“رئيس الجمهورية لا يتدخل في تشكيل الحكومة”، بهذه الكلمات الواثقة عبّر صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عن رفضه للجهود التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للوصول لحكومة ائتلافية بين العدالة والتنمية وأحد الحزبين؛ الشعب الجمهوري العلماني صاحب المركز الثاني، والحركة القومية اليميني صاحب المركز الثالث، مما يشي ربما بغضبه من المفاوضات الجارية، والتي تركته وحيدًا ومعزولًا سياسيًا رُغم الانتصار النسبي الذي حققه بدخوله للبرلمان كأول حزب كردي في تاريخ الجمهورية.
لماذا يتجه حزب العدالة إلى الحزبين التقليديَّين وليس الحزب الكردي رُغم أن سياساته على مدار العقد الماضي هي التي سمحت للأخير بالوصول إلى ما وصل إليه؟ ولماذا لا يشكل ائتلافًا معه يقوم فيه بتحقيق شوط كبير نحو عملية السلام التي بدأها مع الأكراد؟ لأسباب كثيرة، أبرزها الخلافات بين الحزبين حول ماهية السلام، والذي رسم خارطته حزب العدالة مع حكومة كردستان بشمال العراق قبل أن تعقّد الأزمة السورية حساباتهما، وثانيًا لأن دميرطاش يناصب الحزب، وأردوغان شخصيًا، العداء، كما تشي بذلك حملته الانتخابية، والتي حاول فيها جذب الأتراك ذوي الميول اليسارية، وبالتالي وضع نفسه في مواجهة مفتوحة مع الحكومة.
تباعًا، نشرت صحيفة يني شفق المحسوبة على الحكومة التركية، والقريبة من حزب العدالة والتنمية، خبرًا منذ يومين على صفحتها الرئيسية الإلكترونية تقول فيه أن الأولوية في الوقت الراهن هي لتشكيل الحكومة، وقد رافقت الخبر صورة لرئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو مع زعيم حزب الحركة القومية دولت بغشلي، في حين أشار متن الخبر إلى أن احتمال تشكيل ائتلاف بين الحزبين هو 70٪، وأن خيارات الحزب الآن تتجه لبغشلي بشكل أساسي، وإن لم يسقط بعد حزب الشعب الجمهوري من حسابات الائتلاف، وهو ما رد عليه بغشلي بأنه مرهون بعدم تجاوز خطوط حزبه الحمراء.
أردوغان مع دنير بايقال رئيس حزب الشعب السابق
من ناحية أخرى، انتشرت أخبار عن مفاوضات بين الشعب الجمهوري والعدالة والتنمية، حيث عقد أردوغان لقاءً مع دنيز بايقال، رئيس الحزب السابق، لمناقشة إمكانية توليه منصب المتحدث باسم البرلمان، لتكون تلك أول مرة يحصل فيها شخص خارج حزب العدالة على ذلك المنصب منذ دخوله للسلطة عام 2002، كما تلى ذلك اجتماع بين أردوغان ورئيس حزب الشعب الحالي كمال قلجدار أوغلو قال فيها الأخير أن الخلافات مع أردوغان لا تزال موجودة، ولكن الحزب في النهاية مهتم بإنقاذ سفينة الوطن من عدم الاستقرار.
السؤال الآن، ما هي فُرَص تشكيل ائتلاف بين العدالة والتنمية وأي من هذين الحزبين؟ وما هي تبعات ذلك على الحزب وعلى الساحة السياسية التركية بشكل عام سلبًا وإيجابًا؟
مميزات ومساويء الائتلاف مع الحركة القومية
هو الحزب الوحيد الباقي من مرحلة التسعينيات بعد صعوده في تلك الفترة بقيادة رئيسه دولت بغشلي، والذي وضع الحزب في موقع معتدل بعد أن كان يتبنى القومية العرقية المتطرفة والعنيفة بقيادة الجنرال السابق ألب أرسلان توركش (كما تشي مشاركته في عمليات العنف بالسبعينيات ضد اليسار والمجموعات الكردية)، ليصبح اليوم أحد أبرز الأحزاب التركية، وأقرب للشرائح المحافظة بقلب الأناضول حيث تتركز قواعده، ويبتعد عن المجموعات العنيفة التي نجح بغشلي في تقليل نفوذها في الحزب لصالح قومية أكثر اهتمامًا بالثقافة بدلًا من العرق التركي، وإن كان مفهومه عن الأمة التركية لا يزال ضبابيًا ويتأرجح بين هذا وذاك.
