عشية الانتخابات التركية، خرج المعلقون على المشهد التركي وعلى رأسهم رئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو ليعلنوا أن المنتصر الحقيقي في انتخابات خسرت فيها كل الأحزاب (ربما سوى حزب الشعوب الكردي) هي الديموقراطية وإرادة الشعب التي فرضت نفسها، تعليقات يبدو أنها أتت في سياق التغطية على خيبة الآمال التي لم يصطدم بها العدالة والتنمية وحده وإن كان قد حظي منها بالحظ الأوفر، حيث شاركته أحزاب المعارضة التي لم تستطع أن تحصل على ما يؤهلها لتصدر المشهد منفردة، أو للتغطية على مشهد باهت وماسخ لا يمكن أن تستفيد منه تركيا الدولة والمجتمع إذا ما نظرنا بواقعية إلى برلمان لا يستطيع أن يشكل ائتلافًا ولو هشًا لقيادة البلاد بعدما حققت في العقد الأخير ما لم تحققه على مدى قرن من الزمان.
نجح المجتمع التركي في أن يقدم عملية انتخابية راقية تليق بمكانته الحضارية التي وصل إليها اليوم بعد عقود من الاضطرابات والنضال من أجل تركيا الجديدة، لكنه كشف في الوقت نفسه عن حالة الاستقطاب الحاد التي تكاد تعصف بإنجازاته ونضاله الطويل، نجح المجتمع التركي في أن يستعيد لحمته الوطنية التي مزقتها الدولة المركزية بنخبتها المتعالية التي همشت الأقاليم والأطراف، ولم تكتف باحتكار السلطة بل حاولت فرض رؤيتها الكمالية المتطرفة في علمانيتها وقوميتها ونزوعها للتغريب القسري، على المجتمع، حين نجح في صناعة نخبة جديدة من أبناء الشعب نازعت النخبة القديمة مواقعها ونجحت في إدارة البلاد عبر سنوات حققت فيها تركيا نهضة كبرى تعترف بها حتى المعارضة التركية، لكنه فشل مع ذلك في إدارة خلافات النخبة القديمة والجديدة وصهرهما تحت سقف جديد من الثوابت يتسع ليتجاوز ضيق الكمالية التي أضحت عنصرًا من عناصر الاستقطاب لا مظلة جامعة للفرقاء من السياسيين الأتراك.
وإذا كان العدالة والتنمية قد نجح في تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية ضخمة إلا أن الانتخابات الأخيرة قد أتت لتلفت نظره بوضوح إلى أن كل ذلك لا يكفي لكي يحتفظ بالسلطة أو لكي يسلمها لخصمه على أمل استلامها في إطار تداول سلس للسلطة كما في النموذج الأنجلوساكسوني بشقيه الإنجليزي والأمريكي، يقف مشروع تركيا الجديدة 2023 بكل ما يحمله من أحلام كامنة أو ظاهرة لدى نخبة العدالة والتنمية بجذورها الإسلامية، إزاء مجتمع مستقطب يرفض ما يقارب نصفه أن يتخلى عن الكمالية أو عن قومية علمانية كردية ليست أقل منها تطرفًا، كانت القيادة التاريخية للعدالة والتنمية متمثلة في شخص الرئيس رجب طيب أردوغان على وعي بتلك الحقيقة؛ مما دفعها إلى طرح النظام الرئاسي كبديل يمكن أن يكون حلاً لتلك الحالة من الاستقطاب العارم؛ لكن هذا الحل لن يكون في الأغلب قادرًا على الاستمرار في مواجهة ذلك الاستقطاب بعد رحيل شخص أردوغان بسماته الاستثنائية، هذا إذا قبل المجتمع المستقطب سلفًا.
لم تكن الانتخابات الأخيرة عرسًا ديموقراطيًا بقدر ما كانت تعبيرًا عن أزمة تاريخية تواجهها الشعوب المسلمة التي تعيش في عصر الحداثة، وعلى الرغم من أنه نجح إلى حد كبير في التخفيف من آثار تلك الأزمة التي لا زالت ترزح تحتها كثير من المجتمعات الإسلامية الأخرى، إلا أنه لا زال لم يقدم الإجابة الحاسمة، فبينما يدرك المجتمع التركي أن الكمالية وعلى الرغم من كل مساوئها قد حققت له نقلة لا بد منها إلى عصر الحداثة، يقطن الوعي التركي كذلك أن تركيا لم تعد تلك الدولة القوية ذات “العمق الإستراتيجي” إلا بعدما استعادت الصلة بهويتها التاريخية والدينية، وهنا تتولد الحيرة الوجودية ويقف الحصان أمام العربة.
تحتوي هذه الأزمة كل ما جاءت تلك التعليقات الباهتة في إطاره من تحليلات تعزو تراجع العدالة والتنمية إلى الطموحات السلطانية لقيادته التاريخية متمثلة في أردوغان وممارساته اللاديموقراطية وقضايا الفساد التي طالته وقيادات مقربة منه؛ حيث إن مثل تلك التحليلات كان من المرجح أنها ستتلاشى إذا ما نزعت من سياق التلاسن الأيديولوجي المتبادل بين القطبين المتصارعين الذي فسر طرفه الآخر كل تلك الاتهامات بالزيارات والعلاقات المشبوهة للمعارضين الألداء لأردوغان والتي رأوا فيها مؤامرة إقليمية وربما دولية ضد مشروع تركيا الجديدة، تبدو كل تلك التحليلات محتملة ولكنها جزئية ومتضمنة في ذلك الجدل الأصلي الذي أشرنا إليه.
لا يبدو الحديث عن إسلامية العدالة والتنمية من عدمها والذي قد يثار في وجه تلك القراءة إلا سيرًا في الطرق المسدودة نحو تشقيق الكلام لإرضاء نزوعات نفسية واجتماعية إلى نفي ذلك الجدل بإنكاره والفرار من مسؤولياته وطرح أجوبة جديدة أكثر أريحية من تلك المعضلة التاريخية كالحديث عن الإيمان الحقيقي بالديموقراطية أو الرشاد في إدارة الصراع السياسي، وهي أمور، ربما يكون من بين ما قالته الانتخابات التركية الأخيرة، أن العدالة والتنمية قد ضرب فيها المثال الواقعي الذي لا تكاد تبلغه أحاديث المحللين.
عود على بدء؛ وضعت الانتخابات الأخيرة حزب العدالة والتنمية أمام حقيقة أن الاقتصاد وحده لا يكفي، وأن دور المثقفين قد أتى بجوار الساسة والاقتصاديين في تحقيق حلم تركيا الجديدة، ولتحويل تركيا إلى نموذج حقيقي وخطاب ملهم لكل الشعوب المسلمة يصيغ الإجابة التركية الحاسمة على المعضلة التاريخية للشعوب المسلمة.