دعائية ناجحة، كما طرح برنامجًا انتخابيًا استطاع من خلاله جذب تلك الكتلة الكبيرة وهي الضريبة التي دفعها العدالة والتنمية بتراجعه في نتائج الانتخابات مقابل تقدم مشروع المصالحة وانخراط الأكراد في العملية السياسية.
2. غياب أردوغان عن زعامة الحزب
خاض أردوغان انتخابات رئاسية منذ أشهر قليلة واستماتت أحزاب المعارضة الثلاثة في محاولات إسقاطه فدفع حزبا الشعب والحركة القومية بأكمل الدين إحسان أوغلو، حيث اعتبر الرجل المناسب لمواجهة أردوغان من عدة نواحٍ، كما خاض زعيم حزب الشعوب صلاح الدين دميرطاش الانتخابات فيما بدا أنها بروفة للتعرف على قدرات الحزب الحقيقية ومدى الإجماع الكردى عليه استعدادًا للانتخابات البرلمانية إلا أن أردوغان استطاع الفوز بـ 52% ومن الجولة الأولى؛ ما يعنى أن الرجل استطاع لمرات متتالية مستخدمًا قدرات حزبه بالإضافة إلى شخصيته الكاريزمية في إقناع الناخبين بمشروعه رغم التحديات الصعبة التي واجهها، لكن طرحه هذه المرة مشروع الدستور الرئاسي ووضعه على رأس أولويات الحزب ثم تركه لأوغلو للترويج له في أول اختبار حقيقي لوزير الخارجية السابق مثل نقطة ضعف أظهرتها النتائج وخاصة التراجع الكبير للحزب في إسطنبول المدينة التي ينتمى لها أردوغان حيث خسر بها 9 نقاط كاملة؛ ما يعني أن أوغلو فشل في إقناع المترددين بانتخاب الحزب؛ مما كان سببًا في تراجع نتيجة الحزب الأمر الذي فتح بابًا واسعًا للمقارنة بين الرجلين، وهو ما يطرح تساؤلات عن قدرة أوغلو في خلافة أردوغان في قيادة الحزب وعن مستقبله السياسي كذلك.
3. تراجع الاقتصاد في البرنامج الانتخابي
أخيرًا أدى تراجع الجانب الاقتصادي في برنامج الحزب على حساب إبراز قضايا سياسية، إلى غياب الدافع عند البعض لانتخاب الحزب خاصة لدى المترددين، كما أن ظهور الجانب الاقتصادي على رأس أولويات أحزاب المعارضة مثل أمرًا إيجابيًا ذلك أنها تخلت عن الاكتفاء بما يسمى معاداة الأردوغانية بما يعنى أدراكها أن ما تحقق خلال العشر سنوات الأخيرة أصبح من الصعب تجاوزه.
كيف تعامل العدالة والتنمية مع تراجع نسبته؟
جاء التعامل الهادئ من جانب الحزب وقياداته معبرًا عن ثقافة الديموقراطية التي يؤمن بها، فاحتفل أوغلو بالنتيجة وحاول إبراز النقاط الإيجابية التي حققها الحزب ومنها صدارة الانتخابات لرابع مرة على التوالي، وهي أول مرة في تاريخ الجمهورية، من جانبه أشار أحد وزراء الحزب في تصريح هام إلى أن رسالة الناخبين وصلت للعدالة والتنمية وأن الحزب بصدد تحليل النتائج والوقوف على رسائل الشعب منها، كما أعلى الرئيس أردوغان من إرادة الشعب واعتبر أن نتائج الانتخابات تشير لرغبة الناخبين في تشكيل حكومة ائتلافية ودعا الأحزاب أن تتحلى بالمسؤولية تجاه هذا الأمر، كما صدرت تصريحات عن قادة في الحزب تنظر بشكل إيجابى لتقدم حزب الشعوب الكردي منها حديث نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش حول كون الحزب الكردي هو الحصان الرابح، وأيضًا حديث مسؤول الحزب في ديار بكر (معقل الأكراد) بأن نجاح الحزب الكردي هو نجاح لمشروع العدالة والتنمية بشأن انخراط الأكراد في الحياة السياسية وأشار إلى عزم العدالة والتنمية على المضي قدمًا في استكمال مشروع المصالحة.
مستقبل المشهد السياسي التركي
رسمت هذه الانتخابات مشهد سياسي جديد تمثل في ثلاثة مظاهر أساسية هي تراجع العدالة والتنمية وصعود حزب الشعوب، وثبات نسبي لحزبي الشعب والحركة القومية، ما يجعلنا نتوقع أنه على المدى القريب فالاحتمالات الأقرب للحدوث على الترتيب هي ائتلاف حكومى بين العدالة والتنمية والحركة القومية أو فشل الأحزاب في الوصول لتشكيل ائتلاف حكومي ومن ثم الذهاب لانتخابات جديدة أو نجاح الأحزاب الثلاثة المعارضة في تشكيل حكومة ائتلافية بدون العدالة والتنمية وهو خيار وإن وجد نظريًا إلا أنه مستبعد سياسيًا وبفرض حدوثه فمن المتوقع ألا يكون عمرها طويلاً ومن ثم فنكون أمام انتخابات جديدة أيضًا.
وبالتالى فالعدالة والتنمية يواجه تحديًا آنيًا يتمثل في إقناع أحد الأحزاب الثلاثة بالمشاركة في الحكومة وهو أمر ليس بالسهل خاصة بعد تكرار حزب الشعوب رفضه المشاركة واستبعاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلى أن يشارك حزبه في حكومة ائتلاف في تصريحات بدا أنها أولية؛ ما يتطلب جهدًا إضافيًا في تكثيف المشاورات مع الأحزاب الثلاثة خلال الأيام القادمة، ويبدو أن حزب الحركة القومية هو الأقرب للمشاركة في ائتلاف لعدة أسباب على رأسها تنامي مخاوفه من التقدم الذي أحرزه خصمه حزب الشعوب ومن المعروف أن الحركة القومية يعادي مشروع المصالحة مع الأكراد .
كذلك يواجه العدالة والتنمية تحديات هامة في حال خوض انتخابات جديدة يأتي على رأسها إعادة الثقة للمترددين وتقليل المخاوف من مشروع الدستور الجديد إما بتعديله أو تأجيل طرحه إلى أجل غير مسمى، كما أنه يواجه تحديًا هامًا حول محاولة جذب الأصوات الكردية إليه مرة أخرى، ومن غير المستبعد أن يتراجع أوغلو عن قيادة الحزب ويعلن تحمله المسؤولية عن عدم نجاحه في تشكيل الحكومة.
في المقابل ينبغى الإشارة إلى أن حزب الشعوب يمتلك فرصة ثمينة في تثبيت مكانته بين الأحزاب الكبيرة بل وفي حال جاء أدائه على قدر برنامجه الانتخابي ونجح في تنفيذ وعوده في الدفاع عن حقوق المهمشين فربما يصبح رقمًا صعبًا في خريطة الأحزاب السياسية ويحرز تقدمًا عما نجح في تحقيقه وهو ما سيشكل تهديدًا للعدالة والتنمية بطبيعة الحال.