إذا ما اختار حزب العدالة الائتلاف مع الحركة القومية، فإنه سيتمتع بحكومة أكثر تناغمًا نظرًا لتقاطع الحزبين في ملامح كثيرة أبرزها قواعدهما الأناضولية المحافظة، فبرنامج حزب الحركة هو الوحيد الذي يذكر الإسلام وأهمية الإيمان في تشكيل الفرد، وأهمية تعزيز دور تركيا بين الدول التركية (دول آسيا الوسطى) وبلدان العالم الإسلامي، أضف إلى ذلك تقارب الرؤى الاقتصادية التي تحبذ الاقتصاد المفتوح نظرًا لاعتماد الحزبين على القوى الاقتصادية المحافظة التي حُرمَت من دورها في السابق بدعوى مركزية الدولة التي رفعها العلمانيون لتهميشهم، مما يجعل السياسات الليبرالية اقتصاديًا عاملًا مشتركًا.
إحدى أنصار الحركة القومية تلوح بإشارة الذئب المعروفة لدى القوميين
من ناحية أخرى، سيكون الائتلاف مع الحركة القومية تجاوبًا من الحزب مع الأصوات التي خسرها بين الأتراك، والتي ذهب معظمها إلى الحركة القومية، وإقرارًا بنتيجة الانتخابات التي تشي ربما برغبة الناخب التركي في الاتجاه نحو اليمين القومي لأسباب كثيرة، أبرزها ما يعتقده بعض المحافظين من أن أردوغان قد فتح الباب بشكل أكثر من اللازم للأكراد.
رُغم منطقية الاتجاه نحو الحركة القومية، إلا أن هناك مساوئ عديدة للائتلاف معه، أبرزها تعقيد الملف الكردي، نظرًا لرفض الحزب لأي مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، ورؤيته القومية لماهية الأمة التركية، وإن كان الحزب كما ذكرنا قد قلل من تطرفه في تعريف القومية، فإن برنامجه لا يزال يتحدث بالأساس عن “الأمة التركية”، لا مواطني الجمهورية التركية كما يفعل العدالة والتنمية، وهو ما يعني أن الاتجاه للحركة القومية سيكون ضربة قاصمة للرؤية التي وضعها أحمد داوود أوغلو في ميثاق 2023، والتي فككت تمامًا فكرة القومية التركية لصالح تعددية ثقافة تقوم عليها الجمهورية التركية.
تباعًا، سيكون الائتلاف مع الحركة القومية ضربة، إن لم يكن نهاية، لعملية السلام مع الأكراد، وقد يكلّف الحزب الكثير في الولايات الكردية، والتي تشعر أصلًا بالغضب تجاه حزب العدالة نتيجة مواقفه في كوباني، مما كلف الحزب مئات الآلاف من الأصوات هناك، وسيزداد غضبها وابتعادها عن الحزب بالطبع إذا ما اتجه إلى حزب قومي تركي ويميني بهذا الشكل، لا سيما وأن له تاريخ في ممارسة العنف ضد المجموعات الكردية وازدراء الثقافة الكردية.
علاوة على ذلك، ورُغم أن حكومة كتلك ستكون أكثر تناغمًا، إلا أنها ستكون أقل استقرارًا نتيجة ارتكازها لليمين وابتعادها عن الوسط الذي طالما مثله حزب العدالة، كما أن الطابع اليميني الواضح للحكومة سيخلق معارضة قوية بين حزب الشعب العلماني، والذي يعرف نفسه كحزب يسار الوسط، وحزب الشعوب الكردي اليساري، وبالنظر لأن حزب الحركة هو الحزب الثالث لا الثاني، وأن عدد المقاعد التي حصل عليها (وهي 80 مقعدًا) مضافة إلى مقاعد حزب العدالة (258) لا تشكل أغلبية الثلثين، سيعاني هكذا ائتلاف كثيرًا في البرلمان من عدم القدرة على تمرير التشريعات التي يريدها.
مميزات ومساوئ الائتلاف مع الشعب الجمهوري
الحزب غني عن التعريف في تركيا، فقد أسسه أتاتورك مؤسس الجمهورية، وطالما كان يعتبر نفسه حارسًا للعلمانية، بل وأحيانًا ما احتل موقعًا غير مفهوم بين كونه حزبًا وكونه ممثلًا أوحدًا للقيم الأتاتوركية بشكل أعطاه نفوذًا داخل مؤسسات الدولة، بيد أنه الآن، وبعد أكثر من عقد من حُكم العدالة والتنمية ونهاية سلطان الحرس العلماني القديم، أصبح مجرد حزبًا معارضًا، كما أن واقع المجتمع التركي حاليًا قد فرض عليه أجندة مختلفة بديلة للعلمانية المتطرفة، أكثر ليبرالية، وأكثر اهتمامًا بالحريات، ولا يدلل على ذلك أكثر من ابتعاد الحزب عن معاداة الحجاب والمحجبات وقبوله للكثير من السمات الدينية للثقافة التركية.
إذا ما اتجه العدالة والتنمية إلى حزب الشعب الجمهوري، فإن الميزة الرئيسية التي سيتمتع بها هي خلق ائتلاف مستقر نتيجة حصول الأخير على 132 مقعدًا، مما يعني أن مجموع مقاعد الائتلاف في البرلمان سيكون 390، ليتمكن من تمرير أي تشريعات يريدها، كما أن المعارضة ستكون ضعيفة للغاية، بأقل من ثُلث المقاعد، وبانقسام شديد بين الحركة القومية اليميني والشعوب الكردي اليساري، واللذين يصبح تعاونهما في معظم الملفات شبه مستحيل، فالحركة القومية من الصعب أن يضع يده في يد حزب يمثل الجناح السياسي للعمال الكردستاني بشكل ما، كما أن ملفات أخرى مثل الاقتصاد ودور الدولة تفصل بينهما بشكل واضح.
بالطبع، سيكون الاتجاه إلى حزب الشعب الجمهوري تعزيز للوسط السياسي، وابتعاد عن أقصى اليمين واليسار أيديولوجيًا، وكذلك عن القطبين القوميَّين التركي والكردي، واللذين يمثلهما على التوالي حزب الحركة وحزب الشعوب، ولذلك سيساعد كثيرًا في المضي قدمًا بحل المسألة الكردية نظرًا لتقاطع الآراء بين حزبي العدالة والشعب بشكل أكبر فيما يخص هذا الملف، على عكس الحزب القومي.
على صعيد آخر، ستكون المشكلة في ائتلاف كهذا أنه يجمع بين الحزبين اللذين هبطت أرصدتهما في الانتخابات، مما يوحي نوعًا ما بعدم احترام رأي الناخب، وإن كان البعض يقول أن المهم في النهاية هو نسبة كل منهما من الأصوات، والتي تشكل غالبية مطلقة (41٪ للعدالة +25٪ للشعب الجمهوري) وليس مقدار صعودها وهبوطها، أضف لذلك أن تشكيل حكومة مستقرة يجب أن يوضع في الاعتبار وليس فقط جلب الأحزاب الصاعدة غير القادرة على تسيير الحكومة، وفي تلك المرحلة يقول هؤلاء أنه من الأفضل أن يتجه العدالة للشعب الجمهوري نظرًا لخبرته في الوصول للسلطة وقيادة الائتلافات.
***
كمال قجدار أوغلو، نائب رئيس الوزراء إذا نجح في الائتلاف بالفعل، مع رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو
مع من يشكل العدالة والتنمية الحكومة إذن؟ تبدو الإشارات في أغلبها نحو الشعب الجمهوري نظرًا لتمسّك الحكومة بعملية السلام مع الأكراد، ورغبتها في تعزيز شرعية الحزب في الوسط من الطيف السياسي، بدلًا من الاعتماد على حزب يتخندق في اليمين، ويخلق ائتلافًا غير مستقر وبدون أغلبية الثلثين، وإن كان البعض يقول أن ائتلافًا بين العدالة وحزب علماني أمر مضحك، فإن الأيديولوجية العلمانية التي يمثلها حزب الشعب في الحقيقة لا يمكن أن تعود بتركيا للخلف، والحزب نفسه يعمل بدأب منذ سنوات على إعادة تعريفها بشكل يحترم الأغلبية المحافظة، ولا يدلل على ذلك أكثر من طرحه مرشح إسلامي في انتخابات الرئاسة.
هل ستكون تلك أول مرة يشارك فيها إسلاميون وعلمانيون في حكومة واحدة كما يظن البعض؟ في الحقيقة لا، فالتاريخ السياسي لتركيا يقول أن حزب السلامة المللي، والذي شكله نجم الدين أربكان في السبعينيات، شارك لأول مرة في ائتلاف عام 1974 مع حزب الشعب الجمهوري العلماني بقيادة بولنت أجاويد آنذاك، وقد استمر الائتلاف لعام واحد فقط نظرًا لاضطراب الأوضاع السياسية حينها كما تشي كافة الحكومات الائتلافية التركية والتي لم يستمر أغلبها أكثر من عامين.
لم يكن غريبًا إذن أن يصرّح أحمد داوود أغلو في اجتماعه مع قيادات العدالة والتنمية، طبقًا للمصادر الصحافية المقربة من الحزب، بأن الحزب سيكون أكثر انسجامًا في ائتلاف مع حزب الحركة القومية نتيجة تقارب قواعد الحزبين الانتخابية، ولكنه سيعمل بشكل أفضل مع حزب الشعب الجمهوري، أولًا لأن الأخير أكثر تحمّسًا لدخول الحكومة، وثانيًا لأن الحزب العلماني سيساعد العدالة والتنمية في الوصول لحلول لمشاكل معيّنة، في إشارة واضحة بالطبع إلى المسألة الكردية، والتي يبدو أن الحزب لا يمكنه التنازل عنها.